يقال إن أجمل الشعر أكذبه! فهل حق ما يقال؟

يخالف الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد، وهو من شعراء المعلقات، هذه المقولة إذ يقول:

وإن أحسن بيت أنت قائله

بيت يقال إذا أنشدته صدقا

وقد استحسن الشاعر الإسلامي حسان بن ثابت هذا البيت الشعري فاستعاره وبنى عليه فقال:

وإنما الشعر لبُّ المرء يَعرضه

على المجالس إن كَيْسًا وإن حُمُقا

وإن أحسن بيت أنت قائلُه

بيت يقال إذا أنشدتَه صدقا

منطلقا فيما ذهب إليه من أن الشعر صحيفة عقل صاحبه ومجلى عرضه واستعراضه أمام الناس، فإن حسن عقل الشاعر وفكره انعكس ذلك على لسانه صدقا وألفيناه في أشعاره.

لا تجزم المصادر بنسبة هذه المقولة إلى شخص بعينه، لكن مما أثر عن زياد بن أبيه أنه قال: “الشعر كذب وهزل، وأحقه بالتفضيل أكذبه”، ولعلنا نستطيع تفسير ذلك بما يقوم عليه الشعر من خيال وصور فنية، فكلما ازدادت قوة الخيال لدى الشاعر أغرق في صوره وأمعن في المبالغة، فاستطاع بذلك إدهاش المتلقي ونال إعجابه، ومن هنا قيل إن أجمل الشعر أكذبه! غير أن المقصود بالكذب في الشعر ليس ضد الصدق على وجه الحقيقة، فها هو البحتري يقول:

كلفتمونا حدود منطقكمْ

والشعر يغني عن صدقه كذِبُهْ

يقصد بذلك تزيين الأفكار وتجميل المعاني بالأخيلة والعاطفة والصور الفنية المبتكرة، ولا يعني الكذب بمفهومه الداعي إلى تزوير الحقائق وخداع الناس. ويُسوِّغ أبو هلال العسكري ذلك فيقول: “إن الشعر أكثره قد بني على الكذب والاستحالة من الصفات الممتنعة والنعوت الخارجة عن العادات… لاسيما الشعر الجاهلي… وليس يراد منه إلا حسن اللفظ وجودة المعنى”.

ولننظر إلى ما قاله هارون الرشيد للأصمعي: “إن كنت صادقا فقد أتيت عجبا، وإن كنت كاذبا فقد أتيت أدبا”، فالصدق والخيال ليسا متضادين في رياض الشعر، كما أن الكذب والخيال ليسا رديفين، وإنما يعول في ذلك على قدرة الخيال في جعل الحقائق جميلة أو بشعة حتى يشعر المرء أنها كذب! وإنما هي صدق خامره الخيال فجمله ليؤدي وظيفته الشعرية ويرتفع بالقول ليصير لغة عالية وأدبا.

وللكذب الشعري تسميات كثيرة تجعله يبدو وسيلة فنية، فقالوا المبالغة والمغالاة والغلو والإغراق، ومن ذلك مفهوم التخييل عند كل من عبد القاهر الجرجاني وحازم القرطاجني، فهو أداة الشاعر للوصول إلى المتلقي والتأثير فيه. وفي هذا السياق والحديث عن صدق الشعر وكذبه تراودنا أسئلة كثيرة؛ هل يجب أن يكون الشاعر صادقا بالمطلق؟ هل يستطيع أن يقنعنا بأفكاره ويؤثر في عواطفنا إن اتكأ على صدقه وصراحته فحسب؟ هل ستعجبنا الأشعار حين تخلو من عنصر المفاجأة الذي تحققه المبالغة بالمعاني حين تصدمنا بما لم نعتد سماعه من قبل؟ وكيف سنواجه رأي المتنبي مستغربا متعجبا من موت من لم يخالطه العشق حين قال:

وعذَلْتُ أهلَ العشق حتى ذقتُه

فعجبتُ كيف يموت من لا يعشقُ

وكأن الموت بأي سبب آخر غير العشق مستغرب مستهجن، فلا شيء يضاهي آهات العشق وعذاباته، ولا شيء يستحق أن يكون مسببا للموت غير العشق لشدة ما يلاقيه فيه المرء من أوجاع وآهات.

هل صدق المتنبي في قوله هذا؟ وهل لنا أن نحاكمه فيما يذهب إليه من أفكار ومبالغات؟ على الرغم من أن هذه المبالغة تبدو بعيدة عن الصدق والواقع والحقيقة، غير أنها أوصلت المعنى بحلة بهية مزدانة بالمبالغة المحببة إلى النفوس، سواء اتفقنا مع المتنبي فيما ذهب إليه أم لم تنفق!

دعونا نتفق أن أجمل الشعر ليس مرهونا بكذبه وصدقه، فأعذب الشعر هو ما كسر أفق التوقع لدى المتلقين بدهشة ولذة أطربتهم، فترنموا وقالوا: ما أبدعه!

موقف الإسلام والقرآن الكريم من الشعر والشعراء

يظن بعض عامة الناس أن موقف الإسلام من الشعر والشعراء سلبي لما فيه من كذب ومبالغات، ويظن بعضهم أنه محايد، لكنه في حقيقته موقف واضح وصريح، إذ يفرق الإسلام بين نوعين من الشعر والشعراء، فيقف من أحدهما موقفا إيجابيا ويقف من الآخر موقفا سلبيا؛ فكل ما وافق الشريعة من أشعار فهو محمود، وكل ما لم يخالفها فهو مقبول، أما الأشعار التي تعارض تعاليم الإسلام وتخالف ما جاء فيه فهي مرفوضة بالمطلق، وقد فرق القرآن الكريم بين قسمين من الشعراء في قوله تعالى في نهاية سورة الشعراء: ﴿والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾؛ يقول الشيخ ابن باز معلقا على هذه الآيات: “غالب الشعراء هكذا، يقولون ما لا يفعلون، وفي كل واد يهيمون، تراه يتكلم هنا أو هنا بغير حقيقة، بل أشياء يتخيلها، ثم يتكلم فيها، أو يكذب لحاجات في نفسه أو لأسباب أخرى. لكن في قوله تعالى ﴿إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ استثناء للذين أشعارهم طيبة ومفيدة، كحسان بن ثابت شاعر الرسول ﷺ، وكعب بن مالك، وعبدالله بن رواحة وغيرهم من شعراء المؤمنين، ثم من بعدهم في عهد التابعين وعهد أتباع التابعين إلى يومنا هذا”. ويعلق ابن رشيق على هذه الآية قائلا: “إن المقصود بالشعراء في هذا النص هم الشعراء الذين تناولوا رسول الله بالهجاء ومسّوه بالأذى وهم شعراء المشركين والمنافقين، وأما من سواهم من المؤمنين فغير داخلين في شيء من ذلك؛ ألا ترى كيف استثناهم الله عز وجل ونبه عليهم فقال تعالى ﴿إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾”.

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه البخاري في الأدب المفرد والدارقطني وصححه الألباني عن عائشة رضي الله عنها: “سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشعر فقال: هو كلام، فحسنه حسن، وقبيحه قبيح”. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا فيما يرويه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: “إن من البيان سحرا، و إن من الشعر حكمة” ، وأثر عن رسول الله أنه كان يأمر حسان بن ثابت بهجاء المشركين، ويأمره أن يستعين بأبي بكر الصديق رضي الله عنه لمعرفته أنسابَ قريش، فلا يقرب من نسب الرسول بسوء بدون دراية منه، فقد قال: “اهجهم ومعك جبريل روح القدس، والْقَ أبا بكر يعلمك تلك الهنات”. وكان يعلم أن أثر الأشعار في نفوس الكفار لا تقل عن أثر السيوف في أجسادهم، لذلك قال :”إنه أشد عليهم من وقع النبل”، وفي رواية أخرى: “إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأنَّ ما ترمونهم به نضحُ النبل”، وفي رواية ثالثة: “اهجهم يعني قريشا فوالله لَهجاؤك عليهم أشد من وقع السهام في غلس الظلام”. وكان يدعو لحسان بالتأييد والسداد في القول: “اللهم أيده بروح القدس” ويقصد جبرائيل عليه السلام.

ويروى أنه حين رد حسان بن ثابت على هجاء أبي سفيان لرسولنا الكريم بقوله:

هجوتَ محمدا فأجبتُ عنه

وعند الله في ذاك الجزاء

قال له رسول الله ﷺ: “جزاؤك عند الله الجنة يا حسان”. وحين أكمل حسان قصيدته وقال:

فإن أبي ووالده وعرضي

لعرض محمد منكم وقاء

رد عليه رسول الله ﷺ بدعائه له: “وقاك الله حر النار”.

وبذا صار “الشعر المؤمن” الذي ينصر الإسلام والحق ويؤيده محمودا مرغوبا فيه، بل هو حاجة للذود عن الإسلام والمسلمين، وصاحبه مقدم مأجور مشكور. ومواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشعر والشعراء تدل على قبوله لسماع الشعر واستعذابه له واستحسانه للجميل القويم منه، فمن لم يسمع بقصيدة البردة التي أنشدها كعب بن زهير بن أبي سلمى بين يدي رسول الله معتذرا ومادحا، فنال بها العفو وبردة رسول الله تشريفا وإعلانا للعفو وقبول المعذرة؛ وتعرف قصيدة البردة باسم (بانت سعاد) أيضا لأنه يقول في مطلعها:

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول

متيم إثرَها لم يُفدَ مكبول

ويروى أنه حين وصل كعب بن زهير وهو ينشد قصيدة البردة إلى قوله:

إن الرسول لنور يستضاء به

مهند من سيوف الهند مسلول

غير رسول الله قوله (من سيوف الهند) إلى (من سيوف الله)؛ فازداد المعنى شرفا وقيمة فنية وجمالا. ومثله حين استمع لقول النابغة الجعدي:

أتيت رسول الله إذ جاء بالهدى

ويتلو كتابا كالمجرة نيِّرا

بلغنا السماء مجدنا وجدودنا

وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا

فاستوقفه بسؤاله: “إلى أين يا أبا ليلى؟”، فأجاب النابغة الجعدي: “إلى الجنة يا رسول الله”. فنال جوابه إعجاب رسول الله بعد أن أحس بالمبالغة وروح الجاهلية في قوله (بلغنا السماء مجدنا وجدودنا)؛ وفي ذلك إشارة إلى تذوق رسول الله للمعاني الشعرية ومحاكمتها وفقا لما جاء في تعاليم الإسلام من نبذ للغرور والكبر والاستعلاء على الناس والافتخار بالنسب والحسب.

وكذلك كان حال الشعر مع خلفاء المسلمين، فقد كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري أن يأمر بتعلم الشعر لأنه “يدل على معالي الأخلاق، وصواب الرأي، ومعرفة الأنساب”. وكان ابن عباس رضي الله عنه يقول: “إذا قرأتم شيئا من كتاب الله فلم تعرفوه فاطلبوه في أشعار العرب؛ فإن الشعر ديوان العرب”، ويقال إنه كان إذا سئل عن لفظ أو معنى من القرآن أنشد فيه شعرا.

أما الاحتجاج بقوله صلى الله عليه وسلم: “لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرا” فالمقصود به أولئك الشعراء الذين غلب عليهم الشعر حتى ملكهم وغيبهم عن معنى الوجود فصار الشعر شغلهم الشاغل وألهاهم عن هدف الوجود، وقلقل بوصلة الكون لديهم، ولم يفرقوا فيه بين حسن ورديء وفقا لتعاليم الشريعة. ويقاس على ذلك اليوم كل ما يلهي المرء عن دينه وواجباته وفروضه.

لماذا نفى القرآن الكريم الشعر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

قد يتساءل بعض الناس؛ ما دام موقف الإسلام من الشعر والشعراء ليس سلبيا فلماذا نفى  القرآن الكريم الشعر عن رسول الله؟ والجواب في قوله تعالى في سورة العنكبوت: ﴿وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون * بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم﴾. فلو كان رسول الله شاعرا يتقن القراءة والكتابة لسهل على المشركين اتهامه بالكذب والتأليف، لكنها حكمة الله تعالى في جعل حججهم كلها واهية لا أساس لها ولا صحة، فلم يترك لهم مدخلا للريبة والادعاءات، بل يؤكد القرآن الكريم نفي الشاعرية عن رسول الله ليدرأ عنه أي صورة سلبية ارتبطت بالشعراء آنذاك كالكذب والمبالغة والبذاءة، إذ جاء في سورة يس: ﴿وما علمناه الشعر وما ينبغي له﴾؛ فرسول الله ليس بشاعر ولا ينبغي له ولا يداخله لا من قريب ولا من بعيد.

هل ضعف الشعر بعد الإسلام؟

يتردد الحديث عن فكرة ضعف الشعر بعد بزوغ شمس الإسلام وإعراض بعض كبار الشعراء عن قول الشعر وتقصيد القصيد، ويرجعون ذلك لاعتناقهم الإسلام وتفيئهم ظلالَه؛ لكن هذا الأمر في الحقيقة لا يرتبط بالإسلام بوصفه داعيا لترك الشعر! بل إن متطلبات الدعوة والمرحلة اختلفت فحق للشعراء أن يتأثروا بالعهد الجديد ويعيدوا ترتيب أولوياتهم مجددا، فبعد أن كان الشعر شغلا شاغلا لبعضهم، صار وسيلة فحسب، ووجد بعضهم ضالته وسكون نفسه في ترتيل آيات القرآن الكريم والنظر فيها والإحاطة بها وعيا وفهما وإدراكا، كلبيد بن ربيعة صاحب إحدى المعلقات. أضف إلى ذلك ما فرضته المرحلة من أحكام شرعية بدت قيودا لبعض الشعراء آنذاك، وبدت لآخرين حدودا تصقل التجربة الشعرية في ظلال الإسلام وتطبعها بطابعها الخاص، فالإسلام يرفع بطاقته الحمراء في وجه الأشعار التي تحط من قدر الإنسان وقيمته، وترفع بعضهم فوق بعض درجات دنيوية وفقا للنسب والحسب والجاه والمال وما إلى ذلك، ويعرض الإسلام عن كل شعر يدعو إلى الرذيلة وهتك العرض وتشييء المرأة وسكب ماء الحياء عنها. وبذا صار الهجاء مذموما إن لم يكن نصرة للدين والحق، وحين يكون كذلك لا بد ألا يوغل في الإسفاف والفحش والبذاءة. وصار للأغراض الشعرية كلها إطار أخلاقي لا يسمح بإهانة الإنسان أو الحط منه، وغدت للشعر وظيفة تربوية تمتع النفوس وتخاطب العقول في آن واحد.

سيبقى حديث الشعر والإسلام حاضرا في الحوارات والنقاشات الأدبية والنقدية والأكاديمية، غير أن أحدا لن يستطيع إنكار أن الإسلام صاغ الشعراء صياغة جديدة لتكون الكلمة في خدمة مقاصد الإسلام الكبرى التي جاءت لتصنع إنسانا حرا كريما، متحررا من عبوديته للآخر، منطلقا في فضاءات الحياة لإعمار الكون وتحقيق الخلافة في الأرض.

 

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version