يحسب للمخرج الأرجنتيني الأصل أليكس غارسيا ماركيز شجاعته في التصدي لتحويل واحدة من أعظم الروايات بالتاريخ إلى مسلسل تلفزيوني، وهي “مئة عام من العزلة” One Hundred Years of Solitude التي تعد الرواية الأكثر شهرة للكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز الحاصل على جائزة نوبل. وقد رفض كاتبها تحويلها إلى فيلم سينمائي قبل رحيله عام 2014، مشيرا إلى أن النص روائي طويل للغاية ويغطي أحداث حياة 7 أجيال، وبالتالي لن يتمكن صانع العمل من عمل حبكة فيلمية تكفي لكل هذه السنوات والأحداث والأجيال.

ولم ينجح المخرج في تحويل “مئة عام من العزلة” إلى مسلسل تلفزيوني متميز فقط، بل نقل أجواء الرواية بشكل مكثف. ورغم إخلاصه للعمل الأدبي، أستطاع أن يضيف حلولا درامية للرواية التي فاز صاحبها بجائزة نوبل عنها عام 1982.

الصورة بألف كلمة

أكد ماركيز على مقولة تسود منذ زمن تشير إلى أن الصورة بألف كلمة، حيث حقق ودقق ونفذ الوصف المكاني لقرية ماكوندو التي تدور أغلب الأحداث فيها، فجاءت كما تخيل قارئ وكاتب الرواية، وحوّل الشخصيات المتخيلة إلى بشر من لحم ودم، ونفذ إلى المعنى الأعمق للرواية، وذلك حين قدم نسخته ونسخة الكاتب الكولومبي من قصة نشأة الحضارة على الأرض بعد قتل قابيل أخاه هابيل، ويعرض الجزء الأول من العمل الدرامي على شاشة نتفليكس في 8 حلقات، بينما لم يعلن -بعد- موعد عرض الجزء الثاني.

وتبدأ قصة “مئة عام من العزلة” منتصف القرن الـ19 حيث يتعرف الجمهور على الزوجين الشابين خوسيه أركاديو بوينديا (ماركو أنطونيو جونزاليس) وأورسولا إيجواران (سوزانا موراليس) اللذين تزوجا دون رضا العائلة التي تخشى زواج الأقارب، وتعتبره من كبريات المآسي. وكانت والدة أورسولا قد قدمت لابنتها تنبؤات بأنها ستلد أطفالا وحوشا بذيول.

ويتورط خوسيه في قتل جاره لأنه سخر من زواجه، وتتم تبرئته من الجريمة، لكنه يضطر للبحث عن مكان جديد للعيش ويجمع مع زوجته أمتعتهما وينطلقان بعيدًا. وقبل أن يبدأ الزوجان رحلتهما، تذكر والدة أورسولا ابنتها “بغض النظر عن المكان الذي تركضين إليه، فلن تتمكني أبدًا من الهروب من القدر الحقيقي”.

ويصل الزوجان ومعهما عدد من الأسر التي رافقتهم إلى حافة نهر قريب، ويقرر أركاديو تأسيس قرية “ماكوندو” هناك. ويعرض المسلسل تفاصيل من حياة 7 أجيال من عائلة بوينديا، تطاردهم مآلات الحب والنسيان والمصير المحتوم في مكانهم الجديد الذي صار وطنا لهم.

الواقعية السحرية من الأدب إلى الدراما

لم تكن كتابات الواقعية السحرية غريبة تماما حين قدمها ماركيز في روايته، لكن الأديب الكولومبي جعلها فنا قائما بذاته، وأصبحت بعد صدور روايته نوعا أدبيا له خصوصيته، لكن الشرط الرئيس لهذا النوع من الحكي أن سحره وعجائبيته تتأسس على الواقع، وهي محكومة بشروطه.

وقد برز التزام صناع المسلسل بهذا الشرط من خلال بناء البيئة التي تدور فيها الأحداث، وتتشكل من مجتمع بدائي تماما، تربط أفراده علاقات، وتحكمها القوة والرغبة بالنجاة في ظروف بيئية غامضة، لكن مآلات غامضة تطارد أفرادها وتحدد مصائرهم.

واستطاع مبدعو العمل تفكيك النص الروائي وإبراز كل شخصية رئيسية في العمل وربطها بالمعنى الذي تتشكل معه الصورة الكلية، وإذا كان الأب بوينديا قد انساق وراء محاولات مهووسة لاكتشاف العالم وقوانينه بدءا من الفيزياء والكيمياء إلى الفلسفة والبحث عن الخلود، فإن زوجته كانت تمثل طوال العمل ذلك الرحم الذي يرعى الجميع ويحافظ على استمرار أكبر وأهم بيت في ماكوندو سواء برعاية الأبناء أو تربيتهم.

وفي الجيل التالي، يقترف الابن الأكبر الخطيئة ويهجر “ماكوندو” تاركا ثمرة الخطيئة في بيت العائلة، ويملك الابن الثاني “أوريليانو” حسا تنبؤيا، أو قدرة على التنبؤ بالأحداث قبل وقوعها، ويتحول مع تطور الأحداث إلى أحد قادة المجموعات المتمردة بالحرب الأهلية التي دارت رحاها في المنطقة. ولكنه، أيضا، ينجب طفل خطيئة، ويفرضه كابن شرعي على العائلة. ويضم الجيل الثاني فتاتين، إحداهما أقرب إلى صورة الساحرة الشريرة الحاقدة على أختها الأجمل منها، والتي تقع في الحب أكثر من مرة كل منها ينتهي بمأساة.

وكانت الأم “أورسولا” قد ذهبت للبحث عن ابنها بعد هروبه، ولكنها عادت بعد أشهر دون أن تجده، لتستقبل طفلة يتم ضمها إلى أطفال المنزل. وتنقل إلى البلدة التي تنتشر فيها عدوى مرض يؤدي لعدم القدرة على النوم، ثم النسيان التام.

ويقدم المخرج قصة “لعنة النسيان” التي أصابت عائلة بوينديا، وماكوندو كلها بشكل مدهش عبر مشاهد متتابعة، تكشف عن المعنى الأعمق للقطيعة المعرفية مع الواقع، وكيف يمكن أن تؤدي إلى الانقراض، لولا الغجري المتجول ملكيادس (جينو مونتيسينتوس) الذي قدم العلاج، والمعرفة لكبير العائلة.

وتحاول الكنيسة فرض سطوتها على البلدة، فيرفض “أركاديو” وتحاول الحكومة المركزية فرض سلطتها من خلال حاكم، فترفضه “ماكوندو” وتفضل العلاقات البدائية التي لا تستند إلى قوانين.

وبين البحث عن المعرفة وحكمة الحياة، يفقد كبير العائلة عقله، فيتم ربطه إلى شجرة بحديقة البيت، ويتحول إلى ما يشبه نصب تذكاري للأحزان وللذكريات. بينما يهاجر الأبناء، ومن ثم يرسلون أطفالهم، ويولد جيل ثالث تواكب نشأته تطورات سياسية ودينية.

ويبدو العمق الأدبي حاضرا بالنص التلفزيوني، حيث حرص العمل على إظهار تكرار التاريخ في دوائر. وتحول الأحداث إلى صور من بعضها رغم مرور الزمن نتيجة تكرار الأبناء أخطاء ارتكبها الآباء، ورغم ما قد يبدو من اختلاف مصير الأب خوسيه أركاديو والابن الأكبر أركاديو، فإن خطيئة كل منهما الكبري تؤدي بأحدهما للجنون وبالثاني لقتل غامض لم يكشف عن أسراره النص الروائي أو المسلسل.

ورغم الدقة الواضحة في نقل بيئة ماكوندو، والتفاصيل المدهشة لواقعية ماركيز السحرية، فإن الخيال الروائي والدرامي يستدعي الكثير من الماضي والحاضر البشري بدءا من قتل قابيل أخاه هابيل، إلى أزمات الباحثين عن المعرفة في مجتمعات لا تعترف بها، وصراعات السلطة والثروة، والحروب التي لا تتوقف لأسباب تتعلق بالمصلحة الذاتية كأولوية بدلا من مصلحة المجتمع.

ويبدو الفارق الأكثر وضوحا بين الرواية والمسلسل ذلك المناخ الكئيب الذي يبدو في معاناة أهل ماكوندو من حياة بدائية صعبة وإضاءة بسيطة، مقابل صفحات روائية تطلق العنان لخيال قارئ يستطيع أن يشكل الديكور والإضاءة كما يريد.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version