يشهد القطاع المصرفي العراقي تحولات جذرية في ظل سعي الحكومة إلى إعادة هيكلة وإصلاح الاقتصاد وتطوير البنية التحتية المالية.

وفي هذا السياق، أعلنت الحكومة العراقية عن خطط طموحة لإعادة هيكلة المصارف الحكومية، وعلى رأسها مصرفا الرافدين والرشيد، وذلك بهدف تحويلها إلى مؤسسات مالية أكثر حداثة وكفاءة قادرة على تلبية احتياجات الاقتصاد العراقي المتنامي.

كما قرر مجلس الوزراء العراقي في جلسته التي عقدت بتاريخ 13 يناير/كانون الثاني 2025 تأسيس مصرف جديد بالكامل، يعتمد على أحدث التقنيات المصرفية الرقمية، ويهدف إلى تقديم خدمات مصرفية متكاملة للأفراد والشركات، سواء داخل العراق أو خارجه.

وتم تسمية هذا المصرف الجديد بـ”مصرف الرافدين الأول”، حيث سيبدأ برأسمال أولي قدره 500 مليار دينار عراقي (نحو 381.8 مليون دولار)، مع هدف الوصول إلى تريليون دينار عراقي (نحو 763.7 مليون دولار) كرأسمال نهائي. وستكون مساهمة الدولة في هذا الرأسمال بنسبة 24%.

وفي الوقت نفسه، قرر المجلس الإبقاء على مصرف الرافدين كمؤسسة حكومية أساسية لتنفيذ التعاملات الحكومية، مع العمل على هيكلته وتطويره بالتعاون مع شركة أرنست ويونغ الاستشارية.

كما قرر المجلس تحويل المصرف الصناعي إلى شركة مساهمة خاصة، مع السعي لإيجاد شريك إستراتيجي له. أما بالنسبة للمصرف الزراعي والمصرف العقاري وصندوق الإسكان، فقد تقرر إبقاء الوضع على حاله في الوقت الحالي.

ولتسهيل عملية تأسيس المصرف الجديد، تم تكليف البنك المركزي العراقي بالتعاقد مع شركة استشارية متخصصة لتقديم الدعم في جميع مراحل التأسيس.

كما تم تشكيل لجنة برئاسة محافظ البنك المركزي لمتابعة هذا المشروع والتنسيق مع الشركة الاستشارية.

كيان مصرفي جديد في العراق

وكشف مظهر محمد صالح المستشار الاقتصادي لرئيس مجلس الوزراء، عن خطط لإطلاق كيان مصرفي جديد في العراق، يهدف إلى تلبية احتياجات الحكومة بشكل حصري، موضحا أن هذا الكيان سيكون بمثابة حساب خزينة موحد، مما يساهم في تنظيم التدفقات النقدية للمالية العامة.

وأوضح صالح في حديث خاص مع الجزيرة نت أنه في الوقت الذي تستحوذ المصارف الأهلية ( الخاصة) -التي يزيد عددها عن 64 مصرفًا- على حصة الأسد من رؤوس الأموال المصرفية بنسبة تقارب 78%، فإن دورها في عمليات التمويل والإيداع محدود للغاية، حيث لا يتجاوز 20% من إجمالي هذه العمليات.

وقال إنه على النقيض من ذلك، يسيطر مصرفا الرافدين والرشيد الحكوميان على نحو 80% من عمليات التمويل والإيداع، رغم أن رؤوس أموالهما مجتمعة أقل بكثير من رؤوس أموال المصارف الأهلية.

هذا التناقض، كما يشير صالح، يعكس وجود انفصال حاد داخل السوق المصرفية، مما يستدعي إصلاحات جوهرية ضمن البرنامج الاقتصادي الحكومي. فمعظم الجهاز المصرفي العراقي يعتمد بشكل كبير على النظام المالي الحكومي، مما يحد من قدرته على توليد قيمة مضافة للاقتصاد الوطني.

ونوه إلى أنه نتيجة لذلك، فإن مساهمة قطاع البنوك في الناتج المحلي الإجمالي لا تتجاوز 1.5%، وهي نسبة ضئيلة للغاية.

وبين محمد صالح أنه في محاولة لمعالجة هذا الخلل، أصدر البنك المركزي العراقي في أغسطس/آب 2023 توجيهات بزيادة رؤوس أموال المصارف إلى 400 مليار دينار عراقي (305 ملايين دولار) على 3 دفعات متتالية.

والهدف من هذه الزيادات، كما أكد صالح، هو تعزيز الاستقرار المالي وزيادة قدرة المصارف على تقديم خدمات مصرفية أكثر فعالية، مما يساهم في دعم الاقتصاد الوطني.

وأوضح أن الدراسات الجارية تشمل تقييم الوضع القانوني للمصرفين الحاليين، ودراسة إمكانية الشراكة مع مؤسسات مالية عالمية لتطوير الخدمات المصرفية المقدمة، مشيرا إلى أن الهدف من هذا الإصلاح هو تعزيز اندماج المصرفين في السوق المحلية، وتمكينهما من التوسع في الأسواق المالية العالمية، مع التركيز على تقديم خدمات حديثة مثل المدفوعات الرقمية.

وأكد صالح أن هذا الكيان الجديد سيعمل على تعزيز الشفافية والحوكمة في القطاع المصرفي العراقي.

عوامل أضعفت المصرفين

من جهته، أكد عضو اللجنة المالية النيابية جمال كوجر، أن إعادة هيكلة مصرفي الرافدين والرشيد ستمثل نقلة نوعية في الاقتصاد العراقي.

وأوضح كوجر في حديث للجزيرة نت، أن هذه الخطوة ستجعل المصرفين شريكين أساسيين للحكومة في خلق فرص عمل جديدة ودعم القطاع الخاص. كما سيُعمل على زيادة ثقة المواطنين بهذين المصرفين، مما يشجعهم على إيداع أموالهم فيهما بدلا من الاحتفاظ بها في المنازل.

وأشار كوجر إلى أن النظام المصرفي العراقي لم يشهد تغييرات جوهرية منذ سنوات، وأن الحكومة ساهمت في إضعافه من خلال الاقتراض المتكرر منه، مضيفا أن هذا الاقتراض المستمر قد أدى إلى تراجع أداء مصرفي الرافدين والرشيد، مما يستدعي ضرورة تطويرهما وإعادة هيكلة سياساتهما.

وبشأن الخدمات التي يقدمها مصرفا الرافدين والرشيد لقطاع الاستثمار، أكد كوجر أنها جيدة، ولكنها بحاجة إلى دعم أكبر من الحكومة.

وأوضح أن الحكومة، بسبب اقتراضها المستمر، لم تتمكن من توفير الدعم الكافي لهذين المصرفين، مما أثر سلبًا على قدرتهما على تقديم خدمات استثمارية متطورة، داعيا الحكومة إلى دعم هذين المصرفين بدلًا من الاعتماد عليهما كمصدر للاقتراض، وذلك لتمكينهما من القيام بدورهما في خلق فرص عمل واستثمارات جديدة في البلاد.

مصارف رديفة

وكشف الخبير الاقتصادي صلاح نوري عن تفاصيل الخطة الحكومية لإعادة هيكلة مصرفي الرافدين والرشيد.

وأوضح نوري في حديث للجزيرة نت أن هذه الخطوة تأتي في سياق الجهود المبذولة لمعالجة المشاكل المتراكمة في هذين المصرفين، والتي تتمثل بشكل أساسي في وجود أصول مالية رديئة، أغلبها قروض قديمة منحت قبل عام 2003.

وبين أن هذه الأصول المتعثرة قد أدت إلى تدهور التصنيف الائتماني للمصرفين، مما صعّب من تعاملهما مع المؤسسات المالية الدولية.

وأضاف أن خطة إعادة الهيكلة تتضمن إنشاء مصارف جديدة، تسمى “مصارف رديفة”، لاحتواء الأصول المالية السيئة الموجودة حاليًا في مصرفي الرافدين والرشيد وبالتزامن مع ذلك، سيتم دمج الأصول السليمة في كيان مصرفي جديد، مما يؤدي إلى فصل الأجزاء السليمة عن الأجزاء المتعثرة.

وأكد الخبير الاقتصادي أن هذه الخطوة تهدف إلى عدة أهداف، من بينها تعزيز الثقة بالقطاع المصرفي العراقي، وتحسين أداء المصارف، وجذب الاستثمارات الأجنبية، مضيفا أنها ستساهم في تطوير الخدمات المصرفية المقدمة للمواطنين والشركات، وذلك من خلال الاستفادة من أحدث التقنيات مثل الذكاء الاصطناعي.

وأشار نوري إلى أن عملية إعادة الهيكلة تتطلب دعمًا ماليًا كبيرًا، حيث يحتاج المصرف الجديد الذي سيتكون من الأصول السليمة إلى زيادة رأسماله، مشددا على أهمية تحديد الجهة المسؤولة عن توفير هذا الدعم المالي، سواء كانت الحكومة أو مؤسسات مالية أخرى.

حلول جذرية لمشاكل مزمنة

أما الخبير الاقتصادي عمر الحلبوسي فقال إن النظام المصرفي العراقي السابق كان عائقا كبيرا أمام التنمية، حيث عرقل عمل المصارف وجعلها عبئًا ثقيلًا على الدولة والمواطن، مضيفا أن هذه المصارف كانت تمتص الكتل النقدية الكبيرة دون الاستفادة منها بشكل فعال، مما استدعى ضرورة إجراء دراسة شاملة وهيكلة المصارف الحكومية.

وأشار الحلبوسي في حديثه مع الجزيرة نت إلى أن فكرة هيكلة المصارف الحكومية ليست جديدة، بل بدأت منذ فترة حكومة حيدر العبادي، ولكنها تأخرت حتى العام الماضي، مبينا أنه تم تكليف شركة عالمية متخصصة بدراسة كيفية دمج المصرفين الحكوميين الكبيرين، بحيث ينتج عن هذا الدمج مصرف واحد يقدم خدمات مصرفية متكاملة ومتطورة، ومصرف آخر يختص بخدمات حسابات الدولة والمؤسسات.

وأوضح الحلبوسي أن هذه الخطوة تأتي في ظل العقوبات الأميركية المفروضة على البنوك الخاصة، والتي ألحقت أضرارًا كبيرة بالقطاع المصرفي العراقي.

وسيؤدي دمج المصرفين الحكوميين وتحويلهما إلى مصرف تجاري ذي مساهمة خاصة إلى سد النقص الحاصل في الخدمات المصرفية، وتحسين مستوى المعيشة للمواطنين، وتحفيز النمو الاقتصادي والاستثمار، وفق المتحدث ذاته.

وأكد الحلبوسي أن هذه الخطوة ستساهم بشكل كبير في ضبط سعر الصرف والحد من التقلبات التي يشهدها الدينار العراقي، كما ستساعد في مكافحة الجرائم المالية وتحقيق المعايير الدولية في مجال مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.

وختم الحلبوسي حديثه بالتأكيد على أن هذه الخطوة تمثل نقلة نوعية في قطاع المصارف العراقية، وستساهم في تطوير القطاعات الاقتصادية الأخرى وتوفير خدمات مصرفية أفضل للأفراد والشركات.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version