اختارت ميتشي بيه موقعا مميزا على نهر ساراواك مقابل مبنى برلمان الولاية على الضفة المقابلة، فهي تجيد الغناء بلغات محلية مختلفة، كيف لا وقد نشأت في مدينة كوتشينغ عاصمة التنوع العرقي في ماليزيا.

ويصعب تمييز انتمائها العرقي أو الديني من اسمها، فهي ملايوية مسلمة تعيش مع جيران ينتمون إلى قرابة 7 مجموعات عرقية استوطنت ولاية ساراواك شرقي ماليزيا منذ آلاف السنين، وتفرع منها عشرات العرقيات.

لحْن صوتها يستوقف المارة من سياح أجانب ومحليين، فهي تغني بلغات محلية وأحيانا أجنبية، أما المستمعون المستمتعون بأدائها من مختلف الألوان والأطياف والجنسيات، فأشك بمعرفتهم باللغة التي ترنو بها، وكثيرا ما ينتظرون في مجموعات أو فرادى انتهاء مقطع غنائي، إما وقوفا أو جلوسا على جدار ضفة النهر.

وبمجرد أن ميزت ميتشي بيه ملامحي العربية، عرضت عليّ الغناء باللغة العربية، فاستحسنت ذلك، مع اعتذارها مسبقا إن كان الأداء ليس كما أتوقع، فبدأت بأغنية الطفولة الحزينة التي تحاكي الواقع الفلسطيني: اعطونا الطفولة، اعطونا السلام، أرضي محروقة، ثم اغرورقت عيونها ونزلت دموعها ودموع مشاهدين على وقع لحن رائع حزين، ولعلي كنت الوحيد من بين الحضور الذي تأثر بكلمات عربية مكسرة تروي قصة أرض مسروقة وشعب مقهور.

محطات استعمارية

غير بعيد عن منصة ميتشي المتنقلة يعطي مبنى تاريخي صغير ظهره للنهر، في مقابل بوابة مبنى المحكمة القديم، وكان بمثابة قلعة صغيرة استعملتها سلطات الاستعمار البريطاني مركز توقيف لمن تدينهم المحكمة تمهيدا لنقلهم إلى السجن، وكلتاهما: القلعة والمحكمة، خرجتا من الخدمة وحُولا إلى مطاعم، ومراكز خدمات سياحية.

يشير التأريخ الموسوم فوق عتبة البوابة الرئيسية للقلعة، مركز التوقيف السابق، أنها بنيت عام 1879، وهو أوج الاستعمار البريطاني الذي كان يتمدد في جزيرة بورنيو، حيث تقع ولايتا ساراواك وصباح اللتان تشكلان القسم الشرقي من ماليزيا اليوم إلى جانب سلطنة بروناي دار السلام ومحافظة كالمنتان الإندونيسية.

وفي داخل المطعم أو السجن أو القلعة، كما يروق لكل زائر أن يطلق عليه، تلاحظ تنوع سِحنات وجوه العاملات من مختلف عرقيات أهل المنطقة، وهن يقدمن مأكولات غربية مع ابتسامات، بينما تستقبل الملايوية المسلمة نور شفيقة الزوار عند باب القلعة الضيق الوحيد، وخلفها صورة لتمثال بوذا، وتقول إن الصور تمثل التنوع الديني للمدينة العريقة وجزء من تراثها.

يطلق على القلعة اسم مارغاريتا نسبة إلى راني مارغاريت زوجة الحاكم البريطاني تشارلز بروك الذي توفي عام 1917، وما بين القلعة والمحكمة نصب تذكاري للحاكم البريطاني بروك، وهو ثاني حاكم لساراواك في الحقبة الاستعمارية، وفي عهده استبدل بمبنى المحكمة الخشبي السابق البناء الذي ما زال قائما.

ويقول المسؤول في إدارة المعلومات السياحية أوزي تونغينغ للجزيرة نت إن مجمع المحكمة القديم ذو طراز روماني مع لمسات محلية، وكان يحوي العديد من الإدارات الحكومية، ويقف حاليا شاهدا على طبيعة الحقبة الاستعمارية، بما فيها الاحتلال الياباني إبان الحرب العالمية الثانية، وانتهاء باستقلال الولاية عام 1963 وانضمامها إلى ماليزيا.

مبنى المحكمة القديم وهو مجمع إداري واسع وقد حول إلى مركز للخدمات السياحية

عائلة القطط

يتبادر لزائر كوتشين للوهلة الأولى أن اسم المدينة ينسب إلى القطط، وتعزز هذا الانطباع الأولي تماثيل وصور القطط المنتشرة بكثرة على الهدايا والتحف التي تعكس تراث المنطقة، لكن تونغينغ مسؤول إدارة المعلومات السياحية يؤكد أن لا علاقة للاسم بالقطط، وإنما بثمار فاكهة استوائية تشبه عين القط، ويعتقد أن الرحالة الصينيون هم أول من أطلق مصطلح كوتشينغ -التي تعني القط- على المدينة.

وبينما تتخذ ماليزيا من النمر شعارا لها فالقط هو شعار كوتشينغ الترويجي للمدينة، فلا تكاد تخلو منطقة حيوية من تمثال لقط أو عائلة قطط، ويتحدث الناس في هذه المدينة عن رفق الهرة، رمز المدينة الاجتماعي، الطوافة بين أزقتها وبيوتها، مقابل قوة النمر الآسيوي رمز الدولة.

جولة نهرية

لا تكتمل زيارة كوتشينغ دون النزول إلى نهر ساراواك، وسيكون الزائر محظوظا إذا صادف أحد المهرجانات الدورية التي تقام في المدينة، ومنها سباق القوارب السهمية السريعة، والتي يشارك في التجديف فيها عشرات الهواة أو محترفو هذا النوع من السباقات.

وتستقطب القوارب الصغيرة هواة التجديف، ومن يستمتعون بلمس مياه النهر من أفراد أو مجموعات صغيرة، أو رحلة عائلية تستغرق نحو ساعة مع الحاجة إلى لبس سترة النجاة.

أما الرحلة الجماعية في السفن الكبيرة (المسماة سفن الكروز)، فهي مهرجان اجتماعي وتعريفي بامتياز، حيث يعرّف المرشد السياحي بتاريخ المكان وجغرافيته والمعالم الرئيسية على ضفتي النهر.

وتتناوب على متن السفينة فرق فولكلورية في أداء رقص واستعراض يعكس ثقافات المجموعات العرقية في ساراواك، نذكر منها العرقيات السبع الرئيسية وهي بيدايو وإيبان وأورانغ أولو وملايو ومالاناو والصينيون.

تحفة البرلمان

لن تفوِّت أي سفينة أو قارب سياحي المرور من تحت جسر (دار الهنا) المطل على مبنى البرلمان المحلي، وهو جسر المشاة الوحيد الذي يربط بين ضفتي نهر ساراواك الجنوبية والشمالية في كوتشينغ، وصمم على شكل حرف “S”، وكانت القوارب وسيلة الانتقال الوحيدة بين ضفتي النهر قبل افتتاح جسر دار الهنا في عام 2017، وإضافة معلم جديد للمدينة العريقة.

لكن المنظر الساحر يكون بالإطلالة من فوق الجسر على مبنى المجلس التشريعي ذي التسعة طوابق، المصمم على شكل مظلة، وأقيم على تلة من الجانب الشمالي من النهر، ويعتبره كثير من المعماريين أجمل مبنى في جنوب شرق آسيا.

وبالعودة إلى الضفاف يمكننا الاستمتاع بوجبة مأكولات بحرية طازجة على أنغام من بسطات الطعام المنتشرة على طول الكورنيش، ومعها عشرات المغنين ومستعرضي التراث الشعبي، ولا شك أن منهم صديقتنا ميتشي بيه التي فضلت الغناء بمختلف الثقافات على العمل في تخصصها الجامعي في إدارة الأعمال، وما زالت دمعتها رقراقة تضامنا مع أهل الأرض المسلوبة.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version