حالة من الضجة الحميدة ودفعة قوية من المشاعر الإنسانية الدافئة ضخها مسلسل “دواعي السفر” الذي بدأ عرضه مؤخرا على منصة “واتش إت”، وسرعان ما احتل المرتبة الأولى ضمن قائمة الأعمال الأكثر مشاهدة، في حين شرع الجمهور في تداول أخباره ومشاركة مشاعرهم تجاهه عبر حساباتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي.

أنا وأنت وساعات السفر

“دواعي السفر” عمل درامي بامتياز، يحكي عن القبطان إبراهيم (كامل الباشا)، العجوز المتقاعد الذي تركته ابنته وسافرت إلى أستراليا من أجل الدراسة، وفي سبيل طمأنتها وعدم حثها على العودة أو العيش بجواره خلال مرضه في أيامه الأخيرة يختلق عوالم كاملة ومتداخلة لإشعارها بأنه ليس وحيدا ومشغولا طوال الوقت.

وهناك أيضا علي (أمير عيد) مخرج الإعلانات الذي يعاني نفسيا بعد وفاة والده ومع عدم قدرته على التأقلم ومشاعره المكبوتة الممزوجة بالغضب من جهة والذنب من جهة أخرى، يقرر العودة إلى منزل طفولته لإنهاء حياته هناك.

ثم تماما وقبل أن يرتكب فعلته يصاب جاره القبطان بذبحة صدرية يضطر علي على إثرها لنجدته وبالتالي تأجيل انتحاره فترة للوقوف إلى جانب جاره ومنحه دوافع للحياة ومساعدته على تحقيق الكثير من أحلامه المختلقة، لكن ما لم يحسب الاثنان حسابه أن يغير كل منهما حياة الآخر رغم تناقضهما الصارخ ويجبران بعضهما على رؤية جوانب أخرى من العالم جديرة بالعيش.

لست وحدك

“نادي الوحدة” هو إحدى الفعاليات التي جمعت أبطال العمل وآخرين يشبهونهم من حيث السقوط في براثن الوحدة، في محاولة جماعية لكسر هذا القالب والشعور بالمؤانسة، ولما كان العمل يسلط الضوء على مشاعر حزينة يعاني منها الكثيرون ممن حولنا تردد البعض قبل البدء بمشاهدة العمل خوفا من أن يزيد أوجاعهم أو يجعلهم يصطدمون بحقائق يرفضون مواجهتها أو يؤجلون ذلك.

وهكذا شرعوا في طرح تلك المخاوف علنا باحثين عن طمأنة مسبقة ممن شاهدوا الحلقات الأولى وسرعان ما حصلوا عليها، إذ نجح المسلسل بالربت برفق على الصدمات والشروخ وتجبيرها بمنتهى الإنسانية والبساطة، الأمر الذي بدوره جعل الجمهور يصف العمل بالإيجابي، خاصة أنه رغم تجارب الأبطال السلبية جاء متخما بالأمل، وبشّر سواء بالعلاج النفسي المتخصص أو العلاج الإنساني الناتج عن مشاركة الوجع والمخاوف مع الآخرين عبر الصداقة أو الحب وغيرهما من العلاقات الاجتماعية الودودة والطيبة.

خطأ لا يغتفر

وإن كان ذلك لم يمنع صانع “دواعي السفر” محمد ناير من الوقوع في فخ المبالغة في ما يتعلق بالعلاج النفسي، وهو ربما المأخذ الوحيد الذي أثار استياء بعض الجمهور والنقاد بسبب بعض الأخطاء الجوهرية والحاسمة.

على سبيل المثال لا يجوز للمعالج النفسي كشف أسرار مرضاه للغرباء أو المرضى الآخرين مهما كانت النوايا حسنة، كذلك دائما ما يمنع المعالجون وجود أي علاقات شخصية حتى لو صداقة بين المشاركين في المجموعات العلاجية “الغروب ثيرابي” خارج حدود العيادة على عكس ما جرى تماما في المسلسل.

الجمهور يقع في حب الباشا

ومع ذلك، ظلت الغلبة لدى الجمهور للقصة الهادئة التي استطاعت “التسرب” بخفة ولطف إلى أرواحهم، تارة لطمأنتهم وتارة لمنحهم ما يبحثون عنه من ونس.

أما في ما يخص التمثيل فقد أثنى النقاد على أداء الفنان الفلسطيني كامل الباشا الذي سبق أن لفت الانتباه إليه بالدراما المصرية خلال مسلسل “الغرفة 207” الذي جسد فيه شخصية “عم مينا” عام 2022، إذ جاء أداء الباشا راكزا وتلقائيا، مما ضمن له القبول وانتظار الجمهور مشاهده، خاصة تلك التي يرافقه فيها أمير عيد.

وعن عيد، يبدو أنه حاول سبر أغوار شخصية علي لمزيد من المعايشة، لكنه لا يزال حبيسا لشخصية الشاب الغامض الذي يكتم انفعالاته، ولحسن حظه أن هذا جاء مناسبا للشخصية التي يلعبها هذه المرة وإن كان عليه تعلم كيفية إظهار الانفعالات المختلفة إذا ما كان ينوي الاستمرار في مجال التمثيل.

وبسبب التشابهات المرتبطة بعلاقة عيد بوالده وبعض ملابسات وفاة الأخير وآخر تواصل بينهما تداول بعض المشاهدين آراء مفادها أن العمل يتماس مع قصة حياة عيد، وهو نفس ما جرى مع مسلسل “ريفو” الذي ظهرت خلاله والدة البطل وقد أصيبت بألزهايمر، مما دفع عيد إلى تأكيد أن شخصية علي لا تشبهه في شيء، هو فقط حاول تجسيدها عن قرب ووعي.

في حب الوجوه الجديدة

ومثلما فعل ناير في “ريفو” أسندت الأدوار الرئيسية الأخرى إلى ممثلين من الصفوف الثانية مثل نادين، كذلك شاهدنا وجوها جديدة وأخرى لا تزال تخطو بأول المشوار مثل الشاب أحمد غزي والمغنية دنيا وائل، بل إن الكاتبة مريم نعوم تقوم بالتمثيل أيضا داخل العمل.

وهي الأدوار التي أُحسن تسكينها وتمكن أصحابها من لعب أدوارهم بسلاسة، خاصة دنيا وائل التي أجادت دور الشابة المضطربة نفسيا التي تحمل بين جنبيها روح طفلة خائفة وبنفس الوقت حانية وعفوية وخفيفة الظل.

يذكر أن “دواعي السفر” هو تجربة ناير الإخراجية الأولى رغم تجاربه السابقة في مجال التأليف للسينما والدراما، وهو ما وصفه بخطوة تأخرت 20 عاما “بسبب الكسل”، لكن حان الوقت للتعبير ليس بالكتابة فقط وإنما الصورة والرؤية، خاصة أن الكتابة بالنسبة له أصعب وأعمق من الإخراج الذي ليس إلا تجسيدا لحالة الخلق الأساسية التي ولّدتها الكتابة.

أما عما منحه الثقة والهدوء الظاهر بوضوح كحالة عامة على الشاشة فهو تعاونه مع أصدقائه مثل أيمن إلهامي المسؤول عن الديكور وأمير عيد من جهة، وفهمه الكامل للفلسفة التي أراد طرحها عبر العمل من جهة أخرى في ظل إصراره على أن يبدو العالم بالمسلسل بعيدا عن صخب الحياة والتركيز على حياة الأبطال البسيطة حتى يستطيع المشاهد الانتماء إلى هذا العالم والتماس مع الأبطال.

بشرى للباحثين عن الونس

“دواعي السفر” مسلسل قصير من 10 حلقات قارب على الانتهاء، عن الوحدة والوحيدين وعلاج فعال ومباشر للباحثين عن الونس والألفة، قُدمت قصته في إطار يجمع بين الدراما والكوميديا السوداء.

كتبه وأخرجه محمد ناير، في حين قام ببطولته كل من كامل الباشا وأمير عيد ونادين، بالمشاركة مع دنيا وائل وأحمد غزي وآدم الألفي وجلا هشام وأيمن الشيوي ومريم نعوم.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version