ما زال تيسير السبول حاضرا بعد 51 عاما من الغياب المدوي، إنه الشاعر والروائي والإعلامي الأردني المولود في 15 يناير/ كانون الثاني عام 1939، في بلدة الطفيلة جنوب العاصمة الأردنية عمان.

وقد حقق إنجازات إبداعية لامعة ورائدة قبل أن تفجع الساحة الأدبية الأردنية والعربية بانتحاره المفاجئ، بعدما أطلق النار على نفسه يوم 15 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1973، متبعا طريق المبدعين المنتحرين أو الغائبين في شبابهم، مثل فلاديمير ماياكوفسكي الشاعر الروسي الذي انتحر في سن الـ37.

وتوقف السبول عند شعره وانتحاره، وكتب متسائلا في سياق تحليل قصيدة “غيمة في بنطال” التي سبقت انتحار صاحبها بـ15 عاما “لقد حمل ماياكوفسكي مشاعر الناس جميعا في قلبه، وعصرها في صوته الشعري العظيم.. ولكننا سنلتقي به بعد 15 عاما من القصيدة، يطلق النار على نفسه مخلفا وصية قصيرة بضع كلمات حزينة عن: زورق الحب الذي تحطم على صخور الحياة اليومية، ورجاء لأمه ألا تبكي وللناس ألا يتقولوا عليه”.

وكأن تيسير كان يكتب عن نفسه لا عن “ماياكوفسكي”، ولا ينتظر الشاب طويلا ففي سن الـ34 وبعيد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 وما وصل من أنباء عن انقلاب النصر إلى هزيمة وتسرب أخبار المفاوضات مع قادة الاحتلال عند الكيلو 101، اختار نهايته الفاجعة التي تحولت إلى حدث ثقافي عربي يستحق المراجعة المتكررة.

فما الذي يدفع أديبا موهوبا وشابا متفتحا نحو الانتحار؟ ليس في حياة تيسير المباشرة دافع قوي للانتحار، ولذلك ذهبت الآراء نحو التفسير الأشمل بوصف انتحاره صيحة احتجاج يخسر فيها المرء أعز ما يملك من حياته ودمه.. لقد انتحر محتجا على تكرار الهزائم وقسوتها بعدما اختلط لديه الموضوعي بالذاتي والعام بالخاص وصار هو أو بطله عربي ذاتا تخبئ أحزان الجماعة وإخفاقاتها المتتابعة.

آثار تيسير السبول

تتمثل الآثار الأدبية للراحل تيسير السبول في أعماله المعروفة، ديوانه “أحزان صحراوية” الذي كتبت قصائده من عام 1959 حتى 1967 وظهرت طبعته الأولى عن دار النهار في بيروت 1968. وتحول بعد ذلك إلى الكتابة القصصية والروائية ومن حصادها رائعته “أنت منذ اليوم”، التي صدرت أيضا عن دار النهار ببيروت عام 1968 بعد فوزها مع رواية الكابوس لأمين شنار بجائزة ملحق جريدة النهار اللبنانية، وله -إلى جانب هذين الأثرين المهمين- عدد قليل من القصص القصيرة “هندي أحمر، صياح الديك” وسيناريو تلفزيوني “الله يرحمهم”، إلى جانب مقالاته الأدبية والفكرية وأحاديثه الإذاعية. وله ترجمات تدل على ثقافته وعلى إطلالته على الثقافات الأجنبية، مثل ترجمته لمختارات من رباعيات الخيام عن الترجمة الإنجليزية، وترجمته لقصة “الخطيئة” لإدوارد مكارثي.

رحل تيسير مبكرا، أديبا شابا، وآثاره من الناحية العددية والكمية قليلة سببها قصر عمر تجربته من الناحية الزمنية، وميله في بعض المراحل إلى إتلاف كتاباته التي لا ترضيه، بحثا عن كتابات أدبية رفيعة يطمح إليها. ولكن تلك الأعمال القليلة ضمنت له مكانة عالية ورائدة في تاريخ الأدب العربي والأردني الحديث، وشكلت مع قصة حياته ونهايتها المأساوية سببا ودافعا لقراءتها وتكرار الرجوع إليها، وقد نالت تلك الأعمال اهتمام النقاد والدارسين والقراء، وحققت الاعتراف الأدبي والنقدي، فكتبت عنها دراسات كثيرة متنوعة، وما زالت تلفت الدارسين لثرائها وقيمتها الأدبية.

 

شعر تيسير السبول

ترك سبول ديوانا شعريا وحيدا عنوانه “أحزان صحراوية” كتبت قصائده في الفترة من نهاية الخمسينيات حتى عام 1967، ونشرت قصائده قبل ذلك في المجلات المرموقة آنذاك مثل الآداب، الأفق الجديد، الأديب، الثقافة، ولفتت الانتباه إلى موهبته ضمن موجة شعر الستينيات في الأردن وفلسطين إلى جانب شعراء معروفين ساروا في طريق قصيدة التفعيلة مثل أمين شنار وعبد الرحيم عمر وسليم دبابنة.

“أحزان صحراوية” ديوان حميم في مذهبه العاطفي الرومانسي، وفي إيقاعاته العالية التي يتداخل فيها إيقاع التقفية مع الإيقاعات الداخلية المتأتية من حساسية خاصة للغة والموسيقى. معظم قصائد الديوان تذهب نحو النزعة الغنائية العاطفية، وتميل إلى شكل القصيدة القصيرة المكثفة، فترثي الحب الخائب أو تعرض لصور من الغياب والفراق والوحدة والحب الضائع والبكاء على الراحلين، وتتركز القصيدة على العاطفة الحزينة الأسيفة وتكييف الغنائية مع روح صحراوية تصلها بالقصيدة العربية القديمة ذات النفس الغنائي الأصيل.

تيسير السبول أحزان صحراوية

وفي بعض القصائد تتطور تلك الروح الغنائية لتتسع لبعض مفردات الوجودية التي تسللت إلى قصيدة الخمسينيات والستينيات بأثر من تبني دار الآداب ومجلة الآداب لهذا الاتجاه والتعريف به ونشر مؤلفاته وترجماته.

وفي هذا السياق نتلقى ورود مفردات السأم والعبث والوجود والميل إلى قصيدة الأسئلة الوجودية التي تتخلى عن تقديم الحكمة أو المعرفة لصالح التسآل والقلق، ويتداخل مع هذا التأثير قراءات السبول لمنابع وجودية أخرى من التراث العربي والإسلامي، خصوصا اتصاله بشعر المعري ورباعيات عمر الخيام.

كما نجد بعض تأثيرات شعر الرواد كالسياب في منحى توظيف الأسطورة والحكاية الخرافية بأسلوب غنائي “شهرزاد وشهريار ألف ليلة، وإيزيس وأوزوريس، وصندوق باندورا”، ولكنه لم يتعلق كثيرا بهذا المنحى، فظل منحى يدل على اجتهاد السبول في توسيع أفق قصيدته الغنائية دون أن يغير مسارها.

ويمكن أن نمثل على شاعرية تيسير السبول المتدفقة ببعض المقاطع، يقول على سبيل المثال:

دمعتان

طفتا فوق دخان

وعلى رأس لساني

صبتا طعم الألق

عندها أحسست قلبي

كنسيج من حرير يحترق

فنلاحظ الاهتمام بموسيقى القصيدة وبتركيزها العاطفي، وبحمولتها الوجدانية المؤثرة، ونلتفت إلى الحضور المركزي للذات أو الأنا التي تشكل عصب القصيدة وجوهرها، مما يؤدي إلى تردد ضمائر المتكلم أو كثرة المشيرات الذاتية في قصيدته:

كنت أعلم

أنني ضيعت مأساتي وأني

مرة في العمر لم أقبض مسرهْ

أنني ما عدت أعصابا

وعظما – صرت فكرهْ

محض فكرهْ

ويتكرر في الديوان عنوان “أحزان صحراوية” لعدد من القصائد، كأنها إعادة صياغة أو ترداد لنشيد غنائي متكرر، لا يمل الشاعر من محاورته أو الدوران حوله، صوت داخلي لا يتوقف حنينه:

وكأن الصوت في طيات صدري

رجع اليوم حنينهْ

فأراه

بدويا خطت الصحراء لا جدوى خطاهْ

موحشا يرقب آثار الطلولْ

وحتى عندما يغدو الضمير والمشير جماعيا بصيغة “نحن” فإنه يظل على غنائيته وذاتيته ولا يبتعد عن أن يكون وجها آخر من وجوه “أنا”:

نحن جسر للكوابيس الثقيلهْ

ترعد الأجيال فينا

ونعاني الموت غيلهْ

وفي قصيدة مهمة “حلولية” يبلغ التعبير الرومانسي حدا من امحاء الذات في الأشياء والتراسل معها وإلقاء عواطف الفرد عليها في صورة من صور التصوف الرومانسي الذي لامسه في بعض مراحله وحاول الاقتراب منه:

للحظة منسية بغير ما يقين

تراشقت في خاطري أصداء

كأنما نشيج

أنا الحزين أم هي الأشياء

أنا أكون؟ لم أكن

وحين لا أكون

من الذي يرى الخليج والصخور والفضاء

لعلها الأشياء ترى الأشياء

ولا شك أن قصيدته “مرحبا” تظل حتى اليوم قصيدة دافئة مؤثرة في بساطتها وحرارتها وتدفق موسيقاها:

رغم أن الحب مات

رغم أن الذكريات

لم تعد شيئا ثمينا

ما الذي نخسر إن نحن التقينا

ابتسمنا وانحنينا

وهمسنا مرحبا

ومضينا

ليس يدري ما الذي نضمره

في خافقينا

مرحبا كاذبة نسكت فيها الناس

حتى لا يقال

آه يا عيني على الأحباب

عشاق الخيال

وترك تيسير قصيدة طالما وقف عليها الدارسون، تشبه وصية “ماياكوفسكي” لكنه يوجهها إلى “الصديق” المجهول وليس إلى شخص محدد، إنها تشبه أن تكون موجهة إلى الناس جميعا، ألا يدينوه، بعدما اختلفت به الطريق، وأيقن بحتمية السقوط أو اختاره وصمم عليه:

أنا يا صديقي

أسير مع الوهم أدري

أيمم نحو تخوم النهاية

نبيا غريب الملامح أمضي

إلى غير غاية

سأسقط لا بد يملأ جوفي الظلام

نبيا قتيلا وما فاه بعد بآية

وأنت صديقي

وأعلم، لكن قد اختلفت بي طريقي

سأسقط لا بد

أسقط يملأ جوفي الظلام

عذيرك بعد

إذا ما التقينا بذات منام

تروح الغداة وتنسى

لكم أنت تنسى

عليك السلام

 

“أنت منذ اليوم”: رواية التشظي وما بعد الحداثة

الأثر الأهم الذي ضمن لتيسير السبول مكانة باقية هو روايته القصيرة المؤثرة “أنت منذ اليوم” التي كتبها سبول في النصف الثاني من عام 1967 وبدايات 1968، فهي تأتي على ذكر حزيران وتحاكم الهزيمة وتعرض لمقدماتها عرضا نقديا تحليليا يمتد من عام 1948، عندما كان عربي بطل الرواية طفلا في القرية، واستمع إلى أحاديث شقيقه العائد من الجبهة عن نفاد الرصاص وعن أوامر الانسحاب. ثم يتتبع عبر لقطاته الدالة مظاهر فساد الواقع وخرابه على مدى السنوات التالية التي أوصلت الأمة إلى هزيمة عام 1967.

ويتوقف عند صور من خراب الحياة الثقافية والأدبية، ومشاهد من خراب السياسة الرسمية والحياة الحزبية والعنف الذي يتكشف في ممارسات الحزبيين والسياسيين ورجال المباحث الذي عرفهم عربي في غير عاصمة عربية. وتتسع الرواية على كثافتها لوجوه من تعرية الواقع في عواصم ومدن بلاد الشام ويشير فيها إلى تأرجح تلك المدن بين وجوه الانقلابات والقمع وخراب الواقع المجتمعي على مستوى الأسر ومستوى التكوينات الأعقد. كما صور السبول معاينة بطله المأساوي عربي للجسر المهدم على نهر الأردن ووصف جثة الجندي المرمية قرب الجسر التي تشير إلى رائحة الهزيمة، ولكنها لا تخل ببسالة الشهداء وتضحياتهم.

فهي رواية شديدة التميز واضحة التجديد قياسا إلى نهاية الستينيات، وهي من أوائل الروايات التي تمردت على الواقع عبر نقده وتعريته، مثلما تمردت على تقاليد النوع الروائي فكسرت انتظام الزمن وخرجت على العناصر التقليدية لتميل إلى نمط شفيف من الكثافة والاختزال، بحيث تغني اللقطة والصورة عن الحكاية الممتدة، أو عن السرد التفصيلي المتتابع.

 

رواية التقنيات الجريئة والحديثة

وهكذا انفتحت الرواية على أنماط من التقنيات المتداخلة الجريئة: من استخدام الكوابيس والأحلام إلى تفتيت المكان والزمان، وتوظيف المفارقة والسخرية والتناقض، واستخدام التقنية السينمائية عبر فعالية القطع والحذف والتجوال بحرية بين الصور والمشاهد.

إضافة إلى محاولة استيحاء التاريخ وتوظيف مواقف تراثية تضيء رؤية الكاتب وكتابته، ولا يغيب عنها لمحات من الخصوصية المحلية التي تتمظهر في عدد من الأمثال والأقوال الشائعة أو في تعبيرات محددة تعيد الرواية استعمالها مع الوعي بدورها في السياق الروائي.

كذلك تمتاز الرواية على قصرها بانشغال الكاتب بلغته الروائية التي تميزت بتعدد طبقاتها ومستوياتها، من اللغة السردية إلى لغة الشعر، وحتى اللغة الإعلامية التي تتضح عندما تتعرض الرواية للإذاعات ووسائل الإعلام، وكذلك تغدو الرواية معرضا للغات طوائف وطبقات من البشر، من المثقفين والسياسيين والعسكر ورجال المباحث والطلبة والحزبيين والعشاق وبنات الليل، وهو في كل موقف يسعى إلى تناسب اللغة مع سياقها وكأنه ينظر إلى ما نعرفه اليوم باسم تعدد اللغات والأصوات.

ومن اللافت أيضا استخدامه المبكر لتقنية “الميتا سرد” في الموقف الذي تحدث فيه عربي مع بعض أصدقائه عن الشيء الغامض الذي يكتبه. كما اعتمد أيضا على تنويع الراوي بين الراوي المتكلم “عربي يروي عن نفسه” بما يقترب من حدود السيرة الذاتية، وبين الراوي العليم أو كلي المعرفة الذي يروي بضمير الغائب، وقد مزج بين الطريقتين في مواقف ومشاهد متقاربة متداخلة على نحو تجريبي لا تخطئه القراءة الواعية.

ورغم كل هذا الكم من التنويع في التقنيات ظلت الرواية محتفظة بلمسات من العفوية والتدفق، ولم تبد مصنوعة أو مركبة لأداء تلك التقنيات الهامة، ولعل القارئ الذي لا تعنيه لعبة السرد في مستواها التقني يتوقف عند تلك العفوية وذلك التدفق، بما يمنحانه للرواية من يسر القراءة وكثافتها الانفعالية على نحو تأثيري يشبه تأثير الشعر لا السرد.

لفتت “أنت منذ اليوم” رغم أنها رواية قصيرة وليست رواية بالمعنى التجنيسي الدارسين والنقاد والقراء على اختلاف طبقاتهم، فهي عندما تقرأ قراءة عامة تبدو رواية مؤثرة ممتعة رغم بنائها المفكك، لأن هذا البناء جاء قصديا واعيا، وليس نتاج غياب الأدوات السردية أو الجهل بقوانين الرواية، كما وفرت للنقاد والمتخصصين فرصة معاينة صور شتى من التقنيات السردية واختبار قيمتها ومدى ما يمكن أن تقدمه للرواية العربية الجديدة.

وقد ذهب كثير من النقاد أنها في طليعة روايات الحداثة، وذهب بعضهم إلى ما هو أبعد، أي إلى أنها رواية ما بعد حداثية، بالنظر إلى فكرة التفكيك والتفتيت المهيمنين على منطوقها دون هوادة.

 

تسجيل آثار نكسة حزيران 1967

ربط النقاد والقراء هذه الرواية القصيرة بهزيمة حزيران 1967، وهي مرتبطة بها ارتباطا قويا، إذ كتبت بعيد الهزيمة، ونالت مناخات حزيران ومجريات الحرب والهزيمة اهتماما جليا من المؤلف، وبدت شديدة التأثير على الشخصية “عربي”، والفصول الثلاثة الأخيرة هي الفصول المركزة التي صورت فيها الرواية آثار الهزيمة، وتضمنت سرد زيارة “عربي” للجسر ونهر الأردن كأنه يعاين الآثار المباشرة ويضع نفسه في قلبها.

وهي رحلة حقيقية غير متخيلة قام بها تيسير السبول مع عدد من رفاقه بعيد انتهاء الحرب، ووفق شهادة صادق عبد الحق كان تيسير مشدوها متألما يردد اللازمة الغنائية للقصيدة أو الأنشودة الوطنية التي اختصر منها عنوان روايته “أنت منذ اليوم لي يا وطني”.

كشفت الهزيمة عن تمزق الواقع العربي وتهتكه، وأنه ليس متماسكا ولا متينا، وأنه واقع مليء بالعيوب على الأصعدة المختلفة، وجاءت رواية السبول لتترجم هذا التشقق والتمزق بصيغة سردية مغايرة للسائد الروائي آنذاك، مؤذنة بغياب السرد المنتظم المتسلسل، لصالح اللابنية، ولصالح التشظي والتمزق في الشكل القصصي والبنية السردية.

ولعل هذا الشكل المشظى هو أبرز ما قدمته الرواية في مغامرة سردية جديدة في نهاية ستينيات القرن العشرين، فكان لها -مع روايات عربية قليلة- قصب السبق إلى تقديم خيارات الرواية العربية الجديدة، والإيذان بالخروج على انتظام الرواية الواقعية وتسلسلها ومنطقها المحسوب.

جزأ الكاتب الراحل روايته تجزئة قصدية إلى 9 فصول، يبرز انقسامها بالأرقام المتسلسلة، وكل فصل منها يتجزأ هو الآخر إلى وحدات فرعية قصيرة، وما من خط أو مسار يمكن للقارئ أو الكاتب متابعته وتطويره، وإنما هناك لوحات أو صور أو مِزَق وأشتات مختارة، يكتفي المؤلف منها باختيار ذراها الصياغية والتعبيرية الدالة، ويميل إلى التكثيف والاجتزاء والحذف، دون أن يتخلى في كل ذلك عن روح النقد والمساءلة والكشف عن العيوب والنقائص ووجوه الخلل، في المؤسسات الاجتماعية (الأسرة)، أو الدينية (الخطباء والوعاظ)، أو المؤسسات الثقافية (نقد الطبقة المثقفة)، أو المؤسسات السياسية (الأحزاب)، أو حتى الدولة (السلطة). فهي بهذا المعنى رواية ناقدة تتخذ موقفا صريحا من الواقع المتعفن الشبيه بصحن الفستق الذي عجز عربي عن العثور على حبة غير متعفنة فيه.

وبطل الرواية ليس بطلا وإنما أقرب إلى ضحية تارة، وإلى مشارك في الاستغلال، ومساهم في الواقع العفن، فهو ليس خارج عفونة الواقع، ولم يسلم من الكشف عن وجوه ضعفه وتردده وقلة حيلته، فقد وصفت الرواية اعترافه غير المبرر على صديقه الشعوبي “الشيوعي” أمام مباحث أمن الدولة، ووصفت استغلاله للفتاة اللاجئة “عائشة” وتذرعه بأن فقدان الوطن وضياعه لم يبق مجالا للحفاظ على الشرف.

ورغم قصر الرواية واقترابها من شكل “الرواية القصيرة” فإنها بما فيها من كثافة وتركيز وحيوية، قد انطوت على سمات كثيرة جعلت منها بداية رائدة للرواية الجديدة، أو ما بعد الحداثية وفق بعض النقاد، وتمكنت بمنظورها النقدي الجارح من تخطي السمات التقليدية إلى سمات جديدة لم تظهر بوضوح قبلها في الكتابات الروائية العربية، ومن هذه السمات:

  • غنائية الرواية وشعريتها مضمونا وتعبيرا.
  • تقديم رواية اللوحات والصور المجزأة غير التامة المراوحة الحرة بين السرد والحوار والوصف بحيوية وكثافة.
  • توظيف الكوابيس والأحلام بطريقة جديدة تكشف عن سيكولوجيا الشخصية وجراحها ومكبوتاتها حديث الرواية عن نفسها مما يدخل في تقنية “الميتا سرد”.
  • التناص الانتقائي من خلال اللمحات التاريخية المرتبطة بدلائل القمع في التاريخ القديم.
  • الجرأة في توظيف اللغة اليومية والمحكية، وجمل من الأغاني والأناشيد وصور الثقافة العامة، بوصفها جزءا من السياق الثقافي المقصود بالنقد والمساءلة.
  • تجريد الأماكن وعدم تسميتها تسمية مباشرة، والميل إلى التعامل الإيحائي مع المكان دون كشفه كشفا صريحا مباشرا.
  • لمحات السخرية من خلال المفارقات والتباينات بين المتحقق والمحكي عنه والمحلوم به.

وفي كل حال يظل تيسير السبول وتظل روايته وشعره وسائر كتاباته وأحاديثه الإذاعية مادة ثقافية مميزة تشير إلى أديب مبدع مر مثل نيزك وخلف كل هذا الضجيج.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version