مراكش – خلال حفل توقيع كتابه “طفولة بلا مطر” بمدينة مراكش، لا يخفي الأكاديمي المغربي إدريس لكريني حبوره الممزوج بالاندهاش، وهو يرى حجم إقبال جمهور واسع على منتجه الأدبي الأول، وهو الباحث الرصين ذائع الصيت في مجال العلاقات الدولية.

في هذا الكتاب الذي يحمل بصمة سيرة ذاتية الطفولة، يأخذ الكاتب القارئ في رحلة شوق إلى عالم من الذكريات العذبة والمريرة، حيث تتشابك خيوط الأمل والألم في نسج بديع. وبأسلوب شاعري يرسم لوحات من طفولته تمزج بين الجدة والطرافة، يعزف في قرية بني عمار في الريف المغربي لحنا من الشوق والحنين.

يجمع كل من قدم شهادة في حقه، على أن الكتاب ليس مجرد سرد لذكريات، بل هي دعوة للتأمل في جمال الحياة وقدرة الإنسان على التغلب على الصعاب.

ويقول الأكاديمي لكريني وهو يستحضر شعوره الأول عند اقتحام مجال الكتابة الأدبية للجزيرة نت “وجدت في هذه الاستراحة فرصة للبوح بعدد من الذكريات بمحطاتها وأحداثها ظلت نقشا راسخا في الذاكرة، والتي تحيل إلى الألم تارة وإلى الأمل تارة أخرى”.

سرد سيرة

“ينطلق الكاتب في سرده لسيرته من مرحلة الكُتّاب القرآني، وصولا إلى لحظة مغادرة قريته الصغيرة لولوج الجامعة. وعلى مدى سرد خطي للأحداث والمواقف، نتعرف على شخصية الطفل إدريس، في إقباله على الحياة، في علاقته بأسرته الصغيرة ومحيطه، تلميذا مجتهدا، شغوفا بالقراءة، منفتحا على الآخرين مع قدرة تواصلية مفعمة بكثير من الحس الإنساني، تتخلل المذكرات طرائف ومواقف ساخرة، بقدر ما تنم عن صدق صاحبها تعرفنا على ما سيبني لشخصية الكاتب في محطات لاحقة من حياته”، كما يلاحظ الأكاديمي والإعلامي المغربي عبد الكبير الميناوي.

ويضيف في حديث للجزيرة نت “في كثير من الأحيان، لا يحتاج المبدع إلا لأن يكتب عن هذا الحيز الجغرافي الصغير الذي ولد فيه، فربما وجده يعيش التراجيديات الكبرى للبشرية، من ذلك ما نجده في حديث الجفاف وكيف قَلّت الأعراس والحفلات الشعبية بالقرية، ولم يعد الناس يلتئمون إلا في المآتم”، والحزن الذي لاحظه إدريس في عيني صديقه عزيز الذي غادر القرية رفقة عائلته، فضلا عن حديث اختفاء البقرة، قبل أن تعود هزيلة ومنهكة، لتذبح في صباح اليوم الموالي ويوزع لحمها.

عبد الغني بلوط/ ملتقى أدبي، حظيت طفولة بلا مطر باهتمام واسع من النقاد والقراء

جيل

تعزف “طفولة بلا مطر” على وتر حساس في أعماق جمهور واسع من المغاربة من جيل السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، يدفعهم الى استذكار مرارة تجربة قاسية للجفاف الذي ضرب المغرب آنذاك.

يشرح الأكاديمي والفيلسوف المغربي عبد الصمد الكباص للجزيرة نت أن هذا العمل الفريد استثمر خصوصية جيل لم يُكتب له أن يدون في سجل السرديات المغربية، هو جيل مأساوي تعقبته الخسائر والتحولات والقطائع في كل مرحلة من حياته، وكان من أشدها تلك الظاهرة الطبيعية التي غيرت العلاقة بالمكان بالنسبة لكثير من الأسر، حيث ظهر الكاتب مالكا لأسرار السرد، متألقا في جعله ناطقا بلغز الحياة.

ويضيف “هذا السرد الاستثنائي لتجربة مع المكان والحياة، يلفت الانتباه إلى التمرس الواضح في استدراج عوالم الطفولة إلى فضاء الذاكرة بنظرة الطفل الطازجة للحقول والجبل والقرية والناس، يكتب بإستراتيجية أسلوبية مبهرة، تجعلك تقرأه كما لو كان يتحدث عن طفولتك، عن أشيائك الصغيرة التي خبأتها في الذاكرة ونسيت أن تعود إليها، كل شيء فيه أُعِد في مأدبة السرد محافظا على حميميته منسابا في هدوء كينونتك”.

إقناع وإمتاع

تتعد الأصوات في “طفولة بلا مطر”، ويتداخل سرد الكاتب مع شخصيات واقعية وأخرى رمزية تشكل معًا نسيجًا دراميًا متماسكًا، يستحضر أحداثا تاريخية تنقل القارئ الى أجواء الحياة اليومية للمغاربة لتلك الحقبة الزمنية، أحلامهم الطفولة، وميولاتهم الأدبية والموسيقية.

ويبرز الناقد والشاعر المغربي عبد العاطي جميل للجزيرة نت تنوع التقنيات السردية التي استخدمها الكاتب، مثل السرد الذاتي والموضوعي، الاستباق والاسترجاع، والوصف التفصيلي، معتمدا على مجموعة متنوعة من الأساليب البلاغية قصد تحقيق وظيفتي الإقناع والإمتاع.

ويضيف “إنه عمل أدبي متميز يتجاوز حدود السيرة الذاتية التقليدية، ليغوص في أعماق الذاكرة الشخصية والجماعية، إذ يقدم الكاتب سردا شيقا لمرحلة الطفولة، مستعرضا تأثيرها العميق على تشكيل هويته، وارتباطه الوثيق بالأرض التي نشأ فيها”.

ويختم المتحدث “يستهل المتواليات السردية باختيار مقتبسات ذات قيمة جمالية وفكرية وشعرية مضافة إلى اعتماد المراجع والمصادر والموسوعات، فاتحا نافذة على عالم من الذكريات والأحاسيس، ويطرح أسئلة جوهرية حول الهوية والانتماء والذاكرة، يتجاوز سرد محكيات الذات وإنما يتجاوزها إلى التعبير عن جيل بكامله عايش زمن الجمر والرصاص”.

أمل

من يقرأ “طفولة بلا مطر”، ينتابه ذلك الشعور بأن الكاتب دون سيرته بإحساس طفل فتح عينيه على قرية صغيرة تجثم عند سفح الجبل، وظلّ يحلم بما خلف التلال المقابلة عند كل غروب، مع ذلك لم يستطع التخلص من بصمة الباحث، وهي تعكسه بعض الفقرات التوضيحية في الهامش، كما يبرز الكاتب نفسه ذلك.

ويضيف “لا شك أن سنوات الجفاف القاسية وانعكاساتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تعرض لها الكتاب، مثلت بالنسبة لي ولعدد من جيل السبعينيات والثمانينيات فرصة للتحدي وللإصرار على تجاوز الواقع المر”.

يخصص الكاتب جزءا كبيرا من سردياته للحديث عن بلدة “بني عمار” بأحيائها العتيقة وتراثها وشخوصها الطيبين وطبيعتها الخلابة وأحداثها البسيطة، محاولا أن يقف عند الكثير من الإمكانات التاريخية والحضارية والطبيعية التي تزخر بها المنطقة لعلها تحظى بالعناية من قبل الباحثين وصانعي القرار، كما يأمل الكاتب.

في حين يختم الشاعر عبد العاطي جميل بأن “طفولة بلا مطر” إضافة نوعية إلى المكتبة المغربية والعربية، وحتى المكتبة الأجنبية، وهي تستحق الترجمة إلى لغات أخرى.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version