باريس – “لا يوجد مكان آخر يختلط فيه التاريخ والأديان والخيال والسياسة لهذا الحد. كل حجر يخفي سره” وقصته.

إنها “فلسطين فكرة، أمل، مطلب، رمز”. تلخص هذه الكلمات المكثفة والفواصل الشعرية الموحية المعبرة، التي افتتح بها الكاتب والصحفي كريستوف عياد الكتاب الجماعي، “ما تقدمه فلسطين للعالم”، الصادر منذ مدة قصيرة باللغة الفرنسية ضمن السلسلة الدورية “عربوراما” عن معهد العالم العربي بباريس بالاشتراك مع دار النشر الفرنسية “سوي” (Seuil).

ضم الكتاب مجموعة من المقالات الصحفية والدراسات الفكرية والبحوث الاجتماعية والقصائد الشعرية والصور والخرائط التوضيحية والرسومات الفنية واللوحات التشكيلية، لنخبة متميزة من الصحفيين والمفكرين والكتاب والشعراء والفنانين والرسامين والمؤرخين والباحثين العرب والأوروبيين، التي تتغنى كلها بحب سيدة الأرض “فلسطين”، وتحاول أن ترسم لها بالحرف والريشة صورة تتراوح بين الحلم والواقع.

وطن لا ينتمي لنفسه

والكتاب القيّم ساهم فيه 50 مبدعا على غرار المثقف والكاتب إلياس صنبر، والكاتبة وسفيرة فلسطين السابقة لدى اليونسكو ليلى شهيد، والمفكر والكاتب والصحفي الفرنسي المعروف آلان غريش، والكاتب والشاعر عبد اللطيف اللعبي، والفنانة التشكيلية أصالة شوك صاحبة الغلاف المميز للكتاب.

يحاول الكتاب أن يحفر “أركيولوجيا” وتاريخيا و”أنثروبولوجيا” وأدبيا وفنيا في مسار وطن تحوّل إلى رمز، وفكرة تحولت إلى قضية، وقضية توحّدت بشعب، وشعب فاض عن الأرض وتاه في المنفى والشتات والكون باحثا عن صورة واقعية مطابقة لوطنه الأم المسلوب والمحاصر، فوجد نفسه في رحلة بحثه عن حق وحلم ومفتاح العودة يفتح أبوابا جديدة ويكتشف قارات فكر بكر ويخلق أوطانا وليدة في روحه وقلبه المتنصل من المكان والزمان والانتماء استحضارا لصرخة الشاعر الرمز محمود درويش “كل قلوب الناس جنسيتي.. فلتسقطوا عني جواز السفر”.

يقول الكاتب كريستوف عياد في مقدمة الكتاب “في الوقت الذي تبدو فيه فلسطين مهجورة من قبل الجميع، بدءا من الدول العربية، اخترنا العودة إليها بطبيعة الحال للتحدث عن شعبها المشتت بسبب التاريخ والحدود. وأردنا مسح أراضيها المقسمة بين غزة والضفة الغربية على أن تكون القدس مركزا لا يمكن تعقبه. هذه الأراضي التي ضمها الاحتلال الإسرائيلي وابتلعها جدار الفصل العنصري. بعد أن أصبحت رمزا للاستعمار في عالم يمر بعملية إنهاء الاستعمار في النصف الثاني من القرن الـ20، فإن فلسطين لا تنتمي إلى نفسها. إنها قضية ومصدر إلهام للعالم كله. الكوفية علم الثوار في العالم، والفلسطيني لم يعد مجرد جنسية من دون دولة، بل هو رمز الرفض والانصياع والمقاومة”.

من جانبه أشار جاك لانغ رئيس معهد العالم العربي بباريس إلى أن المعهد أراد من خلال هذا الكتاب الجماعي تقديم صورة إيجابية عن فلسطين، لأنه كثيرا ما يختصر الشعب الفلسطيني في النضال وفي المعاناة والحصار، ولكن يتم التغافل عن الجانب الإبداعي الثقافي لهذا الشعب الذي يقدم الأفكار الجديدة المتميزة والابداعات المتفردة إلى العالم.

ولفت لانغ -في حديثه للجزيرة نت- إلى أن المعهد أراد أن يقدم هذا الإرث الثقافي المتميز في أبهى صورة إلى القراء، خاصة وهو يحمل قيمة كبيرة للثقافة العالمية، ومن هنا جاء عنوان الكتاب “ما تقدمه فلسطين للعالم” كشكل من أشكال الاعتراف بإبداعات الشعب الفلسطيني وإضافاته الكبيرة إلى الثقافة العربية والإنسانية.

وأضاف “الوضعية المعقدة والظلم الذي يعيشه الشعب الفلسطيني ليس وليد اليوم وإنما هو نتيجة تراكمات تاريخية طويلة ومنذ عقود. وما يبعث على الحيرة والأسف في الوقت نفسه أننا لاحظنا هذا النسيان الدولي الذي تتعرض له القضية الفلسطينية العادلة حتى من بعض الدول العربية نفسها. ومن هنا جاء هذا الكتاب، حتى نذكر بهذه القضية وما يعيشه الشعب الفلسطيني من ظلم ونسيان ونعيدها إلى مركز الأحداث والاهتمام الدولي”.

وأشار إلى أن هذا الكتاب يحمل رسالة إلى المجتمع الدولي عن ضرورة الاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وأولها الحق في قيام دولة فلسطينية مستقلة. وشدد على أن المجتمع الدولي منقسم اليوم بخصوص القضية الفلسطينية، ولذلك جاء الكتاب بوصفه نوعا من الموقف والصرخة في وجه هذه المواقف المشتتة وفي وجه الظلم الذي يتعرض له هذا الشعب، وهي صرخة تدعو المجتمع الدولي لضرورة عدم نسيان هذا الشعب المثقف المبدع والمناضل بالأفكار الأصيلة.

المقاومة بالثقافة

ورغم أن هذا الكتاب الجماعي لا ينسى أن يستحضر ويغوص في المأساة الفلسطينية من خلال تداعيات الاحتلال الإسرائيلي بوصفه “نظام فصل عنصريا”، وعبر التسلط والقمع والحرمان والحصار اليومي للإنسان والأرض، والمقاومة الفلسطينية لحرب الاستنزاف التي لا تنتهي، فإنه يذهب أبعد من ذلك ليسلط الضوء، خاصة في الجزء الأخير منه من خلال مجموعة من الصور والرسومات واللوحات والقصائد الشعرية الفنية التشكيلية والخرائط البيانية والرسوم الكاريكاتورية والإبداعات المرئية، على الثقافة الفلسطينية بوصفها آخر القلاع الحضارية الإبداعية المتفردة التي لم تسقط وما زالت تقاوم بشراسة.

ويبرز ذلك خاصة في لوحات مثل لوحة “أدب” للفنانة التشكيلية أصالة الشوك التي زينت غلاف الكتاب، ولوحة “هوية” للفنانة سارة حتحات، ولوحة “الشتات” للفنانة نرمين حمادة، ولوحة “البحث عن سبب” للفنان صموئيل يوسف، ولوحة “أخوة الشعوب العربية” للفنان عدنان سمان، ولوحة “مقلاع الحجر” للفنان سلطان الرماحي.

بدوره لاحظ رئيس دار “سوي” للنشر هوغو جالون أن هذا الكتاب يحتوي الكثير من الرسائل الرمزية التي يريد تبليغها، فضلا عن كونه يدخل في التقليد والنهج الملتزم الذي بدأته “سوي” منذ عقود في نشر الكتب التي تهتم بالقضية الفلسطينية وتطرح أسئلتها، وهو ليس الأول ولا الأخير في هذا الصدد.

وأردف قائلا في حديثه للجزيرة نت “السؤال الفلسطيني اليوم ملح أكثر من أي وقت مضى، ويجب التذكير بهذه القضية في الوقت الراهن وبالوضع المعقد الذي تعيشه. لقد شعرنا في السنوات الأخيرة أن القضية الفلسطينية لم تعد في مركز الاهتمام السياسي والإعلامي والاجتماعي، وتم تناسيها نوعا ما”.

وشدد على أن دار “سوي” للنشر حرصت على إعادة هذه القضية وأسئلتها إلى السطح وإلى العلوم الإنسانية والاجتماعية والسياسية من خلال هذا الكتاب، الذي ضم دراسات قيمة ومقالات وبحوثا مستفيضة وقصصا وصورا ورسومات تغوص في عمق القضية الفلسطينية بطريقة إبداعية موحية غير مباشرة.

وأما لانغ فقد خلص إلى أن معهد العالم العربي بباريس هو من بين المؤسسات القليلة في العالم الذي لم ينس القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، بل إنه دائما ما يضعها في مركز اهتمامه من خلال أنشطته المتنوعة التي يقترحها وكذلك في إصداراته.

معهد العالم العربي بباريس

فلسطين فكرة ملهمة

يختلط ويتواشج الأفق السياسي بالأفق الثقافي، وتتشابك وتتقاطع المقالات الصحفية والدراسات الفكرية والقصائد الشعرية باللوحات التشكيلية والصور الفوتوغرافية والخرائط التاريخية، لتخلق فسيفساء إبداعية تصب في غاية واحدة في النهاية هي تشريح هذه القضية المنسية، وفهم حقائق هذا الوطن المحاصر وهذا الشعب المشتت لتبديد المناطق الرمادية في ذهن من اختلطت عليه الوقائع والأحداث.

كما تحضر فكرة رئيسية في الكتاب تتكرر في أغلب الدراسات والمقالات والبحوث، تحاول التنصيص على ضرورة إخراج فلسطين من منظور الصراع التاريخي وتشريحها كفكرة رمزية مجنحة وملهمة لشعوب العالم الطامحة للتحرر والانعتاق، في عملية إعادة قراءة وسرد لفلسطين وإخراجها من القالب المتكلس والصورة النمطية التي وضعت فيها، والذهاب بها بعيدا بين السطور، وقد نجحت اللوحات الفنية التشكيلية الموحية والصور الفوتوغرافية المعبرة والقصائد الشعرية التي ترجمها الكاتب المغربي عبد اللطيف اللعبي والمضمنة في الكتاب، في تحقيق هذا الانزياح الجميل.

ولأن فلسطين لا تذكر إلا ويذكر الشعر، تحضر رموز شعرية كبيرة مثل فدوى طوقان وعز الدين المناصرة ومحمود درويش وسميح القاسم ومعين بسيسو ومريد البرغوثي، لذلك فقد استحالت فلسطين قصيدة ملحمية طويلة تؤرخها كلمات وقوافي وبحور هؤلاء الشعراء والمبدعين على اختلاف مشاربهم وحقبهم، وفي هذا السياق نقرأ هذا المقطع من قصيدة “أن تكون فلسطينيا” للشاعر أشرف فايد التي جاءت في آخر الكتاب، يقول الشاعر:
“أن تكون بلا وطن
يعني بالضرورة أن تكون فلسطينيا
أن تكون فلسطينيا
لا يعني إلا أن يكون العالم كله وطنك
لكن العالم لا يستوعب هذه الحقيقة
شأنها شأن الكثير من الحقائق الأخرى”.

“ما تقدمه فلسطين للعالم” ليس مجرد كتاب جماعي عن فلسطين ضم مجموعة من الدراسات، بل إنه يمثل صرخة شعرية وثقافية وإنسانية تحاول التذكير بأهمية القضية الفلسطينية العادلة وما تمثله من رمزية لآخر الشعوب المقاومة والمضطهدة، كما أنها تعد مصدر إلهام للمبدعين من شتى الاختصاصات ومن مختلف الأقطار والأمصار.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version