اقترب منّي مدفوعا على الأرجح بمكان ميلادي المسجل على البيوغرافيا المطبوعة على أغلفة كتبي بالإيطالية: “دمشق”.. وبعد التأكد من انفضاض جميع القراء من حولنا وانتهاء جلسة التوقيع، عرّفني بنفسه وطرح علي سؤاله المباشر دون الكثير من المقدمات: هل صحيح ما يقال عن (النظام) في سوريا؟

حصل ذلك قبل حوالي 6 سنوات خلال حفل الوحدة “Festà dell’Unità” في تورينو، وهي واحدة من أهم التظاهرات الثقافية في إيطاليا، وقد كنتُ مدعوة لندوة مخصصة عن أدب الثريلر رفقة عدد من الكتاب والفنانين الإيطاليين. والحقيقة أن هذه نوعية من الدعوات لا توجه عادة للكتاب العرب في الغرب والذين يشاركون عامة في الحوار العام ضمن اختصاص الحرب والإرهاب، والنسوية مقابل الذكورية (فرع الكاتبات)، أو المثلية والكويرية (فرع النضال الحقوقي). إلا أنني كنت من جهتي واضحة مع دور نشري الإيطالية بكوني غير مستعدة لحضور أي لقاء عام لا يكون محوره فنيا صرفا بعيدا عن كل هذه “الأفرع”.

والأمر يعود لكوني “ابنة البلد”، وأعلم أن القارئ الإيطالي يدرك تمام الإدراك أنه ما من كاتب في الغرب يُمنح منصة للحديث في السياسة والأيديولوجيا دون أن يكون وراءه “سيد” يمول خرجاته يطلقون عليه باللفظ الإيطالي اسم: Padrone  (بادروني). ومن هنا أتى شعار شهير لصحيفة إيطالية كبرى هي “إل فاتو كوتيديانو”: صحافة بلا “بادروني”. ومفردة “بادروني” بالمناسبة من نفس عائلة Padrino بادرينو(العرّاب)!

واعتقادي أنه لا يجري على الأغلب إطلاع الكاتب العربي لدى حضور ندوات أوروبية بدعوة من مترجميه عن هوية “البادروني” الذي يقف وراء تمويل رحلته، ويتم الاكتفاء بإخباره عادة عن جمعيات مدنية تنظم الحدث الثقافي الذي يحضُره، لتقديم انطباع يوحي بأننا أمام مهرجان شعبي ممول “من الأسفل” بالتعبير الإيطالي (أي من الجماهير وليس “من فوق” أي من طرف السّاسة).

ولكن بالتأكيد ما من عاقل من شأنه أن يصدق أن أي جمعية أهلية في العالم تعيش على تبرعات الأفراد، بل إن أحدث الإحصائيات الإيطالية تتحدث عن “انحسار كبير ومطرّد للتبرع للجمعيات الأهلية” والسبب “تراجع الثقة في منظمات القطاع الثالث” كما ورد في تقرير لصحيفة” تورينو كروناكا” نُشر بتاريخ 21 ديسمبر/كانون الأول الماضي، حيث أكد رئيس “المعهد الإيطالي للتبرع” أن واحدا من بين كل إيطاليَين “لا يثق في هذه المؤسسات”، لذا فهو لا يتبرع لها أساسا حتى إن اقتُطع المبلغ من ضرائبه، مما يجعل تمويل المنظمات المدنية يكاد يأتي بالكامل من جهات مؤسساتية تصب في برامج ثقافية تضمَن الترويج لسردياتها وتوجهها الأيديولوجي.

وعملية تمويه خطوط تمويل المهرجانات الثقافية في أوروبا (والتي يسهل تتبعها ولا تخفى على المواطن الغربي) غالبا ما تنطلي على الكاتب العربي غير المعتاد على هذه الديناميكية السلطوية المركّبة في تحريك العمل الثقافي، وهو من يجلس عادة في الندوات العربية وصورة الزعيم معلقة مباشرة فوق رأسه (ليفهم القاصي والداني دون كبير عناء هوية عرّاب الجلسة)، بينما في أوروبا يجد الكاتب العربي نفسه يُلقي بعضا من ندواته في بارات رخيصة تفوح منها رائحة العطن، للإيغال في إيهامه بقربه من الجماهير الشعبية، على الرغم من أنه يدرك يقينا أنّ مسوغ نقله للسوق الأوروبية يعود لأسباب سياسية أيديولوجية، ولكنه يجلس مع ذلك قبالة جمهور فضولي ينظر إليه بشفقة صادقة، وهو يتكلم عن الحروب الأهلية والذكورية والكويرية.

سماسرة الأدب العربي في أوروبا

وعادة ما يكون الجمهور الأوروبي ممتنا فعلا لرؤية مخلوق أسمر لطيف يرتدي ثياب البشر أتاهم من وراء البحار للحديث بلغة عصرية، تماما كمن يشاهد عرضا لطيفا في السيرك، يحصل بعده السّائس/المترجم على مكافأته المادية مباشرة من المنظمين ضمن المهرجانات الكبرى، أما في إطلالات “البارات” والمكتبات الصغيرة فغالبا ما تكون المكافأة غير مباشرة، أي أنها تأتي من الجامعة التي ينتمي إليها المترجم.

وقد أقرّت أقسام الدراسات الاستعرابية في إيطاليا، قبل سنوات قليلة، ما يطلق عليه نشاطات “القطاع الثالث” ضمن سلم تنقيط الأساتذة، وذلك يعني أن إخراج الترجمات والدراسات العربية -من أسوار الجامعة إلى فضاء التقديم بالمكتبات والمهرجانات والمعارض (أو بتعبير أدق فضاء البيع والشراء)- يساهم مباشرة في رفع رتبة الأستاذ الجامعي المترجم.

وأما الكُتاب الذين يجري استدعاؤهم لرفع الدرجة المهنية للمستعربين (ومعها راتبهم الشهري) فتقتصر مكافأتهم عادة على التأشيرة، و”سيلفيهات” ظريفة أمام معالم المدينة الشهيرة، والأهم من ذلك ما يعتقد الكاتب العربي أنه ترويج يحظى به في السوق الأوروبية يوهمه بأنه تحول إلى كاتب عالمي.

والحقيقة هي أن القارئ الغربي لا يعتبر الكُتاب القادمين مع سماسرة الأدب العربي في أوروبا سوى وكلاء بيع لأكاذيب وسرديات زائفة ممولة من جهات لا تحظى أساسا باحترامهم، فيجد الأوروبي نفسه مضطر دوما للبحث على الحقيقة بعيدا عن آلة الكذب التي غدت مكشوفة بالنسبة له.

“على هؤلاء أن يتوقفوا عن الكذب” هذا ما قاله لي بصراحة فرانتشيسكو بورغونوفو، وهو واحد من أبرز صحفيي إيطاليا المعاصرين مشيرا للمستعربين الذين وصفهم بـ”مدعي الطيبة”. وقبله، فاعل ثقافي إيطالي وجّه لي -على هامش التحضير لإحدى الندوات بخصوص الأدب العربي- سؤالا مربكا “.. هل تقول هذه الشاعرة الحقيقة أم أنها تكذب؟” هكذا ببساطة.

والواقع أن سرديات الأدباء السوريين التي أتت محفوفة في السنوات الأخيرة بالكثير من جهات التمويل السلطوية الأوروبية (والمرتبطة بالجامعات والمنظمات غير الحكومية ذات التمويل المؤسساتي) جعلت الكثير من القراء الإيطاليين يشككون في سردية الثورة السورية من أساسها. والمفزع في كل هذا هو كيفية تحول صوت الأديب العربي الذي يفترض أن يكون صوت الشعوب إلى صوت الكذب في نسخته المترجمة؟ والجواب يكمن في الخطاب الأيديولوجي، والحديث هنا تحديدا عن “سياسات الهوية” Identity politics.

فما الذي يعنيه أدب يركز على ثيمة “اضطهاد الأقليات” في بلد كان رئيسه ينتمي لواحدة من أصغر الأقليات في المنطقة، بل في العالم بأسره، ولكنه حكم مع ذلك شعبا ينتمي إلى الأغلبية طيلة عقود، وبالحديد والنار؟ وما الذي يعنيه التباكي من الذكورية في بلد كانت مرجعية نظامه العقائدية هي الماركسية؟

وما الذي يعنيه التحذير من خطر “أسلمة” سوريا في حين أن الفئة المستباحة كانت هي نفسها المسلمة؟ كيف يمكن تركيب هذه العناصر مع بعضها على نظرية “سياسات الهوية” دون أن يقع الكاتب في تناقض صارخ مع كل خطوة يخطوها، ودون أن يتوقع أن يتهمه القارئ الأوروبي بفبركة سرديته ويضعه في خانة “دجالي الفكر”؟

وهل هذا يعني أن السردية السورية كانت ضحية عملية تشويش وتشويه ممنهجة في أوروبا طيلة سنوات الثورة، قادها “مدّعو الطيبة” بتعبير بورغونوفو، من خلال دفعها إلى زوايا ميتة؟ أم أننا حيال ظاهرة كسل فكري لمثقفين اختاروا الاستكانة لأيديولوجيا مستوردة بدل نحت سرديتهم بمفردات تحترم تاريخ وخصوصية بلدهم الحضارية، والأسوأ من كل هذا الحياد هو مهمة الأدب الذي يفترض أن يكون أداة الكاتب النبيلة ليدلف بانسيابية من خلالها إلى النفس البشرية ويفهم نوازع الشر فيها بعيدا عن ضرورة سلخ نظريات أيديولوجية “على الموضة” لا تنتمي للتكوين الثقافي لمجتمعه من أجل صياغة خطاب يتواءم مع السرديات الرائجة.

سردية الثورة

والحقيقة أن ما لا يعرفه الكاتب العربي هو أن الوعي الشعبي الأوروبي بالقضايا العربية أكبر بكثير مما يتخيل. وهنا يحذر الصحفي الإيطالي الكبير “فولفيو غريمالدي” على قناة “بيوبلو” -في حوار أُجري معه بتاريخ 14 ديسمبر/كانون الأول 2024- المشاهدين من فخ الوقوع في سرديات “سياسات الهوية” الملفقة على الواقع السوري، مؤكدا أن “المنطقة العربية منطقة إستراتيجية طالما أراد الغرب تفتيتها”. ونبّه غريمالدي من ورقة الأقليات الذين سمى إحداها “رجال أميركا في سوريا الذين قد ترغب الولايات المتحدة في تحويلهم إلى كيان وظيفي آخر في المنطقة يشبه الكيان الصهيوني”. وليس بعيدا عن كل هذا يرى الإيطاليون مستعربيهم يشتغلون طيلة سنوات على ترجمة أدبيات “الأقليات المتأمركة” والترويج المحموم لخطاباتها حول المنطقة العربية ضمن جميع الفضاءات الثقافية المتاحة.

لذا فأول ما ينبغي أن يبدأ الكاتب العربي بمعرفته عن القارئ الغربي أنه ليس بالسذاجة التي يتصورها، أو يخاله وعاءً فارغا ينتظر ملأه بأي سردية يتم تركيبها كيفما اتفق، ذلك أن فجوات السرديات المهلهلة لا تسدها حالات البكاء على المسرح وأجواء الانهيارات العاطفية التي تتخلل تقديمات المترجمين الإيطاليين لكتابهم وشعرائهم العرب. إنها مشهديات لا تدغدغ مشاعر أحد بقدر ما تثير شعور التقزز لدى الأوروبي من حالة استعراضية هزيلة تشبه تماما التقرير الذي سجلته مراسلة قناة “سي إن إن” بعد سقوط النظام السوري، والذي ادعت فيه أنها حررت معتقلا سوريا من سجون النظام ليتبين لاحقا أن المشهد كان تمثيليا، والأسوأ أن “المعتقل” المزعوم ضابط في فرع المخابرات الجوية.

ولعل ما لا يعرفه الكاتب العربي أيضا أن الجمهور الغربي قد سئم من كم الزيف الذي يحف كل السرديات التي أصبحت تقدم له، وقد بات للأسف أبرز المتهمين بالتواطؤ معها. لذا قد يكون من المفيد في هذا السياق التذكير برسالةٍ كتبها جورجيو أغامبين، وهو واحد من أبرز الفلاسفة الإيطاليين وفلاسفة الغرب في التاريخ المعاصر، تحدث فيها عن السعي المحموم لتدجين المثقفين في الغرب، وبشاعة الانصياع لصناع السرديات الزائفة.

لكن الأبشع من ذلك الادعاء بعدم معرفة ما يحصل في أروقة صناعة الكذب والاستمرار في طاعة أوامر “السادة”: وفي الوضع الكئيب الذي نعيشه، ثمة أحيانا أخبار جيدة. أحدها بالنسبة لي هو قرار ما يسمى بكبريات الصحف عدم مراجعة كتبي أو مجرد ذكر اسمي بأي شكل من الأشكال.

والواقع أن ظهور اسمي على تلك الصفحات من شأنه أن يزعجني، لذا لا يسعني سوى أن أكون ممتنًا للصحفيين على قرارهم هذا. ولكن عندما يعود المؤرخون في يوم من الأيام للتحقيق في الماضي، ستظهر وسائل الإعلام في طليعة المتواطئين. تماما كما حدث خلال 20 عامًا من حكم الفاشية، كانوا بلا شك يعرفون ولكنهم يطيعون أوامر سادتهم.. ليختم صاحب “الإنسان المستباح” رسالته التي وقّعها بتاريخ 12 سبتمبر/أيلول 2022، بسؤال مرير: “لماذا صمتوا؟ لماذا أطاعوا؟”.

وهكذا جرى عزل فيلسوف عملاق بحجم أغامبين من النقاش العام لمجرد تعارض رؤيته مع السرديات المهيمنة، في حين أن سرديات الكتاب الغثة والمستلة من نظريات اجتماعية مرقّعة على الواقع العربي تُدرّس ضمن مقررات الأدب والحضارة العربية في الجامعات الأوربية، وتُمنح أيضا الجوائز المتنوعة، وكل ذلك لإنتاج تاريخ ملفّق لشعوب المنطقة. ليغدو الأدب العربي مترجمًا أداة المستعمرين الجدد في تزييف الوعي وصناعة تاريخ مفبرك لأوطان لا يزالون يحلمون باستباحتها.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version