يهتم علم اجتماع النصوص الروائية بتحليل الأعمال من الداخل تحليلًا يعتمد على المستوى التركيبي للنص، ليكشف من خلاله عن العلاقات الاجتماعية بين الواقع المعيش وعالم الرواية.

ميخائيل ميخايلوفيتش باختين (1895-1975) ممن قدموا إسهامات معتبرة في هذا السياق، فهو منظر وناقد روسي يعد من أشهر نقاد القرن الماضي، درس أعمال مواطنه فيودور دوستويفسكي (1821-1881) دراسة متأنية، ثم أصدر كتابا عنوانه “شعرية دوستويفسكي”، عام 1929، يعد من أفضل ما كتب عن صاحب “الجريمة والعقاب”، شكل من خلاله نظرية نقدية ذات تأثير متنام.

في الكتاب، عالج باختين جانبي الشكل والمضمون (الأيديولوجية) بما يلغي القطيعة بينهما، وتوصل من خلاله إلى عدد من الاستنتاجات، في مقدمتها أن “دوستويفسكي هو مبتكر الرواية المتعددة الأصوات”، وقال مؤكدا ذلك “لقد أوجد صنفا روائيا جديدا بصورة جوهرية”، وفند مزاعم النقاد القائلين إن شخصيات دوستويفسكي فلاسفة ومفكرون يتحدثون باسمه.

مصطلح “تعدد الأصوات” -وهو من مسكوكات باختين- يضاهي مصطلحا آخر عنده هو “الحوارية”، فالرواية المتعددة الأصوات البوليفونية Polyphonie) ) هي الرواية الحوارية Dialogisme)) أو الديالوجية، وتقابلها الرواية التقليدية، الأحادية الصوت، أو الرواية المناجاتية أو المونولوجية (Monologisme)، تلك التي رفضها باختين جملة وتفصيلا.

مصطلح تعدد الأصوات نجد معناه لدى نقاد آخرين بأسماء مغايرة منهم من سبق باختين، مثل هنري جيمس الذي سماه “وجهة النظر”، ومنهم من لحقه مثل جيرار جينيت الذي أطلق عليه “التبئير”، ثم تزفيتان تودوروف الذي خلع عليه تسمية “الرؤية السردية/ الرؤية من زوايا مختلفة”.

يميز باختين بين الخطاب الأحادي (المونولج) والخطاب الحواري المتعدد الأصوات؛ فالأول يناسب الخطاب الملحمي والخطاب التاريخي والخطاب العلمي، والثاني يناسب الرواية.

"ميخائيل باختين" الفيلسوف الروسي ومنظر الثقافة والفن الأوروبي ميخائيل ميخايلوفيتش باختين

انبنى رفض الرواية الأحادية الصوت على فكرة وجيهة، فهي تقدم وجهة نظر واحدة، دكتاتورية تسعى لتأكيد أيديولوجيا واحدة، لا تتيح التنوع الفكري والاجتماعي والسياسي… إلخ، لذلك فإنها لا تمثل الواقع الجديد في شيء، ذلك الواقع الذي يموج بهويات مختلفة ومتصارعة وأيديولوجيات متشابكة ومعقدة، لا سيما أن الطبيعة -بجوهر تركيبها- متعددة الأصوات، وعليه فإن إفساح المجال للتعددية أضحى ضربة لازب!

يرى عدد من الباحثين والنقاد أن تعدد الأصوات ظهر في روسيا مع ظهور الرأسمالية، وذهب بعضهم إلى أن الإنجليزي وليم شكسبير والفرنسي أونوريه دي بلزاك سبقا دوستويفسكي إلى تعدد الأصوات، استنادا إلى أنهما عاصرا موجة من الرأسمالية، غير أن باختين يفند ذلك، ويرى أسبقية دوستويفسكي في هذا المضمار، ويقول إن بعض تلك الملامح ظهرت في مجمل أعمال شكسبير، لكنها ليست موجودة مجتمعة في مسرحية واحدة من كتاباته.

زعم جورج لوكاتش أن “الرواية هي النوع النموذجي للمجتمع البرجوازي”، وأشار إلى أن “تناقضات المجتمع الرأسمالي هي التي تقدم لنا مفتاح فهم الرواية من حيث إنها نوع أدبي قائم بذاته”، نفهم من ذلك أنه بغياب المجتمع البرجوازي ستنفض سوق الرواية، لكن الواقع الراهن يخالف ما ذهب إليه لوكاتش.

يختلف تعدد الأصوات عما عرفته أنواع أدبية باسم “صوت المؤلف”، فالتعبير اللغوي يبدو مباشرا في أعمال مثل الشعر الغنائي والملحمة والقصيدة القصصية، بينما تجده بصورة مغايرة في الرواية وما يشبهها من الأعمال الأدبية، فشخصية المؤلف هنا تتخلل شخصيات العمل وتتوزع بينها، ولا تعبر عن نفسها بفجاجة، إذ لا وجود للعزف المنفرد، إنه عمل أوركسترا تتواشج فيه الآراء والرؤى وتتصارع.

لتحقيق مبدأ الحوارية، يشدد باختين على “حياد المؤلف”، إذ يجب أن يقف الكاتب على مسافة واحدة من كل الأيديولوجيات المعروضة في عمله، ويحتفظ بموقفه لنفسه ولا يدافع عنه في الرواية، وعليه “أن يطرح أشكال الوعي الأخرى التي تناقض موقفه”. مع ذلك توجد بعض الحيل التي يتوسل بها المبدع للتأثير في المتلقي بشكل غير مباشر، وسيأتي الحديث عن بعض حيل عبد الله بن المقفع والجاحظ وأبي حيان التوحيدي.

إذا طبقنا ذلك على أعمال دوستويفسكي فإننا نجده حياديا، فلا يتقمص شخصية من شخوصه الروائية يقدم من خلالها أفكاره الخاصة (بطل إيجابي)، ويوجِد لها ندا أو خصما (بطل سلبي) يعيره كل ما يرفضه -دوستويفسكي- من أفكار، إنما يعرض بضاعة هذا وذاك دون أن يتبنى أحدهما، فكأننا في برلمان أدبي عزّ نظيره في دنيا الواقع.

بكثير من الاطمئنان نقول إن تعدد الأصوات يشي بديمقراطية العمل الروائي، فالسارد/الراوي لا يستلب المتلقي، إنما يعرض زوايا مختلفة ودلالات متصارعة، لا يهيمن على مجريات الأحداث، يترك لكل شخصية مساحة للتعبير عن هواجسها وتطلعاتها وأفكارها واهتماماتها، لا يحاكمها أخلاقيا أو يحجر عليها، يترك ذلك للقارئ، دوره أن ينقل الأحداث بحرفية وحنكة.

ألغى تعدد الأصوات في الأعمال الروائية هيمنة السارد، لا سيما في الرواية التقليدية التي تعكس دكتاتورية يئن منها الواقع الاجتماعي والسياسي، ويسعى للفكاك من إسارها بكل حيلة ووسيلة، فإن لم ينجح في عالم الواقع المعيش، فلا أقل من أن ينتصر في عالم التخييل.

بالحديث عن حياد الكاتب، لم يكن هنري جيمس أول من تمرد على سلطان “الراوي العليم” الكلي المعرفة والمقدرة، المميز للرواية التقليدية، الممسك بخيوط اللعبة بين يديه وتفاصيل الأحداث كافة. يعيد بعض النقاد إلى أرسطو وأفلاطون هذا التمرد، لا سيما في حديثهما عن الفرق بين منظور الراوي ومنطوق الأصوات، فنجد أن أرسطو يمتدح اختفاء الراوي لصالح الأصوات.

لعلك تسأل: أين صوت الكاتب أو المبدع من أصوات شخوص عمله؟ حياد الكاتب ضروري لتحقيق مبدأ الحوارية، فهو يحتفظ بموقفه لنفسه ولا يدافع عنه في الرواية، يترك كل شخصية تتصرف وفق هواها وطبيعتها الخاصة. في الرواية المتعددة الأصوات يصعب على القارئ أن يعرف على وجه الدقة إلى أي طرف يميل المؤلف، يرتبط ذلك بقدرة المؤلف على إدارة الصراع الأيديولوجي بين شخصياته بصورة محايدة أو شبه محايدة.

تأسيسا على ما تقدم، تكمن براعة الكاتب في التخفي وراء شخصياته، أن يتشظى موزعا اقتناعاته أو أفكاره بين شخوص عمله، برع الجاحظ في ذلك، انظر مثلا “البخلاء”، تجده يقدم سيلا من الطرف والنوادر منها 24 طرفة -متفاوتة الطول- عن بخل أهل خراسان، لم يقنع خلالها بالمباشرة في عرضه الأدبي، إنما تخفى لتمرير رسائل ناقدة للمجتمع وللسلطة، فيستتر في إحداها وراء شخصية عجائبية، مثل الديك المروزي الذي أتقن البخل بمعاشرة أهل مرو، أو يعمد إلى المبالغة أو السخرية والتهكم على الطريقة الكاريكاتيرية كصنيعه في كتاب “التربيع والتدوير”، أو من خلال تفعيل احتجاجاته الفكاهية… إلخ.

على ذكر الجاحظ، فإن أبا حيان التوحيدي وابن العميد الكبير والصاحب بن عباد كانوا يتنافسون على لقب ”الجاحظ الثاني“، ومن نافلة القول أن يتأثروا بهذا العلم الفذ، وعليه نجد التوحيدي في “الإمتاع والمؤانسة” يجيب عن أسئلة صديقه أبي الوفاء المهندس والوزير ابن سعدان، وفي إجاباته نلمس حضورا قويا لتعدد الأصوات، إذ يستند في إجاباته إلى مقولات آخرين لمعارضتها أو للتخفي وراءها، وهي حيلة أخرى من حيل المبدع لتقديم أفكاره وطرحها على المتلقي.

لعل محاورات التوحيدي مع معاصريه تحيل إلى محاورات أفلاطون، تلك التي عدها باختين “صنفا أدبيا تحرر من قيوده التاريخية المتعلقة بالذكريات، واتسم بالطابع الأدبي الحر”.

الرواية والأيديولوجيا

وفق باختين، فإن الخصائص الأسلوبية والفنية للرواية المتعددة الأصوات تتمثل في تعدد الرؤى الأيديولوجية، تعدد الشخصيات، تعدد اللغات والأساليب، تعدد المنظورات السردية، فضلا عن تعدد الأجناس والأنواع الأدبية.

لا بد أن تكون الرواية حاملة لأيديولوجيات متصارعة، ويستلزم تعدد الأصوات تباين أيديولوجيات الشخصيات بما يضفي على العمل حيوية أكبر، ومن ثم فإن الرواية البوليفونية “ينبغي أن تتأسس على تباين أصوات فردية، وتنوع كلامي منظم اجتماعيا وفنيا”.

يرتكز الخطاب -في الرواية المتعددة الأصوات- على أيديولوجيا، فالمتكلم في الرواية دائما منتج أيديولوجيا ولو بدرجات مختلفة، وتمثل كلماته عينة أيديولوجية، هذا ما يؤكده باختين في أكثر من كتاب، ففي “الماركسية وفلسفة اللغة” مثلا يقول “الخطاب المكتوب -بشكل من الأشكال- جزء لا يتجزأ من نقاش أيديولوجي يمتد على نطاق واسع جدا، إنه يرد على شيء ما، يفند ويؤكد، يستبق الأجوبة والاعتراضات المحتملة، ويبحث عن سند”.

ولكون الخطاب جزءا من نقاش ممتد على نطاق واسع، فهذا يشير ضمنيا إلى مفهوم تداخل/تعالق النصوص، وبالقفز في دائرة ستينيات القرن الماضي، تحديدا بين عامي 1966 و1967، ستأتي جوليا كريستيفا بعد أستاذها باختين، لتنحت مصطلح “التناص” (Intertextuality)، وهو ما يعرف بالتعالق النصي، ذاهبة إلى أن “كل نص يتشكل في صورة فسيفساء من الاستشهادات، فكل نص امتصاص وتحويل لنص آخر”، من بعدها سيتوسع جيرار جينيت في مفهوم التناص، ثم تزفيتان تودوروف، ولهذا حديث سيأتي.

الرواية والمستويات اللغوية

اللغة صورة للتشخيص الأدبي، إذ تتواجه كل النغمات الاجتماعية المتعارضة في حلبة الكلمة، فضلا عن أن اللغة وحدة قيام الرواية؛ فمن دون لغة لا يوجد فن أدبي بالأساس. اللغة الوحيدة القادرة على التعبير بالإشارات والرموز هي تلك الموجودة في الرواية، لا غرو إذن أن يصف باختين الرواية بأنها “ظاهرة لغوية”، ويدعم ذلك بمنظورين؛ لساني واجتماعي.

حسب باختين، يتحقق المبدأ الحواري عبر تعدد اللغات “لأن الرواية جزء من ثقافة المجتمع، هذه الثقافة تشكلها خطابات الذاكرة الجماعية، كل واحد يحدد موقفه من تلك الخطابات”. استخدم باختين مصطلح “صورة اللغة” لكن الوقوف على المقصود به يبقى مربكا لأنه مفهوم شديد التجريد، غير أن طرق تحقيق هذا المصطلح تقرب المراد منه، وسيأتي تفصيل ذلك.

يفهم من ذلك أنه كلما تعددت اللغات تعددت الأيديولوجيات والأصوات، والعكس صحيح، تأسيسا على أن لغة الشخصية الروائية يجب أن تتوحد مع رؤيتها للعالم.

اللغة محملة بالأيديولوجيا، ويتأسس تعدد اللغات على تعدد المواقف الأيديولوجية والرؤى؛ مما يفيد بالضرورة أن التعدد الصوتي يستوجب تعدد المستويات اللغوية، فكل جيل يمتلك ذخيرة عامة من المصطلحات والألفاظ والتعبيرات، فضلا عن لهجته المميزة ومعجم مفرداته ونسقه من التعبير الخاص، وتختلف كذلك وفق المستوى الاجتماعي والتعليمي والثقافي والعملي وغير ذلك.

في كتاب “ميخائيل باختين.. المبدأ الحواري”، ينقل تزفيتان تودوروف عن باختين قوله “كل كلمة تفوح برائحة مهنة، ونوع، واتجاه، وحزب، وعمل معين، وإنسان معين، وجيل، وعصر، ويوم، وساعة. كل كلمة تفوح برائحة السياق، والسياقات التي عاشت فيها حياتها الاجتماعية بحدة وكثافة، إن الكلمات والأشكال كلها مسكونة بالنيات. في الكلمة لا يمكن تجنب التوافقات السياقية للنوع، والاتجاه، والفرد”.

والحال هذه، يجب أن يتكلم كل شخص بصورة مميزة لثقافته وطبيعة معارفه وفكره وإنجازه وما إلى ذلك؛ فليس من المنطقي في قليل أو كثير أن يتكلم عامل البناء بلسان رائد الفضاء، أو أن يعبر الطبيب بمفردات القانون الدولي ما لم تدع إلى ذلك مسوغات مقنعة للقارئ، ولا يفهم من ذلك النقل الحرفي لكلام الآخرين، وإنما أن تتحلى الرواية بالتنوع الكلامي.

بتطبيق مبدأ الحوارية والتعدد اللغوي لا يصبح أسلوب الرواية رهن أسلوب مبدعها، بل يصبح أسلوب الشخوص الروائية، وعليه فإن تعدد الأصوات في العمل الروائي يتيح إدخال مستويات لغوية وسردية عدة. لكن لماذا يتكئ العمل الروائي على التنوع أو التعدد اللغوي؟

يشير باختين إلى أن التنوع اللغوي يحرر النص الأدبي من سلطة الفرد أو اللغة/النبرة الواحدة، ومن ثم الرؤية الواحدة، فضلا عن أن اللغة تؤدي مهمة اجتماعية وأخرى لسانية. كذلك فهو أقرب إلى دنيا الناس، مما يضفي على العمل درجة أكبر من القبول والتفاعل معها، وبقدر اقترابها من المتلقي تحصد الأعمال الأدبية رواجا واهتماما.

هنا يطل السؤال الحيوي: كيف يحقق الروائي معادلة التنوع الكلامي في عمله بكفاءة؟ بصيغة أخرى: ما أشكال التنوع اللغوي في العمل الروائي؟

تنقسم أشكال التنوع اللغوي في العمل الروائي إلى: أقوال الشخوص الروائية، الأجناس المتخللة، التشخيص الروائي للغة، تنضيد اللغة. ونجد التنوع الكلامي حسب باختين “يتحقق من خلال التهجين والأسلبة وتعالق اللغات القائم على الحوار”، هذه طرائق إبداع “صورة اللغة” في الرواية، من نافلة القول ذكر أن التنوع الكلامي في الأعمال الروائية أوسع من التهجين والأسلبة والتعالق، لكنها أكثر الأوجه استعمالا، كذلك فإن الحدود الدلالية بينها متداخلة نوعا ما، وسيتبين ذلك في السطور اللاحقة.

  • التهجين L’hybridation

يكون التهجين بين كلام حاضر وآخر غائب، يعرفه باختين بأنه “مزج لغتين اجتماعيتين داخل ملفوظ واحد، أو التقاء وعيين لغويين مفصولين بحقبة زمنية وبفارق اجتماعي، أو بهما معا، داخل ذلك الملفوظ”، ولا بد أن يكون قصديا. في هذه الحالة، لدينا متكلم واحد يتحدث لغتين أو بوعيين لغويين أو ملفوظين، فينتج رؤيتين للعالم (رؤية معاصرة + رؤية تراثية).

يميز باختين بين نوعين من التهجين: التهجين اللإرادي، والتهجين القصدي الإرادي؛ فالتهجين اللاإرادي “يكون بلا وعي ولا إرادة، وتنتج عنه تراكيب ثنائية اللغة لكنها وحيدة الصوت”. من ذلك مثلا الكلمات الأجنبية المكتوبة بحروف عربية، والكلمات العامية الممتزجة بالفصحى، وهو تهجين يدل على أن الإنسان لا يستطيع العيش معزولا عن لغة حياته اليومية، ويؤكد أن اللغة الأدبية ترتبط -إن طوعا وإن كرها- بلغة الواقع المعيش.

أما التهجين الإرادي فيكون بالتضمين والنقل، فتجد مقولات من القرآن الكريم، الأحاديث النبوية وأقوال الصالحين، التراث، الأساطير، الأمثال والحكم، العبارات المسكوكة. هذا النوع من التهجين يوجِد مسافة جمالية بين اللغات والأساليب داخل العمل.

 

  • الأسلبة La Stylisation

الأسلبة تشخيص أدبي لكلام وأسلوب الآخرين، تعد أكثر النماذج الممثلة لـ”تعالق اللغات القائم على الحوار”، ومن خلالها يجمع بين أسلوب معاصر وأسلوب تراثي في ملفوظ واحد، أو بتعبير جميل لحمداني “الجمع بين لغة مباشرة (أ) من خلال لغة ضمنية (ب) في ملفوظ واحد”، وهما الوعي المصور (المؤسلب).

من أمثلة الأسلبة المزج بين الكلام العادي والشعر، المفردات والتعابير السحرية، أو لغة الصوفية، كل ذلك يوجِد حوارية ضمنية بين الحاضر والتراث، ويؤكد أن معمار الرواية لا يشيد بلغة واحدة، وأن تعددية الأصوات اللغوية ضروري لذلك.

تختلف الأسلبة عن التهجين في أنها لا تشمل توحيد اللغتين بصورة مباشرة في ملفوظ واحد، فيراها باختين “إضاءة متبادلة بين اللغات ذات الصيغة الحوارية الداخلية”.

يفرق باختين بين ثلاثة أنماط من الأسلبة؛ الأسلبة المباشرة والتنويع والأسلبة البارودية، الأسلبة المباشرة تقدم لغة تراثية في ضوء لغة عصرية، لكن الطابع الغالب على الملفوظ هو لغة التراث من حيث معجمها وحمولتها الفكرية، وتعمل اللغة العصرية في الخفاء، ونستشف تأثيراتها من السياق، نلتقط بذلك الانتقادات الساخرة المضمنة في الملفوظ.

أما التنويع فلغة تراثية مقدمة في ضوء لغة عصرية، الطابع الغالب على الملفوظ هو اللغة المعاصرة من حيث معجمها وحمولتها الفكرية، فتنتقد لغة التراث بلغة معاصرة مجسدة وحاضرة في الملفوظ.

  • المحاكاة الساخرة Parody

المحاكاة الساخرة (الباروديا) أسلوب في إيراد أقوال الآخرين ومحاكاتها بصورة ساخرة. يعرفها باختين بأنها “تنهض على ساق التعارض المطلق بين مقاصد ونيات اللغة المشخِصة، ونيات اللغة المشخَصة”.

وتعد من الأساليب التي تتيح للمتكلم أن يقول شيئا وهو يريد غيره، يعمد إلى تفعيلها لأسباب مختلفة، لعلك تذكر مثلا لجوء عبد الله بن المقفع إلى الحكي على ألسنة الحيوانات في “كليلة ودمنة”، وإن لم يشفع له ذلك لدى السلطة ممثلة في أبي جعفر المنصور، الذي أمر بقتل ابن المقفع، وقد كان!

من خلال دراسته أدب فرانسوا رابيليه، قدم باختين نظرية “ثقافة الأدب الشعبي الساخر”، وذهب إلى أن الرواية جاءت من القاع الشعبي وثقافة الضحك الشعبي، فقال “يملك الضحك قدرة مدهشة على تقريب الشيء… الضحك يزيل الخوف والاحترام الخاشع أمام الشيء وأمام العالم”، وعنده أن الرواية الهزلية هي المثلى في تقديم المضامين الساخرة، وكذلك في تحقق تعدد الأصوات وتحاورها، ونجد دومينيك منغنو يشبه السخرية بطريقة الاستعارة “ففي الملفوظ الواحد معنى وتحريف له”.

من السخرية تقليد الشخص البسيط لأسلوب الفصاحة البرلمانية أو الشخصيات العامة، وكذلك استحضار أقوال الآخرين الجادة من طبقات اجتماعية مختلفة وانتقادهم بطريقة ساخرة وهازئة. يتعين على المبدع أن يوظف الباروديا في كل الخطابات الصادرة، لأن تفعيلها لصالح جانب واحد يشي ضمنيا بأن الكاتب يتبنّى هذا الموقف، ويخل بمبدأ حياد الكاتب، في حين أن مبدأ الحوارية يتأسس على إخفاء صوت المبدع وإتاحة الفرصة لأصوات الشخصيات أو الكائنات الحبرية التي هي من بنات خياله.

بالنظر في تراثنا العربي، نجد أمثلة تستعصي على الحصر لتوظيف المحاكاة الساخرة، خذ مثلا (أخلاق/مثالب الوزيرين) للتوحيدي، إذ جمع فيه كثرة كاثرة من مثالب الصاحب بن عباد وأستاذه أبي الفضل بن العميد.

  • أقوال الشخوص الروائية

يمثل الحوار الشكل التقليدي للتبادل اللفظي، لا تخلو الحوارات من دلالات اجتماعية مثل الصراع الفكري بين قوى عدة، تفاعل أنماط وعي مختلفة داخليا وخارجيا، تفاعل فكري يعكس اختلاف الرؤى اتجاه الحياة. لذلك لا تخلو رواية من هذا النوع، لا سيما أن “الحوار الخالص يوازي الحوار الذي يتخلل سيرورة الحكي، سواء أكان في شكل حوارات مباشرة بين شخوص العمل الروائي، أو على هيئة الحوار الداخلي (المونولوج).

تنوع لغات المجتمع يجب أن ينعكس في الرواية من خلال الحوار بين شخوصها، ولأن الشخوص متباينة الثقافة والرؤى والتوجهات والسلوك، فلا بد أن يظهر ذلك في لغتهم المستخدمة؛ مما يؤدي بالضرورة إلى تعدد الأصوات والتعدد اللغوي اللذين ارتبطا باسم ميخائيل باختين، أحد أهم نقاد القرن الماضي، أو أن يظهر ذلك في “التشكيل اللغوي”، وفق مصطلح الباحثة كات هامبورغر.

ومن واجب الكاتب أن يعرض أقوال الشخوص الروائية مع الحفاظ على خصوصيتها. هنا ننبه إلى أن باختين حصر أقوال الشخوص الروائية في صيغة الحوار المباشر بينها.

  • الأجناس المتخللة

الأجناس التعبيرية الأدبية المتخللة في العمل الروائي تشمل (الوصية، الشعر، الأغنية الشعبية، الحكاية الشعبية، المثل، الأسطورة، مقاطع كوميدية)، والأجناس التعبيرية غير الأدبية منها (القرآن الكريم، الحديث النبوي، التاريخ، دراسات عن السلوك، نصوص دينية، بلاغية، علمية، جغرافية… إلخ).

من هنا ظهر القول إن الرواية جنس تعبيري مفتوح أو “جنس هجين”، أي تستوعب الأجناس التعبيرية الأخرى، يؤطر ذلك قول ميلان كونديرا “للرواية ملكة استثنائية في الاستيعاب”، أي استيعاب الأجناس المختلفة للتعبير.

هذه الأجناس بدخولها عالم الرواية تحافظ على مرونتها الدلالية ونسقها الأسلوبي، وكذلك تؤثر في لغة الرواية لأن تلك الأنواع تدخل إلى الرواية بلغاتها الخاصة واصطلاحاتها المتفردة ووسائلها الأسلوبية، ومن ثم فالمسألة لا تقتصر على لغة فحسب، بل هي حوار لغات ووجهات نظر تحمل مضامين فكرية، بما يعمق النسيج الأسلوبي للرواية ويثري منظورها للعالم، كذلك فإنه باستجلاب لغات جديدة إلى الرواية تسهم الأجناس المتخللة -بدرجة ما- في كسر نيات الكاتب والحد من سلطته على “الشخصيات الورقية”، بتعبير رولان بارت.

  • التشخيص الروائي للغة

لن نبالغ إذا قلنا إن الحوارية أعظم إضافة قدمها باختين للنقد الروائي، ووفق تعبيره “الخطاب يفهم موضوعه بفضل الحوار”، ويؤكد جيرار جينيت في “نظرية السرد: من وجهة النظر إلى التبئير” مكانة الحوارية بقوله “الخطاب الذي يكونه البطل حول نفسه يتكون من الخطابات التي يكونها الآخرون حوله؛ إنه يتكلم ويفكر من خلال الآخر”، هذا يعضد كذلك أهمية فهم النفس والآخر، بما ينعكس على الكتابة والحوار بين شخوص العمل. يضيف جينيت “من هنا تتداخل أصوات متناقضة وأحكام ووجهات نظر متنوعة على فم واحد”.

ينقسم تنضيد اللغة إلى تنضيد أجناسي (أجناس أدبية، أجناس غير أدبية)، ويضم التنضيد المهني للغة (لغة المحامي، لغة الطبيب، لغة رجل الأعمال، لغة المعلم، لغة السياسي… إلخ)، بما فيها من المفردات المتخصصة والرطانة والتعبيرات الاصطلاحية واللهجات واللكنات وما إلى ذلك.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version