الخرطوم – في 28 يناير/كانون الثاني 1885 تأكدت لحملة إنقاذ الحاكم الإنجليزي للسودان الجنرال غوردون أنباء مصرعه على يد قوات المهدية.
وهو التاريخ ذاته الذي كان ينبغي أن يحتفل فيه الجنرال البريطاني بذكرى مولده الـ52، مات غوردون وتحررت الخرطوم، وسال بعد ذلك حبر كثير لا يجمع بينه إلا القليل.
إنجازات أفنتها الخرطوم
تشارلز جورج غوردون هو ضابط ابن ضابط، كان والده لواء في الجيش البريطاني، تلقى علومه في مدرسة فولاندز في تاونتون بسومرست، وفي الأكاديمية الملكية العسكرية. وبعد تخرجه منها برتبة ملازم ثان، أُلحق بسلاح الهندسة الملكي عام 1852. لتبدأ مسيرة عسكرية طويلة ومظفرة حارب فيها غوردون على جبهات عديدة، رافعا لواء الإمبراطورية العظمى.
غير أن أهم محطاته كانت الصين، بحسب ما يراه الباحث والمترجم الدكتور خالد محمد فرح، “ففي ستينيات القرن الـ19 حارب غوردون في الصين وأبلى فيها بلاء حسنا من وجهة نظر قومه بالطبع، فقمع الوطنيين الصينيين المناهضين للتوغل الإمبريالي الغربي والغطرسة الإنجليزية قمعا شديدا، وأذاقهم مر العذاب حتى لقب بغوردون الصين (Gordon of China)”. كانت الصين المحطة التي رفعت من اسم غوردون، وسمي جيشه بالمنتصر دائما.
في ذلك الوقت كان السودان يتبع للخديوية المصرية التي استعانت بغوردون. يوضح خالد فرح للجزيرة نت المهمة قائلا “عين الخديوي تشارلز غوردون حاكما للمديرية الاستوائية بجنوب السودان، وكان في الوقت ذاته يقوم بمهمة أخرى، وهي مكافحة تجارة الرقيق والحد من نفوذ التجار الشماليين وبوادر انتشار الإسلام والثقافة العربية في الجنوب”.
ويرى أستاذ التاريخ الدكتور محمد الفاضل في إفادة للجزيرة نت أن غوردون لم يكن حاكما عاما، بل كان من أهم ضباط بريطانيا وصاحب مهمتين سابقتين بالسودان، لكن المهمة الثالثة والكبرى له كانت إخلاء الخرطوم، والتي كلف بها في يناير/كانون الثاني 1884، لكن الخرطوم وضعت حدا لنجاحات قائد الجيش المنتصر دائما.
روايات كثيرة وسرديات متقابلة
“تحرير الخرطوم، فتحها، سقوطها” أسماء تنبئ بحجم الاختلاف في الرؤى وزوايا النظر لحدث واحد، وهذا ما تجلى بشكل واضح في الأعمال الأدبية التي كتبت عن تلك الفترة والتي يراها البعض قليلة بالنسبة لحدث فارق في التاريخ السوداني، ويجد القارئ للأعمال السردية اختلافات في الرؤى والوصف لجند المهدي، بين من يجعلهم دراويش رعاعا ومن يصورهم مجاهدين فاتحين.
ولا يرى الصحفي والناقد عامر محمد أحمد في إفادته للجزيرة نت أن الحقبة المهدوية من فتح الخرطوم إلى سقوط أم درمان قد وصلت مرحلة قراءتها كتيارٍ في الرواية التاريخية، فهي لا تزال تتلمس طريقها وتعتمد على اجتهادات كتابها التي تصيب أحيانا وتخطئ في أحايين أخرى.
ويضيف أحمد “من الصعب القول بأن الثورة المهدية وجدت حظها من اهتمام كتاب الرواية السودانية، وأعتقد أن ما كتب في الغرب عنها ألقى ظلالا سلبية جعلت من الحكاية الشفاهية الأكثر حضورا في المخيلة العامة، إذ لا توجد رواية تفوق سرديات سلاطين باشا في كتابه “السيف والنار” أو رواية في مقام “فاتنة المهدي” لدوغلاس لندن، انحيازا لرؤية الغرب الأوروبي عن الدراويش والتوحش في متن الاستشراق ونظرته لكل ما هو شرقي عربيا وأفريقيا”.
الناقد الدكتور مصطفى الصاوي إلى أشار في إفادته للجزيرة نت إلى أعمال ذات قيمة فنية عالجت هذه الحقبة، بعضها عالج الحدث تحديدا مثل “شوق الدرويش” لحمور زيادة، و”الراية الزرقاء” لعبد الوهاب عبد الحميد، و”رأس غوردون” لسعود صالح و”البقعة” للحسن محمد سعيد.
في حين أشار خالد محمد فرح لأجناس أدبية أخرى، مستشهدا بمسرحية “المهدي في ضواحي الخرطوم” للشاعر فضيلي جماع، و”المهدي يحاصر غوردون” التي أخرجها عمر الخضر، ويضيف فرح “ظهرت المهدية في قصائد كثيرة، أما مقتل غوردون فممن أورده الشاعر محمد زين عبد في قصيدته الشهيرة المغناة “أنا أم درمان.. أنا السودان” التي فيها: وكان مهري رأس غوردون”، ويضيف فرح بالمقابل رثى الإنجليز بطلهم غوردون وبكوه بدمع ساخن، وألفوا في ذلك بعض المراثي الشعرية والمسرحيات في تخليد ذكراه، ولعل من أكثرها رواجا:
Too late, too late to save him
He was England ‘s pride when lived
! He was England’s pride when he died
الرواية التاريخية تخييل أم أكثر من ذلك؟
الذي لا شك فيه أن الرواية التاريخية ليست تاريخا محضا، وأن للخيال فيها نصيبا بلا شك، وهذا مما يصنع أحيانا خلافا في التفاصيل وتغييبا لبعض الأحداث وخلقا لأخرى، ويشير الصاوي إلى أن “كاتب الرواية ليس أكاديميا، ليس عالم تاريخ، لكنه مبدع يختار الحدث والفترة التاريخية ويوقظها”.
ويذهب عامر محمد أحمد -في إفادته- إلى أن هناك روايات من الممكن تسميتها روايات تاريخية سودانية مثل “تشريقة المغربي” لعمر فضل الله، وروايات عبد الرحيم محمد صديق التي استلهمت تاريخ المهدية والتركية في كثير من رواياته وفي مقدمتها رواية “الباشبوزق”، وإن ظل سؤال الإجادة وإعمال الخيال كثيرا ما تهزمه التسجيلية والشفاهية كمقياس للكتابة التاريخية عن هذه الفترة من تاريخ السودان.
ويشير إلى شيء آخر غير التخييل يصنع الخلاف، وهو اختلاف المرجعيات، قائلا إن الروايات السابقة حاولت الخروج من صلات الإمبريالية.
ويتوقف عامر عند رواية “شوق الدرويش” قائلا “الرواية أخذت صورة مفتتح الكتابة الروائية عن الحقبة المهدوية، ولعل فوز الرواية بجائزة نجيب محفوظ قد أذاع سردها وأعطى خطابها قبولا عند الكثير في مساحة المعرفة بتاريخ الثورة المهدية عند العامة وكذلك النخبة، ولكن هذه الرواية مع كل هذا القبول لا تخلو من هنات، منها أنها قد اعتمدت صورة السوداني في تلك الحقبة من المستعمر وجعلت من سجناء دولة المهدية المرجعية ومن فاتنة المهدي خيوط سرد وحكايات”.
الصاوي ينبه إلى نقطة مهمة قائلا “المعضلة الحقيقية تكمن عندما يجعل قارئ الرواية التاريخية مصدرا تاريخيا ولا ينظر إليها بوصفها عملا إبداعيا”، في حين يرى عامر معضلة أخرى لكن عند بعض الكتاب لا القراء، واصفا إياها بالأزمة: أزمة التابع أن يتبع المتبوع حتى في رؤيته لهذا التابع في الشكل واللغة واتباع كل ما يجعل من الخيال السردي في تتبعه لهذا الفرد المستعمر مجرد مرآة. ويستدرك “لا شك في أنه ليس على المرء تحديد رؤية الكاتب أو نظرته إلى تاريخه، لكن بوسعه أن يقول هذه الرواية أو تلك لم تضف جديدا لتاريخ معروف ومستهلك وأقرب للأساطير أحيانا”.
جدل التاريخ
لكن الاختلاف والجدل فيما يخص تحرير الخرطوم ومقتل غوردون لا يتوقف عند الكتب الإبداعية، بل يصل إلى كتب التاريخ، رغم أن ما كتب عن تلك الفترة لم يكن قليلا، بحسب إفادة خالد محمد فرح للجزيرة نت “الإشارات إلى ذلك مستفيضة في كتب تاريخ السودان الحديث في أواخر عهد الحكم التركي-المصري وتاريخ الدولة المهدية إلى تاريخ فتح الخرطوم على يد المهدي. والكتب والرسائل والأوراق العلمية والمقالات في ذلك كثيرة، وبأقلام مؤلفين سودانيين وبريطانيين ومن جنسيات أخرى”.
ورغم هذا الكم من الكتب فإنها تختلف في وصف تفاصيل كثيرة منها مقتل غوردون، ويرد بعضهم الأمر لاختلاف من يكتب التاريخ ونزاهته ومهنيته وحرفيته، وأن بعض الكتاب لا يخلون من الدوافع والغرض. ويعلل أستاذ التاريخ محمد الفاضل الجدل الكثير والاختلاف حول المهدية بتعدد أنماط الخلاف فيها، قائلا: هناك من آمن بالمهدي فكرا وسياسة، وهناك من اتفق معه سياسيا فقط دون إيمان بالمهدية كفكرة، وهناك من اتبعه مهديا منتصرا لا منتظرا بعد أن دان له أغلب السودان”.
هذه الخلافات تظهر فيما يكتب، وفي تصوير مقتل غوردون، فهو هارب من القصر في روايات، ومستبسل لا يهاب في أخرى. يظهر موقف الكاتب سلاطين في كتابه “السيف والنار”: ولما دخلوا السراي وجدوا الخدم في قبو السراي فقتلوهم في الحال، وكان غوردون واقفا على السلم المؤدي إلى غرفة الجلوس فقال لهم عندما رآهم: أين مولاكم المهدي؟ لكنهم لم يكترثوا لهذا السؤال، وتقدم أولهم وطعن غوردون بحربته فوقع على وجهه دون أن ينطق بكلمة، فأخذ القتلة يجرونه على السلالم إلى باب السراي، وهنا أخذوا رأسه وأرسلوه إلى المهدي في أم درمان”، وتكاد تكون هذه الرواية الأكثر شيوعا وانتشارا مثل كل ما بثه سلاطين في كتابه.
لكن المترجم بدر الدين الهاشمي ترجم مقالة تاريخية لمؤلفها “جيه إيه آر ريد” (J. A. R. Reid) كشهادة شاهد عيان قال فيها: تقدمنا في المدينة حتى بلغنا المدخل الجنوبي للقصر. كان المكان شبه مظلم، ولكننا تبينا من بعيد، في ضوء القصر الخافت، رجلا يقف على سلالم تؤدي إلى سطح، وهو يحدق باهتمام وانتباه لجنودنا وهم يدخلون المدينة. وكان مرسال (حمودة) يحمل رايته وبندقيته، التي أطلق منها رصاصة على ذلك الشخص الواقف، ظنا منه أنه أحد الأتراك. وأصابت الطلقة الرجل، ورأيته يسقط على الأرض، ويتدحرج على الدرج، ويلطخ دمه سلالم القصر. وبعد أن بدأ المكان يضيء مع بزوغ ضوء سمعت من يصيح بأن القتيل هو غوردون باشا”.
لوحة خالدة وإن كذبت
المشهد ذاته الذي اختلف بشأنه، جسدته لوحة شهيرة للفنان جورج وليام جوي، نجحت في انتشارها الكثيف وتكرراها في تشكيل صورة ذهنية عن غوردون وجعله شجاعا يقابل رعاعا، ورسمته في كامل هيئته العسكرية شاهرا مسدسه. ويرى التشكيلي الواثق يونس في إفادة للجزيرة نت أن “التشكيل عمل إبداعي مثله مثل السرد والشعر، يتحرك في مساحات تخيلية، وقد يرسم الفنان أحيانا ما يتمناه، وكثيرا ما يتجاهل التشكيلي أو يجمل عيوبا في صورة المرسوم”.
ويضيف الواثق أن زاوية الرسم في مقابلة غوردون تدلك على أن اللوحة ليست مأخوذة من صورة حقيقية، فلا يمكن لمصور أن يكون وسط جنود المهدي وتنضم لهذه اللوحة قائمة من الرسومات، لكنها أقل شهرة وتداولا. ويواصل الواثق يونس إفادته قائلا في شأن غوردون: هناك لوحات رسمت لأحداث لم تتم منها لوحة حملت اسم “في النهاية” (AT LAST) يستقبل فيها غوردون الحملة التي جاءت لإنقاذه لتدلل على أن الخيال قد لا يخالف الواقع فقط، بل يحاول اختلاقه أحيانا.
الجرح البريطاني
وسواء قتل غوردون مدبرا أو مقبلا، فإن قوات المهدية حررت عاصمة السودان من المستعمر، وأنهت دولته وخطت نهاية الجنرال الذي سام الناس قتلا شرقا وغربا ليوسع من المستعمرات الإنجليزية، وهذا ما أوجع البريطانيين وجعلهم يفكرون في احتلال السودان مرة أخرى، فقد كان غوردون أحد أهم ضباطهم.
يقول محمد الفاضل: من الأشياء التي عمقت الجرح البريطاني النقاشات الحادة التي كانت تدور في مجلس اللوردات وتأخر قرار إنقاذ غوردون 4 أشهر. ويختم خالد محمد فرح بالقول إن “شخص غوردون وذكرى مصرعه على أيدي السودانيين لم تبرح ذاكرة البريطانيين قط، بل ظلت ماثلة لمدة طويلة ولعلها لا تزال ماثلة. بدليل ما قيل من أن الملكة فكتوريا لما علمت بمصرع الخليفة عبد الله التعايشي في معركة أم دبيكرات في نوفمبر/تشرين الثاني 1899، هتفت بارتياح قائلة: اليوم أخذ ثأرك يا غوردون!”.