في أعماق تلال جنوب إسبانيا، التي تُعد المهد التاريخي لإنتاج زيت الزيتون عالميا، تتصاعد معركة تجارية حول مستقبل هذه الصناعة التي تُقدر قيمتها بنحو 14 مليار يورو (15.2 مليار دولار). هنا، في منطقة أندلسيا، تُغطي أشجار الزيتون السهول والتلال، لتشكل رمزا للزراعة التقليدية التي عرفت بها هذه المنطقة منذ قرون.

لكن في ظل التغيرات المناخية، والتحديات الاقتصادية المتزايدة، تقول صحيفة فايننشال تايمز إن المزارعين التقليديين يواجهون منافسة شديدة من موجة جديدة من المزارع الضخمة المكثفة، التي تعتمد على التكنولوجيا الزراعية والري المكثف لزيادة الإنتاج وخفض التكاليف.

تحديات مناخية

وتذكر الصحيفة أنه في قرية مونتيفريو الصغيرة، يسير المزارع مانويل أداموز كامينو على أرضه القاحلة، متفقدا أشجار الزيتون التي تكتسي ثمارها بالتجاعيد، وهو يشير إلى إحدى الثمار التي تبلغ نحو 15 ملم فقط في الطول.

يقول أداموز لفايننشال تايمز: “إذا لم تمطر قريبا، فلن نحصل على محصول جيد. أشجار الزيتون تعاني من الجفاف وتعيد توزيع المياه بين جذورها للحفاظ على بقائها، ولكنها بذلك تُضحي بثمارها”.

هذا الوضع يعكس تحديا كبيرا -وفق الصحيفة- يواجهه المزارعون في جنوب أوروبا، حيث أصبحت موجات الجفاف المتكررة بفعل التغير المناخي تُهدد هذه الصناعة التي تعتمد على توافر المياه بشكل كبير.

والعام الماضي، ضربت موجة جفاف قاسية المنطقة، مما أدى إلى تلف المحاصيل وانخفاض كبير في إنتاج زيت الزيتون. ويعترف أداموز بأن الجفاف المتكرر أصبح التحدي الأكبر أمام مزارعي الزيتون التقليديين، حيث يواجهون نقصا حادا في المياه وموارد الري، مما يجعل من الصعب عليهم التنافس مع المزارع الضخمة التي تستفيد من مصادر المياه القريبة، مثل الأنهار والسدود، وفق قول الصحيفة.

مزارع “السوبر”

وعلى الجانب الآخر من هذه المعادلة، تشهد إسبانيا ازدهارا كبيرا في إنشاء مزارع الزيتون المكثفة أو ما تُعرف بمزارع “السوبر”.

وتعتمد هذه المزارع -وفق فايننشال تايمز- على زراعة صفوف من أشجار الزيتون في خطوط منتظمة على أراض مسطحة بالقرب من مصادر المياه، مما يمكّنها من الري المنتظم واستخدام آلات حديثة للحصاد. وبفضل هذه الأساليب المكثفة، تتمكن هذه المزارع من زيادة إنتاجها بتكلفة أقل مقارنة بالمزارع التقليدية.

وتُظهر الأرقام أن مزارع “السوبر” الضخمة نمت بشكل هائل خلال العقدين الماضيين، إذ انتقلت من العدم لتحتل الآن نحو 7% من إجمالي الأراضي المزروعة بالزيتون في إسبانيا، وتساهم بنحو 11% من إجمالي الإنتاج.

 

وأصبح لهذه المزارع ميزة تنافسية خلال فترات الجفاف، حيث تتمكن من الحفاظ على إنتاجها بفضل نظم الري الحديثة، بينما يعاني المزارعون التقليديون من انخفاض حاد في الإنتاج.

وفقا لتصريحات إغناسيو سيلفا، رئيس شركة “ديوليو”، أكبر شركة لتجارة زيت الزيتون في العالم، فإن “المنطق الاقتصادي وراء زراعة الزيتون في المناطق الجبلية التقليدية يتراجع، خاصة بسبب مشكلة نقص المياه”.

ويرى سيلفا أن المستقبل يكمن في هذه المزارع الضخمة، التي تحقق أرباحا أكبر بفضل تقنياتها المتقدمة وإمكانياتها على التكيف مع التغيرات المناخية.

الجودة مقابل الكمية

ورغم التفوق الإنتاجي لمزارع “السوبر” الضخمة، فإن المزارعين التقليديين، مثل مانويل أداموز، يصرون على أن جودة الزيت الذي ينتجونه أفضل بكثير.

ويقول أداموز للصحيفة: “لقد أصبحنا مهووسين بالكمية على حساب الجودة. نعم، المزارع الضخمة تنتج الكثير، ولكن زيت الزيتون الذي نحصل عليه من تلك المزارع ليس بجودة الزيت التقليدي”.

ويرى أن الزيتون المزروع في الجبال، الذي يعاني من نقص المياه، يُنتج زيتا أغنى بمضادات الأكسدة والمركبات الصحية مثل البوليفينولات، التي تمنح زيت الزيتون طعمه المميز وفوائده الصحية الكبيرة.

وتشير دراسات -اطلعت عليها الصحيفة- إلى أن الزيتون الذي ينمو في ظروف قاسية، حيث يعاني من نقص المياه، يحتوي على تركيزات أعلى من البوليفينولات، التي تعمل كمضادات أكسدة قوية وتوفر العديد من الفوائد الصحية، مثل تقليل الالتهابات وتحسين صحة القلب، بينما تفقد المزارع الضخمة التي تعتمد على الري المنتظم كثيرا من هذه الخصائص الغذائية.

مستقبل صناعة زيت الزيتون

وفي مواجهة هذه التحديات، بدأ المزارعون التقليديون في إسبانيا بتنظيم أنفسهم من خلال التعاونيات والمجالس الزراعية التي تدافع عن جودة منتجاتهم.

ويُركز هؤلاء المزارعون على التسويق لزيت الزيتون التقليدي بوصفه منتجا عالي الجودة، مُعززا بفوائده الصحية ومراعاته للبيئة.

وفقا لخوسيه خوان خيمينيز لوبيز، الذي يعمل في المجلس الزراعي لمنطقة بونينتي دي غرناطة، فإن “الطريق الوحيد نحو المستقبل هو التركيز على الجودة والتميز”.

ويضيف أن زيت الزيتون التقليدي يمكنه أن يُسوَّق في الأسواق الجديدة على أساس أنه منتج لا يستهلك كميات كبيرة من المياه، ويُساهم في الحفاظ على التنوع البيولوجي واستمرار الحياة في المناطق الريفية المتراجعة سكانيا.

على الرغم من كل هذه الجهود، فإن مستقبل مزارعي الزيتون التقليديين يظل مرهونا بالتغيرات المناخية المستمرة.

ويقول أداموز: “أرضي تحقق لي دخلا يكفي للعيش، ولكنني لا أستطيع تحقيق ثروة. كل شيء يعتمد على الطقس. إذا حصلنا على 18 شهرا من الطقس الجيد، يمكنني أن أضمن موسما جيدا”.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version