يبدو التسامح الذي يطمح إليه المسلسل بلا سقف تقريبا، وهي مسألة قد تكون غير واردة حتى في أكثر المجتمعات انسلاخا من الفكرة الأخلاقية، فالشخصية الرئيسية للعمل (مايك فالنتاين) مقامر مطرود من العمل الشرطي، ويعمل لصالح عصابة، ورغم ذلك فإن زوجته السابقة محققة الشرطة إيريس لا تزال تحبه وترغب بالعودة، وهي أيضا ترى خيانته لها بعينيها. 

يمكن النظر إلى منظومة الشرطة الظاهرة في مسلسل “رجل من فلوريدا” (Florida Man)، الذي يُعرض حاليا على شاشة “نتفليكس”، على أنهم رجال شرطة استثنائيون، فجميعهم تقريبا متورطون في أعمال ضد القانون، بينها تجارة المخدرات والقتل والسرقة.

لكن الصورة بهذا الشكل لن تكون دقيقة تماما، فقد “تشابهت” القيم التي تفصل بين الصالح والفاسد على بعض أجهزة الأمن في العالم، لذلك قد لا يكون غريبا أن تستعين الشرطة في الواقع، وليس في الدراما ببعض العصابات أو المجرمين لمساعدتها في العمل، أو أن يعمل رجال الشرطة بعد إحالتهم للتقاعد في التهريب وتجارة المخدرات، وبينهم “سوني العجوز”، الذي كان رئيسا للشرطة في إحدى بلدات فلوريدا.

تدور أحداث “رجل من فلوريدا” (Florida Man) حول “مايك فالنتاين” (يلعب دوره إدغار راميريز) ، وهو شرطي سابق ومدمن قمار يحاول سداد ديونه لإحدى العصابات من خلال العودة إلى مسقط رأسه في فلوريدا للعثور على صديقة زعيم العصابة الهاربة.

لا يستطيع فالنتين مقاومة إغراء العثور على كنز إسباني غارق تعتقد أسرته أنه موجود في وسط فلوريدا، فيسعى للوصول إليه، بينما يتصارع مع ماضيه، وتبدأ عائلته والسلطات المحلية والمزيد من الناس في اصطياد رياح الكنز المحتمل.

التيمة الأساسية للعمل هي التسامح، وهي مقبولة، لكن غير المقبول في المسلسل هو تلك الشخصيات الكثيرة التي ألقاها المؤلف في مختلف مساحات العمل، لتكون ذخرا له في أجزاء قادمة، وتلك الصراعات الصغيرة التي لا تنتمي لدراما العمل ولا تؤثر فيها بشكل جاد، لتكون بدايات لخيوط درامية في أجزاء قادمة للعمل.

يجسد العمل صورة للتفاعل المتبادل بين وسائل الإعلام التقليدية و”السوشيال ميديا” والإبداع الدرامي على الشاشة، فالبداية جاءت من مصطلح “رجل من فلوريدا”، من عناوين الأخبار الغريبة التي شارك فيها رجال من فلوريدا.

وتحول المصطلح إلى تعبير عن الصورة النمطية بأن فلوريدا هي ولاية مليئة بالأشخاص غريبي الأطوار وغير العاديين، وتتضمن بعض الأمثلة البارزة للعناوين الرئيسية لرجل فلوريدا: “القبض على رجل فلوريدا لمحاولته سرقة بنك بعنكبوت”، و”اعتقال رجل من فلوريدا لمحاولته مقايضة تمساح حي ببعض المشروبات”، وهي عناوين قد تكون مضحكة أدت إلى إنتاج مسلسل يحمل طابعا كوميديا، لكنه لا يخلو من القتل والدماء.

وصفة جاهزة

يجسد مسلسل “رجل من فلوريدا” الوصفة السهلة لصناعة عمل كلاسيكي شيق يشمل مغامرة وحركة وتشويقا، ويستهوي المراهقين بشكل خاص، لكن المشاهد سيكتشف أن صانع العمل “دونالد تود” قد حفر عميقا في القصة، ليصنع مستوى آخر للعمل، ويتابع التحولات التي طرأت على شخصياته والأزمات العميقة التي يرثها الأبناء في أسر مجرمة أو مفككة.

ورغم عناصر الإثارة التي يحفل بها المسلسل -والمتمثلة في الجرائم وصراع العصابات- إلا أن تباطؤ الإيقاع في بعض المساحات الدرامية -رغم ضرورته- كان نقطة الضعف الرئيسية فيه، إذ جاء المسلسل بحلقاته السبع مفعما بطموح للجمع بين الوصفة الجاهزة لعمل جماهيري والرغبة في رصد وتحليل تطور وتحولات شخصياته الرئيسية بما يتطلبه ذلك من تأنٍّ وتأمل في بعض الأحيان.

نجح العمل في السير على درب التحليل الاجتماعي والنفسي، لكنه لم ينجح دراميا في تجنب مصادفات تبدو غير معقولة، وخاصة حين يصادف الأب والابن الذاهبان بالأساس للسطو على كنز بجوار كنيسة؛ أحدَ العاملين في برامج الإدمان، وتجنبا لانكشاف أمرهما يزعمان المشاركة في البرنامج، وهناك يقدمان اعترافات تمثل ذروة درامية وعنصرا بارزا في تطور الشخصيتين وكشف أسرار مشاعرهما تجاه الأسرة وتجاه بعضهما البعض.

تسامح بلا سقف

يبدو التسامح الذي يطمح إليه المسلسل بلا سقف تقريبا، وتلك مسألة قد تكون غير واردة حتى في أكثر المجتمعات انسلاخا من الفكرة الأخلاقية، وبدءا من الشخصية الرئيسية للعمل، وهو “مايك فالنتاين”، المدمن على المقامرة والمطرود من العمل في جهاز الشرطة، والذي يقوم ببعض الأعمال نيابة عن عصابة من القتلة والسارقين.

ورغم ذلك فإن زوجته السابقة إيريس (تلعب دورها الممثلة ليكس سكوت ديفيس) لا تزال تحبه وترغب بالعودة إليه، وهي التي تطورت في عملها وأصبحت محققة، وهي أيضا ترى خيانته لها بعينيها.

الأب “سوني” العجوز (جسد دوره أنتوني لاباجاليا) هو رئيس الشرطة السابق الذي انتقل للعمل في تجارة ونقل المخدرات، ويملك مطعما يدير من خلاله عمله الإجرامي، والمفارقة مع الأب أن صنّاع العمل هم من يطلبون التسامح معه عبر تصويره شخصا محبا وحسّاسا ومخلصا لزوجة أصيبت بالسرطان ورغبت في الانتحار وساعدها على ذلك لأنه كان يرغب في تخليصها من الألم.

باتسي (لعبت دورها أوتمارا ميريرو) هي شقيقة مايك وابنة سوني فالنتاين، وتجسد دور الابنة الوديعة للأسرة ونموذج البراءة المفتقد فيها، وهي لم تفعل شيئا شريرا سوى قتل شاب نجا لتوه من حالة غياب عن الوعي ناتجة عن حادث سيارة وتم تلفيق تهمة قتل له حماية لشقيقها، ويقدمها صنّاع العمل بملامحها الطيبة الجميلة باعتبارها امرأة كل ما يعنيها حماية أسرتها من الشر.

يبلغ التسامح اللامعقول أقصى مدى له حين تصاب الزوجة السابقة لفالنتاين برصاصة، وتنقل للمستشفى، بينما يطارد كنزه الزائف برفقة زعيم العصابة وحبيبتهما المشتركة ديلي ويست (تجسد شخصيتها آبي لي)، وبعد أن يقتلا زعيم العصابة يعاتبها لتآمرها عليه، وليس لخيانتها له، فتعترف أنها كانت تحاول إنقاذه.

وتقدم آبي لي مشهدا لا ينسى و”مونولوغا” رائعا يكاد يكون أجمل مشاهدها على الإطلاق في العمل، وخاصة حين تؤكد له أنه وحده من بين كل الرجال من أرادته شريكا حقيقيا لا راعيا، ليس أبا تطلب منه قرضا كل حين، وليس صديقا زائفا مثل زعيم العصابة المقتول الذي كان يلبي احتياجها للمال، ورغم ذلك يتخلى مايك عنها من أجل زوجته السابقة، لتؤكد “ديلي ويست” أنها لم تعد بحاجة له أو لغيره بعد أن ضاع كل شيء، الكنز والحب.

لعبة البناء

تحول الإنتاج لصالح شبكة نتفليكس إلى ما يشبه ثقافة منصة، وأول ملامح هذه الثقافة هو لعبة البناء والمونتاج، وقد لعب صانع العمل في بناء قصته على طريقة تقديم مشهد مفتاحي أو تفسيري لأحداث كل واحدة من الحلقات السبع للعمل قبل عرض التتر.

يقدم المشهد إما من ماضي الأبطال ليفسر سلوكهم الحالي أو من مستقبل العمل ليتم تفسيره في سياق الحلقة نفسها، لكن تقديم المشاهد التي تعد فلاش باك (عودة للماضي) غلب على العمل، وهي تجربة جديدة بالنسبة للمشاهد بشكل عام ولكنها ثقيلة، إذ يبدو الأمر مثل مكعبات تراصت بجوار بعضها عبر نظام عقلي يخالف الطبيعة التي تعتمد على التراتب الطبيعي للزمن ومرور الأحداث.

ويفقد العمل الكثير من تلقائيته في رأس المشاهد، يبدو مفتعلا إلى حد كبير، مع وجود بصمات واضحة لصانع العمل، لكنها لا تضيف شيئا سوى وجودها كبصمات، خاصة في ظل وجود حلول إبداعية بسيطة قد تستطيع إدخال المشاهد التي تنتمي للماضي إلى ترتيبها الزمني الطبيعي في العمل أو إعادة المشاهد المستقبلية إلى مكانها.

ولعل الدافع وراء تلك التقنية العجيبة هو تلك الرغبة في الإبقاء على المشاهد جالسا أمام الشاشة من خلال انتقاء أكثر المشاهد جذبا لوضعها في مقدمة كل حلقة.

ورغم لعبة المونتاج وإعادة صياغة بناء القصة بعيدا عن الترتيب الزمني لحدوثها، فإن “رجل من فلوريدا” نجح في جذب المشاهد وإضحاكه في بعض المواقف التي لم يقصد كونها كوميدية، خاصة ذلك التسامح اللانهائي مع القتلة والخونة.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version