باريس– في موقع إستراتيجي في العاصمة الفرنسية باريس، يستكشف الزوار مدينة الاقتصاد “سيتيكو”، وهي أول متحف أوروبي تفاعلي مخصص للاقتصاد يهدف إلى جعل هذا التخصص في متناول الجميع من خلال مجموعة منتقاة من الصور والألعاب والتجارب العملية.
وقد كان هذا المتحف مكان إقامة مصرفي فرنسي ينتمي إلى الطبقة الأرستقراطية، قبل أن يتحول إلى فرع بنك فرنسا في بداية القرن الـ19، ولا تزال لافتة باسمه تزين مدخل المبنى لتذكّر بتاريخ المؤسسة المصرفية التي أسسها نابوليون بونابرت.
من قلعة إلى بنك
يقع متحف الاقتصاد في جوهرة معمارية من “عصر النهضة الجديد” تهيمن على هندسته الأحجار البارزة والأسقف الأنيقة والأبراج البارزة التي تستمر في جذب الزوار إليه منذ بنائه عام 1882 حتى يومنا هذا.
وعام 1878، اشترى المصرفي إميل جيلارد قطعتي أرض متجاورتين في وقت كان من الشائع فيه شراء قطع الأراضي لإعادة بيعها والاستثمار فيها.
وكان جيلارد رجل أعمال شغوفا بفن العمارة وجامعا للتحف الفنية يستعرضها أمام أصدقائه من الطبقة البرجوازية في المجتمع الفرنسي آنذاك، ويذكر أنه بمجرد وصوله إلى باريس، أصبح المصرفي الرسمي للكونت دو شامبور والوصي على بنك فرنسا.
ثم بدأت الحياة الثانية للمنزل الاستثنائي عام 1923 عندما أصبح فرعا لبنك فرنسا يخدم رواد الأعمال والمدخرين من منطقة مونسو الراقية في باريس حتى عام 2006.
وبهذا سافرت هذه القلعة عبر الزمن ليتم تصنيفها نصبا تاريخيا ونتاجا لـ3 فترات رئيسية، تنقلت من كونها قصرا خاصا للمصرفي جيلارد إلى فرع لبنك، قبل أن يتم تجديدها بالكامل بقيمة 50 مليون يورو لتقدم نفسها عام 2019 مدينة للاقتصاد في قلب العاصمة الفرنسية تمتد مساحتها على 2400 متر مربع.
ألعاب لفهم الاقتصاد
وسط هذا الديكور المهيب المزين بألوان وأجسام افتراضية ثلاثية الأبعاد على الجدران والأبواب، أنشأت “سيتيكو” مساحات للألعاب بغرض تبسيط مواضيع ومفاهيم اقتصادية عديدة، بما في ذلك التبادل التجاري والأسواق، والأزمات التاريخية وغيرها.
ومن بين الألعاب التي تلقى إعجاب الزوار لعبة جماعية بعنوان “تفاوض، قرر”، يصل عدد المشاركين فيها إلى 9 أشخاص، إذ يمثل كل مشارك دولة ما ويدافع عن مصالحها ويقدم وجهات نظر مختلفة عن الباقين للموافقة على تطوير الطاقات المتجددة وتحقيق هدف عالمي مشترك.
ويقول مدير المتحف فيليب جينيست للجزيرة نت “هنا، يعي المكتشف لعالم الاقتصاد صعوبة اتخاذ المسؤولين قرارات حاسمة قد تترك أثرا مباشرا على شريحة واسعة من الناس، تاركين له المجال في الوقت نفسه لأن يكون فردا فاعلا يمكنه التفاوض وإقناع الآخرين بآرائه، وحتى الدفاع عنها بحقائق معينة”.
وعند الانتقال من قاعة إلى أخرى، تتناغم الأعمدة الخشبية المستوحاة من قلاع منطقة “لوار” الفرنسية مع عدادات البنك القديم والشاشات الكبيرة والأدوات الرقمية الأخرى.
ويشرح جينيست قائلا إن “هذا المكان يقوم على هدفين أساسيين، الأول هو الإبقاء على إرث تاريخي نعتز به، والثاني هو تقديم مواد تعليمية وتربوية تساعد العائلات والمدارس في تشجيع الصغار للتعرف على الاقتصاد وفهم العالم من حولهم بشكل أفضل وأوضح”.
وفي المتحف أيضا ألعاب تفاعلية أخرى تحفز الصغار والكبار على معرفة المزيد حول الاقتصاد، مثل كيفية تقديم البنوك للقروض وشراء العقارات وعمليات العرض والطلب والقوة الشرائية، فضلا عن تصميم عملة ورقية بطبعات ورموز خاصة يأخذونها معهم في آخر الجولة هدية تذكارية.
ويرى مدير المتحف أنه “يجب عدم إنكار حقيقة أن غالبية الناس يرون هذا التخصص صعبا ومعقدا، ولهذا نحاول من خلال هذا المتحف رفع الوعي بأهميته في حياتنا اليومية من خلال الفن والألعاب والعلوم، وجعله أداة ثقافية تشرح للطلاب خارج أبواب الفصول الدراسية مفاهيم الاقتصاد بطريقة مبسطة وسهلة أكثر من الكتب”.
عملات من كل زمان ومكان
تشهد الغرفة الآمنة (Salle des coffres) على فترة حيازة بنك فرنسا للمبنى، حيث آلاف الخزائن المصفوفة على الجدران، التي كانت في ما مضى تضم أغلى ممتلكات عملات البنك، كما أنها محمية بخندق مائي وجدران خرسانية سميكة، وقد أصبحت الغرفة اليوم واحدة من أهم القاعات التي يعرضها المتحف لزواره.
وتستعرض مكتبة فرنسا الوطنية وبنك فرنسا مجموعة كبيرة من العملات التي تم التعامل بها في عمليات المقايضة قبل ظهور العملات كما نعرفها اليوم، بما في ذلك القطع الخشبية والأصداف وغيرها.
كما يمكن للزائر التعرف على كيفية صناعة اليورو وعملات ورقية أخرى من دول مختلفة حول العالم، فضلا عن فك رموز الأوراق النقدية المزيفة.
بالإضافة إلى ذلك، تضم هذه القاعة الأيقونة جناحا خاصا لعملات من العالم الإسلامي، من أبرزها دينار الخليفة عبد الملك الدمشقي الذي تم العثور عليه في سوريا ويعود تاريخه إلى نهاية القرن السابع.
ويطلق على هذه العملة المصنوعة من الذهب اسم “الخليفة القائم”، حيث تظهر صورة الخليفة بوضوح بعينيه البارزتين وتسريحة شعره وفي غمده سيف، ومنقوش عليها “لا إله إلا الله ومحمد نبيه”.