لطالما سعى الأدب السوري المعاصر لتصفية حساب المجتمع من السلطة السورية المستبدة، ولعب أدباء سوريون معاصرون أدوارا كبرى في الدفاع عن مجتمعهم بالإضافة للتنكيل بالطاغية والسخرية منه، ومن هؤلاء الأدباء السوريين المعاصرين المسرحي الكبير الراحل سعد الله ونوس الذي شكلت عودته إلى سوريا عام 1963 نقطة انطلاقه الفعلية، حيث كتب أعمالا متأثرة بمسرح الذهن ورمزية توفيق الحكيم.

كان لقاء ونوس بالمسرح الأوروبي خلال دراسته في باريس حاسمًا في صقل رؤيته المسرحية والفلسفية. هناك، تأثر بمدارس بريخت وبسكاتور، وتبنى الاشتراكية كموقف فكري. مع نكسة 1967، أصيب ونوس بصدمة كبرى دفعته إلى كتابة مسرحيته الشهيرة “حفلة سمر من أجل 5 حزيران”، التي شكلت بداية مشروعه “مسرح التسييس” الذي سعى خلاله لتحويل المسرح إلى مساحة للنقاش السياسي والاجتماعي، رافعًا شعار البحث عن الحقيقة في وجه الأكاذيب الرسمية. لكن الحكومة السورية حالت دون عرض هذه المسرحية حتى عام 1971.

لم يتوقف إبداع ونوس عند حدود المسرح، فقد تعاون مع المخرج عمر أميرالاي لإنتاج فيلم وثائقي بعنوان “الحياة اليومية في قرية سورية”، مسلّطا الضوء على معاناة القرويين. ورغم نجاح الفيلم عالميًا، منع عرضه داخل سوريا بسبب نقده الصريح للأوضاع المعيشية. توقفت كتاباته لفترة طويلة بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1979، لكنه عاد عام 1989 برؤية مختلفة، محوّلا اهتمامه من القضايا العامة إلى مصير الفرد.

وكانت تجربة ونوس المسرحية تماهت مع واقع سياسي مضطرب، بدءًا من تفكك الإمبراطورية العثمانية، مرورًا بالانتداب الفرنسي، وصولا إلى النكبة والنكسة، إذ رأى ونوس في الهزائم العربية تجسيدًا لفشل سياسي وأخلاقي، كما عبّر في أعماله عن رفضه الدعاية الرسمية التي روجت لصورة وهمية مبالغ فيها عن قوة الجيوش العربية.

خارج النص | التجربة المسرحية لسعد الله ونوس

هشاشة السلطة والمجتمع

وتقول عبلة الرويني “للجزيرة نت” إن كل نصوص سعد الله ونوس كانت للدفاع عن الحرية والديمقراطية، وحق الناس أن يكونوا أحرارا من خلال رؤيتهم الخاصة، وكان مشروعه نشر الوعي من خلال نصوصه المسرحية ومن خلال الفكرة التي يقدمها، رافضا لكل أنواع الاستبداد وأشكاله، وهو يرنو إلى وطن حر أبي، ليس فقط الوطن السوري، بل كل الوطن العربي الكبير، وكانت فلسطين تحتل القلب من اهتماماته وأعماله، وكان متفاعلا مع واقعه، يمرض لمرضه، ويسعد لأفراحه.

عندما تتأزم الأمور، ويصبح الحلم أشبه بالضباب، يخطر له دائما أن يغوص في دخيلة نفسه ولا يخرج، يدخل إلى سراديبه ليمارس لذته السرية، في نهاية السبعينيات وبعد عقد اتفاقية كامب ديفيد، امتد صمت سعد الله ونوس وطال 10 سنوات كف خلالها عن الكتابة الإبداعية، بعد أن تبددت الأحلام، وكثير من التصورات مزقتها الأحداث، كانت التحولات العنيفة التي بدأت تتوالى في السبعينيات قد وصلت إلى لحظة الانكشاف حيث ضياع المشروع وغياب أي حياة ديمقراطية.

وفي كتاب “حكي الطائر” تقول المؤلفة عبلة الرويني: “في سنوات سعد الله ونوس الأخيرة ومنذ أن دهمه المرض عام 1992 زاد غوصه الداخلي ورقت صلته بالعالم، وهو يصف السلطة في أعلى قوتها وأكمل هشاشتها ويقول:

“بلغت السلطة أو الدولة شكلا عاليا من الوضوح والقوة، وبالمقابل تم تهميش المجتمع، وتبدت في الوقت ذاته هشاشة القوى السياسية وضعف قدرتها على المقاومة وعلى صياغة أساليب نضال مبتكرة وفعالة، كذلك سقطت الكثير من الأوهام المتعلقة بالكفاح والبطولات والشعب والشهادة والشهداء والمنظمات.. وبعد حرب الخليج وصلنا إلى مرحلة عري كامل”

وربط سعد الله ونوس بين المرض القومي ومرضه الجسدي برباط متين وقوي، ولم يفصل الانهيار القومي عن انهيار جسده بسبب السرطان، “انهار حلمنا الشخصي الذي هو المسرح، انطفأت جذوته، وتداعى في غياهب القمع والشمولية وانسداد الحوار في المجتمعات وغياب كل ما هو مدني في حياتنا. إننا مهزومون حتى العظم، وحتى الحفيد الرابع أو الخامس، أقصى حدود الإيجابية هو أن نقبل الهزيمة لا أن نراوغها، أن نواجهها صراحة لا أن ندفن رؤوسنا في الرمال. ومن كوجيتو (أنا مهزوم) ينبغي أن أبلور حقيقة (أنا موجود) أن أتدرب على تحمل هذا الوجود ومفارقته في آن واحد، لقد انهزمنا دون عزاء. دون تظليلات وكان من قبيل الحاصل أن ينهزم الجسد. بعد ذلك لم يفاجئني السرطان”.

وكما في “حكي الطائر” كانت كثير من نصوص ونوس هي مراجعة للذات، ولأوضاع جيل من المثقفين بسَّطوا التاريخ من فورة حماستهم فحولوه إلى عدد من اللافتات والشعارات، وبوصفه مثقفا كان عليه أن يفهم وبعمق ما جرى في وطنه وفي هزيمة 67، وانكسار المشروع القومي والمشروع الناصري، وتزايد هيمنة السلطة في مقابل تهميش المجتمع.

الحلم الفلسطيني

الشاعر إبراهيم داود رئيس تحرير مجلة إبداع وأحد أصدقاء سعد الله ونوس في مصر يقول “للجزيرة نت”: “أهم صفات سعد الله ونوس أنه كان منحازا للقيم الإنسانية العليا للبشرية كلها وليس لبلده فقط، هو كان نصيرا للحق الفلسطيني بالطبع من موقف أخلاقي، وكان يرى أن ذوبان الكيان الصهيوني في المنطقة من المستحيلات، مهما زادت وحشية المحتل، ووضح هذا في مسرحية الاغتصاب التي نشرها للمرة الأولى في مجلة أدب ونقد، وكانت تتناول علاقة طبيب نفسى إسرائيلي يعالج مريضا فلسطينيا، هو رأى أنه من الصعب أن يعالج الجاني ضحيته، ولكن حين أخرج النص المخرج العراقي جواد الأسدي، وأبدى تفاؤله بالعلاج غضب سعد جدا.

سعد الله ونوس موهبته أكبر من الجغرافيا، ولذلك تجد أن أعماله صالحة للعرض في كافة الأقطار، هو ضد الاستبداد وضد التطرف الديني وضد العنصرية وضد التبعية للغرب، لم يكن بلاغيا في خطابه، ولكنه كان يحفر في طبقات التاريخ العربي بحثا عن أسباب خيباتنا، وكيف نجح العنصريون الأغراب في احتلال أرضنا، كان مثقفا كبيرا، يفهم في الشعر والموسيقى والتاريخ وعذابات البشرية، في ملحمة السراب آخر أعماله توقع ما نحن فيه الآن، وكيف نجح الغرب في تحويلنا من مواطنين إلى زبائن، وفي الوقت نفسه يساعد الكيان الإسرائيلي لكى يحول لقطاء العالم إلى مواطنين في أرض لا يملكونها، أما ما يحدث في سوريا الآن، والتخلص من طاغية جثم هو أبوه على صدر شعبه كل هذه السنوات، أعتقد أنه لو كان حيا، لانتظر قليلا قبل أن يدلي بدلوه، لأن ما حدث هو الجهاد الأصغر، أما ما يحمله المستقبل لهذا الشعب الحبيب فهو في علم الغيب، وكما يقول سعد الله ونوس وهو يتمسك بأهداب الحياة :”نحن محكومون بالأمل، وما يحدث لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ”.

سيرة مسرحي الساحل السوري

ولد سعد الله ونوس في 27 مارس/آذار 1941 في قرية حصين البحر القريبة من طرطوس، حيث نسجت الطبيعة الساحلية وأجواء القرية البسيطة ملامح نشأته الأولى، ورغم نشأته في أسرة متواضعة، فقد نهل منذ صغره من معين الأدب، فكان أول كتاب اقتناه وهو في الـ12 من عمره “دمعة وابتسامة” لجبران خليل جبران، قبل أن يتسع أفقه بالاطلاع على أعمال طه حسين والعقاد ونجيب محفوظ وغيرهم من أعلام الأدب.

في عام 1959، أتم دراسة الثانوية العامة، لينتقل إلى القاهرة بمنحة دراسية لدراسة الصحافة في كلية الآداب بجامعة القاهرة. هناك، ترك الانفصال بين مصر وسوريا أثرًا عميقًا على وجدانه، فكانت هذه الهزة السياسية بمنزلة الدافع الأول لكتابة مسرحيته الأولى “الحياة أبدا”. بدأت هذه المرحلة من حياته في تشكيل وعيه الفني والسياسي، فغاص في الأدب الغربي والمسرح العبثي، متأثرًا بأعمال ألبيرتو مورافيا وصمويل بيكيت وغيرهم.

عاد ونوس إلى دمشق عام 1963، حيث عمل في وزارة الثقافة، وتبلور نشاطه الأدبي بنشر مسرحيات قصيرة مثل “فصد الدم” و”جثة على الرصيف”، قبل أن يصدر مجموعته الأولى “حكايا جوقة التماثيل” عام 1965. في عام 1966، ابتعث إلى باريس لدراسة المسرح الأوروبي، حيث تأثر بأعمال برتولد بريخت وجان فيلار، وأثرت نكسة 1967 بعمق في تجربته الإبداعية، مما دفعه لكتابة مسرحيته الشهيرة “حفلة سمر من أجل خمسة حزيران”.

تميزت مسيرة ونوس بإنجازات بارزة في المسرح العربي، منها تأسيس مهرجان دمشق المسرحي عام 1969، وإصدار أعمال خالدة مثل “الفيل يا ملك الزمان” و”مغامرة رأس المملوك جابر” في السبعينيات، ترجم وأعد أعمالًا عالمية، وأسهم في تأسيس مجلة “الحياة المسرحية”، التي أصبحت منصة رائدة للفكر المسرحي.

شكلت كتاباته في التسعينيات قفزة نوعية، حيث تخلى عن مسرح التسييس ليغوص في قضايا الفرد والمجتمع، كما في “طقوس الإشارات والتحولات” و”منمنمات تاريخية”. ورغم معاناته مع مرض السرطان في سنواته الأخيرة، استمر في الكتابة، ليختم مسيرته بمسرحية “الأيام المخمورة”.

رحل سعد الله ونوس في 15 مايو/أيار 1997، تاركًا إرثًا أدبيًا تجاوز الـ20 مسرحية، وملهمًا أجيالًا من المسرحيين بأفكاره وكتاباته التي جسدت أوجاع الإنسان العربي وطموحاته.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version