كيغالي- بسرعة لا تتجاوز 40 كيلومترا تأخذنا سيارة دفع رباعي سوداء اللون في رحلة سفاري داخل حديقة أكاجيرا (أكاغيرا) شرقي رواندا، لنكتشف تفاصيل حياة برية متنوعة في أكبر منطقة محمية للأراضي الرطبة وسط أفريقيا.
بداية الرحلة
بداية الرحلة تطالعك أعداد قليلة من الخنازير البرية على مسافة 200 إلى 300 متر تقتات على مهل ما دامت في مأمن من أعين الأسود والنمور حتى هذه اللحظة.
وكلما توغلنا داخل الحديقة جادت علينا الطبيعة بمزيد من الحيوانات البرية، قطعان جاموس هنا، وجماعات من الحمير الوحشية هناك، والجميع يعيش في حالة حذر من مباغتة الحيوانات المفترسة.
ولكن اللحظة التي كنا جميعا نرقبها قد حانت، هناك على مسافة ليس بالقريبة كانت بعض الأسود تستظل تحت الأشجار وهي تطلق نظراتها صوبنا، توقفنا قليلا لالتقاط بعض الصور والفيديوهات قبل أن نكمل الرحلة، وحسب المسؤولين عن المحمية الطبيعية فإن هناك نحو 60 أسدا في الوقت الحالي.
وعلى مدار ساعتين من الزمن تقريبا، تطل عليك الزرافات بأعناقها الطويلة بينما يمشي وحيد القرن بتؤدة، وتسبح أفراس النهر والتماسيح في مياه البحيرات الصغيرة والكبيرة، وتقف مئات الطيور النادرة على أغصان الأشجار عند جنبات الأنهار، وغير بعيد عنها تتحرك القردة الصغيرة جنبا إلى جنب مع الغزلان.
ولم يحالفنا الحظ لرؤية الفيلة وحيوانات أخرى تزخر بها الحديقة، رغم خوضنا تجربة أخرى على متن القارب في مياه النهر، فالمهمة ليس سهلة وتحتاج مزيدا من الوقت وربما رحلة ليلية أخرى، لكن الرحلة حتما ستكون ممتعة لمن يرغب في زيارة محمية طبيعية أبت إلا أن تصمد أمام الصعاب والتحديات بدعم وجهود رسمية ومجتمعية، وتحتضن المحمية نحو 150 من الفيلة و100 زرافة.
قصة مقاومة
على مساحة 1122 كيلومترا مربعا، تروي حديقة أكاجيرا تفاصيل قصة قاومت فيها الطبيعة أصنافا عديدة من التحديات عبر السنين، لتقدم لعشاق رحلات السفاري في وقتنا نموذجاً أفريقياً لبيئة امتزجت فيها المناظر الخلابة بعفوية الحياة البرية المتنوعة.
ولم تسلم المحمية -التي سميت على اسم نهر كاجيرا- من تداعيات حرب الإبادة الجماعية عام 1994، فاقتطعت أجزاء كبيرة منها إلى جانب عمليات الصيد الجائر التي أضرت بها، ولكنها اليوم وبفضل الشراكات بين مجلس التنمية الرواندي “آر دي بي” (RDB) وهيئة المتنزهات الأفريقية “إيه بي إن” (APN) نجحت هذه المحمية في استعادة عنفوانها وتنوعها البيولوجي واستقرارها البيئي، لتصبح واحدة من أفضل الوجهات السياحية في البلاد.
وبحسب حديث المسؤولين هناك، استقبلت المحمية 54.4 ألف زائر عام 2023، نصفهم تقريبا من السياح الأجانب، والنصف الآخر من داخل رواندا، وحققت هذا الفضاء الطبيعي دخلا فاق 5.3 ملايين دولار، وهو ما يمثل نحو 92% من تكاليف إدارة المحمية.
وفي هذه المحمية -التي تأسست عام 1934 وشهدت انطلاقة جديدة عام 2010- يعيش أكثر من 15 ألف حيوان بري ومئات الطيور، مما استلزم وجود جهة ترعى هذا التنوع البيئي، وتحافظ عليه. وكانت مساحة المحمية تقارب 2500 كيلومتر قبل تقليصها.
ولتحقيق هذه الرعاية، تولت شركة أكاجيرا للإدارة “إيه إم سي” (AMC) قبل 14 عاما مهمة إدارة المحمية بموجب اتفاقية مدتها 20 عاما بهدف إعادة تأهيل التنوع البيئي والحفاظ على الطبيعة وتنمية السياحة بهذه المنطقة. وهي عبارة عن شراكة بين مجلس التنمية الرواندي وهيئة المتنزهات الأفريقية.
تقاسم المنافع
ونفذت الشركة مشاريع واستثمارات كبيرة لتطوير البنية الأساسية لحديقة السافانا، إلى جانب مهام تدريب الموظفين والعاملين وبناء وحدات مراقبة وشراء أسطول من المركبات والدراجات النارية وقوارب ووسائل أخرى، لضمان تطوير أداء هذا المرفق وحمايته من التعديات.
ووظفت أكثر من 120 حارسا لحماية المحمية من الصيد الجائر وأنواع أخرى من الأنشطة غير القانونية، ويساعد هؤلاء الحراس على أداء مهمتهم كلاب تعقب مدربة وأجهزة اتصالات واستشعار لتفاصيل الحياة بهذا المكان، كما تم بناء سياج على الحدود الغربية بطول 126 كيلومترا يشرف على مراقبتها نحو 30 موظفا.
ولا تشكل الحديقة متنفسا طبيعيا للزوار فقط، بل هي مصدر دخل للمجتمعات المحيطة بها، حيث يعمل أكثر من 320 شخصا بالأنشطة السياحية والبناء والحفاظ على البيئة داخل هذه المحمية في إطار رؤية مستدامة تهدف لتقاسم الإيرادات بين جميع الشركاء، وتكريس مبدأ دعم أفراد المجتمع لرحلة بقاء الحديقة على المدى البعيد.
ويقول جانفيي تويزييمانا وهو دليل سياحي رواندي إن “الحديقة تلعب دورا اقتصاديا واجتماعيا مهما بالنظر إلى الإيرادات التي نحصل عليها من زيارات السياح، والتي تعود بالنفع على الدولة وعلى المجتمعات القريبة من هنا، وتوفر الأموال لمواصلة الحفاظ وحماية الحياة البرية هنا”.
ويضيف الدليل السياحي للجزيرة نت أن قرابة 10% من الإيرادات تذهب لدعم السكان الذين يقطنون قرب المحمية ومساعدتهم على مواجهة تكاليف الحياة، فضلا عن أن مئات السكان يعملون في أنشطة متعددة بالمحمية.
أنشطة وخيارات
وخلال رحلة عودتنا، كان لابد من استراحة قصيرة لتناول وجبة الغذاء في مطعم جميل على ضفاف البحيرة، وغير بعيد توجد مجموعة من الخيام يستأجرها الزوار للاستراحة والتخييم للاستمتاع بمزيد الوقت بين أحضان الحياة البرية المتنوعة.
وتقدم الحديقة أنشطة متنوعة بينها التخييم وصيد الأسماك والرحلات الليلية ورحلات القوارب في بحيرة إيهيما، ورحلات السفاري بقيادة دليل سياحي، ورحلات السفاري على الأقدام، علاوة على تجارب أخرى للتعرف على نماذج ثقافية واجتماعية واقتصادية للمجمعات المحيطة.
كما تقدم المحمية خيارات متعددة للإقامة لوقت أطول، سواء في مخيمات أكاجيرا، أو في نزل (فنادق) صممت لتناسب طبيعة المكان البرية.
وفي أحد هذه النزل كان مبيتنا حتى الصباح، لننطلق في تجربة أخرى مع رحلة على متن القارب للاستمتاع برؤية الحيوانات من زاوية أخرى في محمية تمثل إلى جانب غابة “نوينغوي” ومنطقة “البراكين” (وهي موطن الغوريلا) أهم إيرادات رواندا السياحية التي بلغت نحو 640 مليون دولار عام 2023 بعدما استقبلت البلاد زهاء 1.5 مليون سائح.