كرويا، ألبانيا – انطلقت بي السيارة من العاصمة تيرانا، وقلبي يملؤه الشغف لرؤية كرويا مرة أخرى. كلما وطأت قدمي هذه المدينة التاريخية، شعرت بارتياح عميق وكأنني عدت إلى مكانٍ أعشقه ويعرفني جيدا، فأنا لا أمل من زيارتها المتكررة. يكفي أن أراها تلوح في الأفق، متربعةً على قمة التل المرتفع، وكأنها تحرس الجبال الشاهقة التي تحتضنها.
ومع اقترابنا من المدينة، يبدأ الطريق المؤدي إليها في سرد قصصه، حيث تنفتح أمامنا سلسلة من التلال الخضراء الجميلة. التل الأخير الذي تتربع عليه قلعة كرويا يأخذ الألباب بجمال مشهده، محاطا بغابات كثيفة وأشجار تزين جوانب الطريق. وعندما نصل إلى المدينة، تبدأ أشجار الزيتون في الظهور، تحمل في أغصانها عبق التراث والثقافة. تنتشر هذه الأشجار في كل زاوية، داخل المنازل والمقاهي، وكأنها تروي قصة الارتباط العميق لسكان هذه المنطقة بالأرض والزراعة، لتصبح رمزا ثقافيا يعبّر عن الهوية الألبانية.
رغم انبهاري بهذا المشهد الآسر الذي يأخذ بالألباب، وجدت نفسي غارقا في تأمل عميق حول سرّ نجاح أهل كرويا في التصدي لحملات الحصار العثماني المتكررة. كيف استطاعوا الصمود 3 مرات متتالية، ولم يستسلموا حتى رحل قائدهم إسكندر بك؟ وفي لحظات صمتي، خُيّل لي أنني أسمع وقع أقدام الخيل يحيط بي، كأنني عدت إلى زمن المعارك الضارية التي دارت هنا، بين سكان كرويا الأشداء تحت قيادة قائدهم الشجاع إسكندر بك، وبين جيوش السلطان محمد الفاتح. وكأن أصوات السيوف تتشابك، وطلقات المدافع تقصف، وصداها يردد أصداء الصمود الأسطوري حتى اليوم، ليبقى صدى الماضي حاضرا في هذا المكان العريق.
لنبدأ رحلتنا إلى “قلعة كرويا”، رمز الهوية الألبانية، وموطن تاريخ عريق في أحضان طبيعة خلابة.
قلعة كرويا.. التاريخ والتراث والجغرافية
في شمال منطقة الوسط الألباني، وعلى بعد 32 كيلومترا شمال العاصمة تيرانا، تقع مدينة كرويا الجبلية، التي تجمع بين جمال الطبيعة الخلابة والتاريخ العريق، وثرائها بالمعالم السياحية والأثرية وشهرتها بمنتجاتها الجميلة المصنوعة يدويا؛ ما يجعلها وجهة مثالية لعشاق الطبيعة والباحثين عن الثقافة والتراث.
وتتربع قلعتها التاريخية فوق تل عال يطل على المدينة التي توسعت أسفلها، كجوهرة تاريخية تسرد بشموخ للأجيال المتعاقبة قصص البطولات والمآثر الألبانية على مدار قرون مضت. فقد حولها موقعها الإستراتيجي المهيمن على المنطقة، وقلعتها المحصنة بأسوارها القوية وأبراجها المهيبة، لحصن منيع دافع عن الأراضي الألبانية منذ أن أصبحت مركز لأول كيان سياسي ألباني ظهر في العصور الوسطى.
فهذه القلعة التاريخية، التي تقع على تل مرتفع بنحو 608 أمتار فوق سطح البحر، وتتيح للزائرين إطلالات بانورامية مذهلة على المنطقة حولها، ليست مجرد بناء حجري؛ بل هي رمز للهوية الوطنية الألبانية؛ حيث جسدت روح المقاومة عبر الزمان، وأضحت رمزا لصمود وشجاعة الألبان؛ وما زال صدى المعارك يتردد في أرجائها وبين جنبات تلالها المحيطة، ويسطر في كتب الألبان حتى الآن.
أهمية كرويا لا تقف عند التاريخ؛ بل تعززها أيضا جغرافيتها الرائعة؛ فهذه المدينة الساحرة تعد الأكثر زيارة بين المدن الألبانية من قبل السائحين الأجانب والمواطنين المحليين؛ فقد تفردت بطبيعة خلابة متنوعة جمعت بين سهول ممتدة تخترقها أنهار متدفقة، وبين سلسلة تلال مرتفعة تليها جبال شاهقة؛ ما جعل من زيارتها مغامرة مثيرة ماتعة لعشاق الطبيعة، بجانب كونها رحلة ثرية شيقة لعشاق الثقافة والتراث.
مركز أول كيان سياسي
تشير المصادر الألبانية إلى أن مدينة كرويا الجبلية سكنتها القبائل الإليرية، أجداد الألبان، منذ القرن الرابع قبل الميلاد. وبعد سقوط دولتهم في مواجهة الإمبراطورية الرومانية عام 168 قبل الميلاد، أضحت كرويا تحت سيطرة الرومان، قبل أن تتعاقب عليها الإمبراطوريات، بما في ذلك البيزنطية. وظهر اسم المدينة في الوثائق البيزنطية لأول مرة في القرن السابع تحت مسمى “كرواي” (باليونانية)، في حين حملت اسم “آق حصار” بمعنى “القلعة البيضاء” في العهد العثماني.
في عام 1190، بزغ نجم كرويا كعاصمة لأول كيان سياسي ألباني مستقل بعد انحسار النفوذ البيزنطي، حين أسس الأمير بروغون إمارة أربيريا (Principality of Arbanon)، التي اتخذت من قلعة كرويا مقرا لإدارتها. وامتد نفوذ الإمارة ليشمل مساحات شاسعة من الأراضي الألبانية، وهذا أكسب كرويا قيمة إستراتيجية وثقافية كبرى. تحت قيادة بروغون ومن جاء بعده، ازدهرت المدينة، وتحصنت أسوار قلعتها وشهدت علاقات تجارية وثقافية متبادلة مع دول إيطاليا وجوار البحر الأدرياتيكي، لتصبح مركزا إداريا وسياسيا محوريا في تلك الحقبة، وشكلت بداية الوعي السياسي للألبان.
حافظت إمارة أربيريا على استقلالها النسبي عن الإمبراطوريات الكبرى المجاورة، مع التبعية الطفيفة للبيزنطيين ثم لإمبراطورية إبيروس. وتمتع حكامها بحرية في إدارة شؤون الإمارة، وهذا سمح لهم بتأمين مصالحهم وتحصين المدينة. ورغم أن الإمارة لم تدم طويلا، إذ تراجعت بعد وفاة آخر حكام سلالة بروغون وفقدت استقلالها عام 1255، إلا أن هذه الفترة تمثل مرحلة حاسمة في تشكّل الهوية السياسية الألبانية.
وأصبحت إمارة أربيريا رمزا لتراث الألبان القومي ومرحلة مبكرة من بلورة الوعي القومي، وهو ما يُعزى إلى دور كرويا المحوري في تعزيز الهوية السياسية والتاريخية للألبان في العصور الوسطى. وقد واصلت القلعة رمزية قوتها طوال الفترات التاريخية المتعاقبة، إذ كانت شاهدا على صراعات البيزنطيين والإمارات المحلية، وظلت كرويا مركزا سياسيا وعسكريا بارزا شمال ألبانيا حتى دخول العثمانيين.
إسكندر بك.. أسطورة الألبان القومية
برزت مدينة كرويا كرمز للنضال القومي الألباني بفضل شخصية حاكمها الشجاع جرجي كاستريوت، المعروف بإسكندر بك، الذي تحول إلى رمز قومي للألبان في مقاومتهم للإمبراطورية العثمانية. فمع مطلع القرن الـ15، زحفت القوات العثمانية نحو كرويا وفرضت سيطرتها عليها، إلا أن إسكندر بك قاد تمردا حاسما، وتمكن من استعادة المدينة عام 1443، مدافعا عنها بشجاعة أبهرت الجميع.
تصدى إسكندر بك لـ3 حصارات عثمانية شرسة في أعوام 1450 و1466 و1467، وهذا اعتُبر إنجازا بارزا، خصوصا في ظل قيادة السلطان محمد الفاتح الذي حضر شخصيا إلى ألبانيا. ورغم ذلك، سقطت كرويا بعد 10 أعوام من وفاة إسكندر بك إثر حصار رابع عام 1478، لتدخل حقبة جديدة من التاريخ تحت الحكم العثماني.
ومع نيل ألبانيا استقلالها عن الإمبراطورية العثمانية عام 1912، استعاد الألبان أسطورة إسكندر بك بفخر واعتزاز، وأصبحت كرويا رمزا قوميا، يلهم الأدباء والمؤرخين.
موطن للطريقة البكتاشية
واليوم، تُعرف مدينة كرويا بأنها أحد المعاقل البارزة للطريقة البكتاشية الصوفية، التي تأثرت بالأفكار الشيعية في بعض معتقداتها، وما إن يبدأ الزائر بالصعود إليها حتى تتجلى معالم هذه الطريقة. على التلال المحيطة، تُشاهد الزوايا والتكايا الصوفية التي تحمل رموزا، وتحتضن مقابر شيوخها، وكأنها تعلن وجودها في كل ركن من أركان المدينة. ينعكس هذا التراث أيضا داخل القلعة التاريخية، وفي الأماكن المرتفعة التي تمتد نحو الجبل الشاهق الذي يحمي المدينة من جهة الشرق، ليجسد ارتباط أهل كرويا الوثيق بهذه الطريقة الصوفية، التي تضفي بُعدا روحيا إضافيا على أجواء المدينة وتاريخها العريق.
المسار السياحي
دعونا نترك التاريخ خلفنا ونستقبل مدينتنا التاريخية الجميلة لنستكشف معا أهم وأبرز معالمها الأثرية والسياحية. تُقدم لكم “الجزيرة نت” مسارا سياحيا مميزا لاكتشاف كنوز كرويا الثقافية.
نبدأ مسارنا السياحي من وسط المدينة الحديثة في كرويا، حيث يقع نصب إسكندر بك، رمز الهوية الألبانية والمقاومة الوطنية. من هنا، نتوجه نحو البلدة القديمة، إلى بازار كرويا القديم، أحد أعرق الأسواق في ألبانيا، حيث يمكن للزوار استكشاف الحرف اليدوية المحلية مثل الأقمشة التقليدية، والسجاد الألباني، والأواني النحاسية، والمجوهرات الفضية، ما يضفي على البازار طابعا أصيلا يعكس تاريخ ألبانيا وثقافتها.
بعد ذلك، نواصل السير نحو جامع السوق الأثري، الذي يعود تاريخه إلى ما يقرب من 5 قرون، ليكون شاهدا على العمارة الإسلامية التراثية التي جلبها العثمانيون. هذا الجامع يعتبر من المعالم التاريخية المميزة، إذ يحتفظ بتصميمه الأصلي الذي يبرز البساطة والفن المعماري الفريد لتلك الفترة.
من هنا، نتابع الطريق إلى قلعة كرويا، حيث سنجد أطلال جامع السلطان محمد الفاتح، الذي يعيد للأذهان مكانة كرويا في العهد العثماني. وداخل أسوار القلعة، يتوفر متحفان مهمان؛ متحف إسكندر بك، الذي يعرض تاريخ القائد الألباني ودوره في مقاومة الجيوش العثمانية، والمتحف الإثنوغرافي، الذي يقدم لمحة عن حياة السكان المحليين في القرون الماضية. ويحيط بالقلعة العديد من البيوت القديمة التي تحولت إلى مطاعم ومقاهٍ تقدم أطباقا تقليدية، وتوفر فرصة للاسترخاء وسط عبق التاريخ.
وأخيرا، ننهي الجولة على أسوار القلعة المحيطة، حيث نستمتع بإطلالات بانورامية ساحرة على المدينة والمناطق المحيطة، ما يضيف لمسة خالدة لهذه الرحلة الغنية بالتراث والثقافة.
نصب إسكندر بك
يُعد تمثال إسكندر بك في مدينة كرويا نقطة انطلاق مثالية للمسار السياحي، حيث يقع في ساحة المدينة الحديثة، بالقرب من البلدة القديمة. وتم تنصيب هذا التمثال التذكاري للبطل القومي جورج كاستريوت، المعروف بإسكندر بك، في 28 نوفمبر/تشرين الثاني 1959، في ذكرى استقلال ألبانيا عن الدولة العثمانية عام 1912. وقد تم اختيار هذا التاريخ لدوره في الحرب الألبانية العثمانية بالقرن الـ15.
يعد نصب إسكندر بك، الواقع أمام مركز البلدية، رمزا للهوية الوطنية الألبانية، ويتميز بموقعه المثالي الذي يوفر إطلالات جميلة على المدينة، وهذا يجعله نقطة جذب مهمة. وقد تم تصنيفه معلما ثقافيا وطنيا منذ عام 1963، وهذا يضفي عليه قيمة تاريخية وثقافية كبيرة في ذاكرة الألبان والزوار.
وتم نصب التمثال في 28 نوفمبر/تشرين الثاني 1959، الذي يتزامن مع الذكرى السنوية لاستقلال ألبانيا عن العثمانيين عام 1912، وهذا يعيد إحياء دور إسكندر بك في التصدي للجيوش العثمانية قبل أكثر من 5 قرون. وقد أُعلن عنه رسميا معلما ثقافيا وطنيا عام 1963.
البلدة القديمة
بينما نتقدم بخطوات متأنية نحو البلدة القديمة حيث “بازار كرويا القديم” و”جامع السوق الأثري”، يشعر الزائر وكأن الزمن قد توقف هنا. كل ما يحيط بك يعيدك إلى عصور مضت، حيث الطرق المرصوفة بالحصى والأسواق المصنوعة من الأخشاب والحجر، وعبق التاريخ الذي يملأ الأجواء. الجامع الأثري، بنقوشه القديمة ورائحته العطرة، يُشعر الزوار بنسمات روحانية تغمر المكان. هنا، في كرويا القديمة، تتجلى الكنوز الثقافية الفريدة.
وتُعتبر الأسواق الأثرية جزءا لا يتجزأ من حياة المدن الألبانية التاريخية خلال الحقبة العثمانية. وكانت هذه الأسواق تُبنى عادة أسفل أسوار قلاعها القديمة وعلى الطرق المؤدية إليها. وفي بدايات الفتح الإسلامي، كانت القلاع تمثل مقر الحامية العسكرية وسكان المنطقة.
ومع مرور الزمن وتوقف الحروب، بدأت النهضة العمرانية تتوسع خارج أسوار القلعة. وتدفق الحرفيون والتجار إلى المنطقة، وهذا استلزم إنشاء أسواق مقسمة حسب الحرف المختلفة. وقد تطلب هذا الأمر بناء جامع خاص بالتجار والحرفيين، والذي كان يُقام دائما في بداية السوق، واشتهر باسم “جامع السوق”، ويُدوَّن على جدرانه اسم من بناه، ليظل شاهدا على تطور هذه المدينة التاريخية.
وبينما نتجول في هذه الأزقة العتيقة، نشعر بعبق التاريخ يتجلى في كل زاوية، ونعرف أن كرويا ليست مجرد مدينة، بل هي قصة حية تتحدث عن تراث وحضارة غنية، تظل محفورة في ذاكرة الأجيال.
جامع السوق.. قلب المجموعة المعمارية والثقافية لـ”بازار كرويا”
على أرض مرتفعة قليلا على يسار “بازار كرويا القديم”، تبرز أمامنا صورة جامع مراد بك الأثري، المعروف بجامع السوق، كقلب نابض وسط هذا الفضاء التجاري العريق. وبروعة معمارية وتألق في تفاصيله الدقيقة، يبدو الجامع كأنه يحتضن تاريخ المدينة بين جدرانه.
وعند اقترابنا، تتجلى أمام أعيننا النقوش القديمة على جدرانه، التي تروي قصته منذ أكثر من 450 عاما، حيث بُني بين عامي 1553 و1554 ميلاديا. هذه الجدران ليست مجرد أحجار؛ بل هي تجسيد لتواريخ وقصص تروي تراثا عريقا ما زال ينبض بالحياة.
ويعتبر المؤرخون الألبان أن بناء هذا الجامع خارج أسوار قلعة كرويا يعكس الهدوء والأمان الذي ساد المنطقة بعد فترات طويلة من الصراعات بين جيوش الخلافة العثمانية وسكان القلعة. وفي قلب هذا المعلم، يمكن للزوار أن يشعروا بأصداء التاريخ، حيث تحول المسجد إلى رمزٍ للسلام والألفة في المدينة.
ومع مرور الزمن، خضع هذا المعلم لعمليات ترميم في عامي 1837 و1838، ليظهر مجددا بجماله المعهود في السنوات الأخيرة، محتفظا بمكانته كمركز للحياة الروحية والثقافية. ولا يزال الجامع يستقبل المصلين والزوار من مختلف الأديان والثقافات، مُقدّما لهم مكانا للسكينة والتأمل.
داخل رحاب الجامع، نشهد المصلين وهم يتوافدون لأداء الصلوات الخمس، وهذا يضفي حياةً دائمة على المكان. وتتعالى أصوات الأدعية، متداخلةً مع ضحكات الأطفال ونقاشات الزوار، لتملأ الأجواء بعبق الروحانية والدفء الإنساني.
ويمثل جامع السوق أكثر من مجرد مكان للصلاة؛ إنه مركز ثقافي يروي قصة الهوية الألبانية الغنية، ويجمع بين التاريخ والدين والثقافة في لوحة فنية متكاملة. وهنا، حيث تختلط الأجيال ويُحتفى بالتراث، نشعر بأننا جزء من هذا النسيج الثقافي، نُسطر ذكريات جديدة في حضن تاريخ عريق.
“بازار كرويا القديم”… أجمل أسواق ألبانيا التاريخية لمنتجات الحرف اليدوية
ويُعتبر البازار القديم في مدينة كرويا أجمل وأروع الأسواق الأثرية التقليدية في ألبانيا، حيث يُعدّ نقطة جذب رئيسة للسياح الأجانب والمواطنين المحليين على حد سواء. ويمتد السوق على جانبي الطريق الرئيسي المرصوف بأحجار جميلة، الذي يقودك نحو بوابات القلعة، مُشكلا ممرا بين المدينة الحديثة والمواقع التاريخية، وهذا يعزز ارتباطه العميق بالتراث المحلي.
وما زال البازار يحتفظ بجوهر العمارة التقليدية العثمانية، حيث تتزين المباني الخشبية ذات الأسقف المائلة والمداخل الضيقة، وتستمر الحياة فيه ببيع التحف والحرف اليدوية التقليدية، مثل النعال الصوفية والسجاد الشرقي والمجوهرات الفريدة.
بدأ “بازار كرويا القديم”، المعروف أيضا باسم “ديريجيكو” (Derexhiku)، نشاطه منذ ما يقرب من 400 عام، وكان يضم حوالي 150 متجرا. ومع توسع البازار وتطور التجارة والصناعات اليدوية، تم بناء منازل ومبانٍ وورش خارج أسوار القلعة، وهذا أدى إلى اتساع المدينة جغرافيا وسكانيا وعمرانيا على مدار قرون متتالية.
تجولت في أروقة البازار، واستشعرت كأنني قد عدت إلى الماضي. يُمكنك رؤية الحرفيين وهم يصنعون منتجاتهم بدقة ومهارة عالية، وهذا يحفز السياح على اقتناء بعض من هذه المنتجات المحلية الصنع كتذكار جميل من زيارتهم لهذه المدينة العريقة.
وتدير معظم المحلات التجارية عائلات محلية، حيث حافظت على هذه التجارة التقليدية عبر الأجيال. وتلعب العائلات الألبانية في كرويا دورا حيويا في الحفاظ على هذه الحرف اليدوية، فالمهارات تنتقل من جيل إلى جيل داخل الأسر. وغالبا ما تكون هذه المهارات جزءا من التراث العائلي، حيث تبرز النساء بشكل خاص في مجالات النسيج والتطريز، بينما يشارك الرجال عادةً في الأعمال المتعلقة بالنحاس والفخار.
ويمتد السوق وسط منطقة محاطة بالمقاهي والمطاعم التي تقدم المأكولات الألبانية التقليدية، وهذا يتيح للسياح فرصة للاستراحة والاستمتاع بالأطعمة المحلية في أجواء المدينة الجبلية الفريدة. وفي “بازار كرويا القديم”، تتناغم الروائح والنكهات مع عبق التاريخ، ليخلق تجربة لا تُنسى لكل زائر.
وفي “بازار كرويا القديم”، لم أشعر فقط بأنني أستكشف سوقا، بل كنت أستكشف أيضا تراثا وثقافة غنية. كل زاوية كانت تحمل معها قصة، وكل منتج كان له حكاية، وهذا جعلني أدرك أن هذا المكان هو أكثر من مجرد سوق، بل هو قلب نابض يحمل في طياته تاريخ الهوية الألبانية
سبيل أسفل أسوار القلعة
بعد انتهائي من جولتي في البازار القديم وبينما أتجه نحو قلعة كرويا في الأعلى، لفت انتباهي سبيل قديم في موقع إستراتيجي على مقربة من المدخل الرئيس للقلعة، وهذا يجعلها نقطة توقف مثالية للزوار، وأخذت لقطات تصويرية مع هذا المعلم ذي الطابع العماري العثماني.
عند الاقتراب، يمكنك رؤية التصميم المعماري الفريد للسبيل، الذي يتضمن مجموعة من الأقواس الحجرية المنحوتة بدقة، ويُعد تجسيدا للبراعة الفنية التي ازدهرت في فترة الحكم العثماني. تشعر كأنك تخطو إلى عالم آخر، حيث يعود بك الزمن إلى قرون مضت، حين كانت هذه البئر توفر الماء العذب للمسافرين والمقيمين في المنطقة.
قلعة كرويا.. تروي قصص الأمجاد
تستقبلنا قلعة كرويا بفخر وهي تتربع على قمة تل مرتفع، مقدمةً إطلالات ساحرة على الجبال المحيطة بها. هذه القلعة ليست مجرد حصن، بل هي قصة حية تحمل بين جدرانها أسرار الأمجاد والتاريخ. ومن هذا الموقع الإستراتيجي، يمكن رؤية المناظر الطبيعية الخلابة التي تمتد على 3 جهات، جنوبية وشمالية، مع رؤية ساحل البحر الأدرياتيكي يتلألأ في الأفق الغربي. بينما تحميها سلسلة من الجبال الشاهقة من الخلف، وتشعر كأن القلعة تتأمل جمال الأرض التي تحتضنها.
تتميز قلعة كرويا بشكلها البيضاوي الفريد، الذي يمتد على مساحة 2.5 هكتار (6.2 أفدنة)، وهذا يتيح للزوار استكشاف تفاصيلها العديدة. ويعتقد أن بناءها يعود إلى القرن الخامس أو السادس الميلادي، إلا أن البيزنطيين أعادوا بناءها في القرنين الـ11 والـ12، تلاهم العثمانيون في القرنين الـ16 والـ17. لكن المفاجأة تكمن في أن الحفريات الأثرية كشفت عن أن هذه الأرض كانت مأهولة منذ القرن الثالث قبل الميلاد، وهذا يعكس غنى تاريخها.
ما يميز قلعة كرويا عن باقي القلاع الألبانية هو مدخلها الفريد، الذي يتم الوصول إليه من خلال نفق مقنطر يقع في الجهة الشمالية. وعند دخولك من هذا النفق، تستقبلك على يمينك، أطلال مسجد السلطان محمد الفاتح، بجواره أطلال حمام تركي قديم يقع خلفه، بينما يمتد أمامك مسار مائي مصنوع من الأحجار، يحمل الماء إلى المسجد والحمام والقلعة، ليحكي لك قصة الحياة اليومية في ذلك الزمن.
وداخل القلعة، يمكنك استكشاف العديد من المعالم التاريخية ذات الطابع الديني والثقافي والاجتماعي، بالإضافة إلى المتاحف والبيوت الأثرية، التي تحولت لمطاعم ومقاهي تستقبل الزائرين يوميا.
وتكتسب القلعة شهرتها أيضا من تصويرها على الأوراق النقدية الألبانية، حيث تظهر على فئة ألف ليك لعام 1996 وفئة 5 آلاف ليك لعام 2013.
مسجد الفاتح.. جوهر الهوية الإسلامية
يُعد مسجد السلطان محمد الفاتح من المعالم العثمانية البارزة التي تجسد الهوية الإسلامية والتراث الثقافي والديني في مدينة كرويا، حيث يقع بجوار المدخل الرئيس للقلعة. بُني المسجد قبل عام 1481 تخليدا لاسم السلطان العثماني محمد الثاني، المعروف بلقب “الفاتح”.
وعلى مر السنين، واجه المسجد تحديات عديدة أثرت على مكانته. فقد تعرض للتدمير عام 1831، إلا أنه أعيد بناؤه في عهد السلطان محمود الثاني، ليظل مكانا يلتقي فيه المسلمون للصلاة ويحتفظ بجوهر الهوية الإسلامية.
ورغم إعادة بنائه، لم يكن مصيره خاليا من الشدائد. في عام 1917، شهد انهيار مئذنته البديعة، التي كانت تُعد رمزا لجمال العمارة الإسلامية، نتيجة لعاصفة شديدة. ورغم هذه المحن، استمر المسجد كدار عبادة حتى عام 1937، حيث كانت أصوات الأذان تملأ الأفق وتعيد الحياة الروحية إلى المنطقة.
ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية، تعرض المسجد للإساءة حيث استخدم كمخزن للذخيرة، وهذا أدى إلى تراجع دوره كرمز إسلامي. والتدهور الذي شهدته المنطقة في فترة حكم الدكتاتور الشيوعي أنور خوجا، الذي سعى إلى تقويض الهوية الإسلامية، أضاف طبقة أخرى من المعاناة إلى تاريخ المسجد.
اليوم، لم يتبقَ من المسجد سوى الأجزاء السفلية من الجدران والمئذنة، لكن رغم حالته الراهنة، يظل المسجد رمزا مهما للتراث الإسلامي في كرويا، محملا بذكريات تاريخ طويل يعكس مقاومة الهوية الثقافية في وجه التحديات المستمرة.
متحف إسكندر بك الوطني
يعد متحف إسكندر بك الوطني، أكثر متاحف ألبانيا زيارةً، ومن أهم الوجهات السياحية الأكثر جذبا للزوار. افتتح في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 1982 داخل قلعة كرويا، وصُمم بأسلوب يعكس القلاع الأوروبية في العصور الوسطى.
يحتوي المتحف على مجموعة رائعة من المعروضات التي توثق حياة إسكندر بك ومآثره العسكرية، من بينها أسلحة قديمة، وملابس عسكرية، ولوحات فنية. كما يضم قطعا أثرية تعود إلى فترة حكمه، بما في ذلك نسخة طبق الأصل من خوذته الشهيرة التي تميزها زخرفة رأس الماعز، في حين يُعرض الأصل في متحف “تاريخ الفن” (Kunsthistorisches) في فيينا.
قام فنانون ومهندسون معماريون ألبان بموهبة عالية بتصميم هذا المتحف، ليصبح رمزا فنيا وثقافيا. ويعكس المتحف مراحل تاريخية هامة ويوفر نظرة معمقة للزوار عن تاريخ ألبانيا ومقاومتها للاحتلال، ليقدم تجربة ثقافية وتاريخية غنية توضح أحد أكثر فصول التاريخ الألباني فخرا.
المتحف الإثنوغرافي في كرويا
يقدم المتحف الإثنوغرافي في كرويا لمحة غنية عن أساليب الحياة وعادات الأسرة الألبانية قبل 300 عام، من خلال مجموعة واسعة من المعروضات التي تشمل الملابس التقليدية، الأدوات المنزلية، الحرف اليدوية، والفنون الشعبية. كما يسرد تاريخ العادات والتقاليد والأنشطة اليومية للمجتمع الألباني، وهذا يجعله وجهة مثالية للزوار الراغبين في فهم الثقافة الألبانية بشكل أعمق.
ويقع المتحف في منزل عائلة “طوبتاني” النبيلة، التي كانت تحكم المنطقة قبل انتقالها إلى مدينة تيرانا. ويُعرف هذا المنزل الأثري بتصميمه على الطراز المعماري المعروف باسم “تشاداك”، وهو من السمات البارزة لمنطقة كرويا في تلك الحقبة.
تتوزع المعروضات عبر الطوابق الثلاثة للمتحف، حيث تعرض جوانب مختلفة من حياة عائلة ألبانية ثرية خلال الحكم العثماني. وتتراوح أعمار المعروضات الرئيسة من 60 إلى 500 عام، ويُعتبر المنزل نصبا ثقافيا من الفئة الأولى، إذ يعود تاريخ بنائه إلى عام 1764، وتم تحويله إلى متحف عام 1989.
بيوت القلعة الأثرية
تُعرف البيوت الأثرية التقليدية في مدينة كرويا الألبانية باسم “تشاداك” (Çadak)، وهي جزء من التراث الثقافي والمعماري العريق لألبانيا. ويعود تصميم هذه البيوت إلى القرون الماضية، وتمثل نموذجا مميزا للعمارة التقليدية، خاصة في المدن الجبلية مثل كرويا. ويتميز هذا الطراز بمزيج من العمارة العثمانية والمحلية الألبانية، حيث يعكس كل بيت القيم الثقافية والاجتماعية لسكان المنطقة.
عادةً ما تحتوي البيوت الأثرية من طراز تشاداك على طابقين أو 3، حيث يُخصص الطابق العلوي للحياة اليومية والمعيشة. يتميز هذا الطابق بوجود نوافذ كبيرة تتيح دخول الضوء والتهوية الجيدة، وهو أمر بالغ الأهمية في المنازل الجبلية.
ولم تكن بيوت “تشاداك” مجرد مساكن، بل كانت تمثل نظاما اجتماعيًا وثقافيًا مترابطًا. يعكس تصميم البيت حياة العائلة الممتدة في ألبانيا، حيث يعيش أفراد العائلة الكبيرة معا في نفس المسكن، مع الحفاظ على تقاليد الضيافة والاحترام بين الأجيال. وكان لكل جزء من البيت وظيفة محددة تعكس القيم الاجتماعية، مثل تخصيص غرفة للضيوف وإعداد الطعام في مساحات منفصلة.
الزيتون والآبار.. رموز تراثية ثقافية
تنتشر أشجار الزيتون الخضراء اليانعة على التلال المحيطة بكرويا، وفي كل زاوية من أزقتها، لتضفي لمسة من الجمال الطبيعي على البيئة. تبدو أشجار الزيتون العتيقة، التي شهدت مرور قرون من الزمن، وكأنها تحكي قصص الأجيال الماضية، حيث تُعتبر رمزا للعطاء والثبات في الثقافة الألبانية.
أما الآبار، التي توجد في كل مكان، فهي جزء لا يتجزأ من حياة سكان كرويا، تحمل في أعماقها حكايات تاريخية متنوعة. وكل بئر تروي قصة عن الماضي، حيث كانت تمثل مصدرا حيويا للمياه في زمن كان فيه الوصول إلى الماء يعد تحديا. وتتزين جوانب هذه الآبار بالأعشاب والنباتات المحلية، وهذا يضفي طابعا حيويا ومشاعر دافئة على المشهد.
في المطاعم والمقاهي، تُعتبر أشجار الزيتون بمثابة أصدقاء للزوار، حيث يجلس الضيوف تحت ظلالها للاستمتاع بوجباتهم التقليدية، بينما تضيف الآبار جمالا ريفيا للمكان. هذه العناصر تعزز من تجربة الضيافة الألبانية الأصيلة، حيث تتمازج نكهات الطعام مع عبق التاريخ، ويصبح كل لقاء مع الطبيعة تجربة لا تُنسى.
وتتجلى في كرويا روح التراث الثقافي الذي يُعبر عن انتماء الألبانيين إلى أرضهم، حيث يتشارك السكان والزوار في تقدير هذا الغنى الطبيعي والتراثي الذي يميز مدينتهم.
استكمال استكشاف قلعة كرويا.. من تكية دولمي إلى برج المراقبة
هنا نواصل مسيرتنا على أطراف قلعة كرويا، من الغرب إلى الشرق، بمحاذاة أسوارها الشاهقة، لنستكشف الأماكن المجاورة التي تحمل سمات دينية مميزة.
بجانب الأسوار الغربية، يبرز مبنى تقليدي يعود للعصر العثماني؛ إنه تكية دولمي، المعروفة أيضا بتكية حاجي مصطفى بابا، والتي تمثل أحد المعالم الهامة للطائفة البكتاشية. أسسها آدم آغا توبتاني عام 1193هـ (1779-1780 م)، ويُعتقد أنه مدفون في القبر الرخامي داخل التكية.
تُظهر التكية ملامح معمارية غنية، إذ يُعتقد أنها كانت في الأصل مسجدا، بوجود محراب للصلاة. وتُعتبر تكية دولمي مثالا بارزا للعمارة الإسلامية العثمانية، حيث تتميز بتصميمها التقليدي المتواضع، مما يجعلها جزءا لا يتجزأ من الإرث التاريخي والثقافي لمدينة كرويا.
تحتوي المنطقة المحيطة بالتكية على 360 قبرا مقدسا للطائفة البكتاشية، مما أكسبها لقب “خراسان الصغيرة”. ورغم تعرضها للتدمير خلال الحقبة الشيوعية، فقد أُعلن عنها نصبا ثقافيا في عام 1973 وأعيد بناؤها مؤخرا، لتصبح رمزا مهما للتراث الديني والثقافي في ألبانيا، وجاذبا للسياح الراغبين في اكتشاف تاريخها.
- أطلال لكنيسة قديمة
على السور الشرقي للقلعة، تظهر أطلال كنيسة قديمة كشفت عنها الحفريات مؤخرا. تشير المصادر التاريخية إلى أن أهل المنطقة فروا منها بعد السيطرة العثمانية، حيث انتقل البعض إلى الشمال أو هاجر عبر مدينة شكودرا إلى إيطاليا.
- برج المراقبة وإطلالاته الساحرة
ختاما، قبل أن تغادر قلعة كرويا، لا بد من زيارة برج المراقبة، أحد الأبراج القليلة المتبقية. يرتفع البرج 16 مترا (53 قدما) فوق الأسوار، ويوفر رؤية شاملة للأفق، حيث صُمم لمراقبة تحركات الأعداء من 3 اتجاهات: الجنوب، والشمال، والغرب، بينما يحميه جبل كرويا من الشرق.
وفي هذه اللحظة، تتوج قلعة كرويا رحلتنا المليئة بالإثارة. فإذا كنت تسعى لاكتشاف تاريخ ألبانيا العريق أو ترغب في الاستمتاع بجمال الطبيعة الخلابة، فإن كرويا هي الوجهة المثالية التي تقدم لك تجربة سياحية فريدة لا تُنسى، تجمع بين تنوع معالمها في التاريخ والثقافة والطبيعة.