تتوالى الأفراح والمسرات على الساحات العربية بعد سنين عجاف ربضت على صدور السوريين، وأيام ثقال أحاطت بالفلسطينيين في غزة واختبرت صبرهم، وعجز كثير من أبناء الأمة بأقسى ما يمكن للنفس أن تتحمله؛ من قتل وتهجير وتضييق وأفعال لا تمتّ إلى الإنسانية بصلة!

لكن عامًا يُغاث فيه الناس أطلّ على الشعوب العربية ليمحو قهر السنين، ويُطبّب جراح المنكوبين، ويربت على قلوب المجروحين، فها هي سورية الحبيبة اليوم حرة ترفرف راياتها في سماء من عز وكرامة وأمان، وها هي غزة اليوم تخلع ثوبها المضرج بدماء الشهداء والأبرياء لتكتسي بحُلَل الأمن والسلام وترفع شارات النصر عاليًا، وها هو لبنان اليوم يرفل بزيّ جديد في مسار الوحدة الوطنية بعد أن طال عهد التخبط والتشتت والانقسام، وها قد بدأت بشائر الخير تهلّ على السودان الجميل، فيا مرحبًا بعام المسرّات!

شبكات | فرحة أهل غزة باتفاق وقف إطلاق النار

الظلم مرتعه وخيم

مرّ على الأقطار العربية من الظلم والحيف والاستعمار والاحتلال الغاشم ما تشيب منه الولدان، ولعل أقسى ما عاينته الشعوب العربية من ظلم وخذلان ما كان صادرًا عن ذوي القربى، فالوطن والعرق والدين والتاريخ والحضارة والثقافة المشتركة؛ كلها عوامل لم تكن كافية لتوحيد الصفوف وردّ الظلم والحيف عن بعضنا.

انتشر الفساد وعمّت الظلمات في ربوعنا دهرًا من الزمن، وإننا اليوم إذ نستبشر بغد مزين بالحريات، مُحلّى بالمسرات، واعد بانفراجات كثيرة على الأصعدة كافة؛ نستحضر قول الشاعر:

فلا تعجلْ على أحدٍ بظلمٍ

فإِن الظلمَ مرتعُهُ وخيمُ

وإننا اليوم إذ نعاين المزاودات الوطنية والجدالات السفسطائية والنقاشات العقيمة التي يمارسها أبناء الشعب الواحد في ما بينهم، نستحضر قول الشاعر الآخر:

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة

على النفس من وقع الحسام المهند

إن ما يحدث الآن في المجتمع السوري من مزاودات على الوطنية ومراشقات فكرية تستند إلى انتماءات طائفية أو مناطقية؛ لن يأتي بخير على البلاد والعباد، ولن يكسر سلسلة المظالم التي عمّت رياضنا وعاثت فسادًا في ربوعنا.

إن الموقف اليوم يحتاج إلى وعي كبير لتوحيد الصف في سبيل الغاية الكبرى التي دفع الوطن فداء لها دماء طاهرة لا حصر لها، وقدم تضحيات مرّة ما زال طعمها حاضرًا تحت لسان الشعب السوري الكسير الجناح، وما من سبيل للسير قدمًا إلا بقلوب كبيرة وإيمان عظيم بقدرة الشعب على تجاوز ما مضى، ليبدأ الغد بجراح مضمدة، وعلى أرض متينة لا مكان للظلم والفساد فيها.

فشعار الفتح الذي لا ثأر عشوائي فيه يصب في مصلحة البلاد ويحقق سكينتها التي طالما مزقتها الثارات وفتكت بها الأحقاد، وهذا الشعار لن يؤتي ثماره حقًّا إلا إذا تحول إلى ثقافة عامة تتمكن من عقول عامة الجماهير وقلوبهم.

ما بين الظلم والقصاص والعدالة

لا يمكن تحرير الإنسان بالعقلية نفسها التي تعرّض بسببها للظلم، لكننا نتساءل: هل يمكن أن يتعافى المرء من آثار الظلم الذي مُورس عليه أبشع أشكاله بالقصاص أو بردّ الصاع صاعين؟ إن كثيرًا من الناس يرون أنه ما من إنسان يدرك وقع الظلم وقسوته إلا حين يتعرض له، وهذا الأمر يأخذنا إلى متاهات فلسفية عميقة، ومفاصل أساسية في مفهوم الإنسانية، فهل ينبغي أن نعيش التفاصيل نفسها حتى نفهم أو ندرك حجم الظلم الذي تعرض له الآخرون؟

لا يبدو الأمر بهذه الحدّة في الفهم والإدراك، فالإنسان ذو الفطرة السليمة قادر على التعاطف والشعور بأخيه الإنسان والانفعال مع تجربته كأنه معه فيها، وقد يبلغ بالتعاطف ما لم يبلغه الذي عانى من الظلم نفسه، يقول في ذلك بنجامين فرانكلين “لن تتحقّق العدالة حتى يغضب الذين لم يتضرروا من الظلم تمامًا مثل الذين تضرروا به”.

لا بد لنا حين ننطلق باتجاه البناء والإعمار بعد سنين مرة عالجتنا وعالجناها ألا ننسى أن الظلم وتحييد العدالة كان السبب الرئيس في ما عشناه من استبداد وفساد. ولا أدري كم يكفينا أن نؤمن بوقوع العقاب على الظالم عاجلًا أو آجلًا، فالحقوق لا تضيع في هذا الكون الذي يسبّح بحمد الواحد الأحد الفرد الصمد العدل الحكم ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ (الأنعام: 18).

أما والله إنّ الظلم شؤمٌ

وما زال المُسيء هو الظلومُ

إِلى الديّان يومَ الدين نمضي

وعند الله تجتمعُ الخصومُ!

إن العدالة الانتقالية هي الضمان الحقيقي للعبور الآمن إلى التعافي المبكر والقدرة على البناء وانخراط الجميع في ميدان العمل المثمر، وصناعة مستقبل البلاد التي أنهكتها الحروب وفتك بها الظلم، وتركها يبابًا لا قدرة لها على الوقوف على قدميها إلا بجناحين من الحب والعدل.

فلسفة الاستبداد في المجتمعات الإنسانية

الاستبداد هو الوجه الآخر للظلم، وقد وصف محمد الغزالي حال المجتمعات التي يسود فيها الاستبداد فقال “إن التجمعات البشرية السوية فيها رجال كثيرون يوصفون بأنهم قمم، أما البيئات المنكوبة بالاستبداد فدجاج كثير وديك واحد”، وقد لخص عبد الرحمن الكواكبي الحال في كتابه “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”، وهو أحد أهم رواد النهضة العربية ومفكريها في القرن التاسع عشر، فقال “وباء دائم بالفتن وجدب مستمر بتعطيل الأعمال، وحريق متواصل بالسلب والغصب، وسيل جارف للعمران، وخوف يقطع القلوب، وظلام يعمي الأبصار، وألم لا يفتر، وصائل لا يرحم، وقصة سوء لا تنتهي”.

وها نحن اليوم نسعى للنهوض فنتعثر بالديكة التي تكاثرت وسط الدجاج، ويبدو أن طريقنا نحو القمم طويل! لكن قصة السوء الخاصة بنا انتهت، ولا مكان لقصص سوء غيرها، فقد امتلأت صفحاتنا بغبار السوء حتى كدنا نختنق، وعزمنا بعد اليوم على البدء بخط حكايا الفرح وتطريز قصص الأمان والسلام.

هل يجتمع الإسلام والاستبداد في آن واحد؟

يُنسب إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال “إذا دعتك قدرتك على ظلم الناس فتذكّر قدرة الله عليك”. وهذا الأمر ينسجم انسجامًا تامًّا مع ما دعا إليه الإسلام من ضبط للنفس وتهذيبها لا سيما حين يكون المرء في موقع المسؤولية، إذ تزداد حساسية الناس ومراقبتهم لتصرفاته، وتعظم توقعاتهم منه لتحقيق العدل والمساواة في ما بينهم، غير أن كثيرًا من البشر يطغون إذا ما صاروا في موضع السلطة فيميلون إلى الغرور واعتماد البطش والظلم والاستبداد وسيلة لتثبيت الحكم، بعيدًا عما دعا إليه الإسلام من تعاليم عظيمة تضمن حقوق الأفراد جميعًا وتكفل بناء مجتمع سويّ قائم على الأخلاق والمبادئ التي توفر سعادة الجميع من رئيس ومرؤوسين.

ولا يحتاج المرء إلى إعمال عقله وإجهاد نفسه ليعرف موقف الإسلام من الظلم والاستبداد، ومن جميل ما قاله الغزالي في هذا الموضوع في كتابه “الإسلام والاستبداد السياسي” إن “الإسلام والاستبداد ضدان لا يلتقيان، فتعاليم الدين تنتهي بالناس إلى عبادة ربهم وحده، أما المراسيم والاستبداد فترتد بهم إلى وثنية سياسية”. وقد وصف الكواكبي الاستبداد بقوله إنه “أعظم بلاء يتعجَّل الله به الانتقام من عباده الخاملين، ولا يرفعه عنهم حتى يتوبوا توبة الأنفة”. وحين سئل عن سبب ابتلاء الله الناس بالاستبداد أجاب:

“إن الله عادل مطلق لا يظلم أحدًا، فلا يولّي المستبد إلا على المستبدين. ولو نظر السائل نظرة الحكيم المدقق لوجد كل فرد من أسراء الاستبداد مستبدًّا في نفسه، لو قدر لجعل زوجته وعائلته وعشيرته وقومه والبشر كلهم، حتى وربه الذي خلقه تابعين لرأيه وأمره”.

يأخذنا كلامه إلى مطارح عميقة لنحاكم أنفسنا، فالحديث “كيفما تكونوا يولّى عليكم”، على ضعفه وإخراجه من دائرة الأحاديث إلى مصاف الحكم، يوافق منطق الحياة، فالمستبد يستمد قوته وجرأته من الرعية الخانعة، وظلم المستضعفين، وصمت الشاهدين.

الاستبداد ما بين ظلم الأشرار وصمت الأخيار

يقول مارتن لوثر كينغ الابن “إن المأساة الحقيقية ليست القمع والقسوة التي يمارسها الأشرار، بل الصمت الذي يُبديه الأخيار إزاء ذلك. إن مشاهدة الظلم وعدم القيام بأي شيء يُعدّ مشاركة في هذا الظلم، لأن الشر لا يعتمد على قوته الذاتية، بل على جبن أولئك الذين يرفضون مواجهته”.

وهذا ما نسميه الخذلان القاتل للضمير والوجدان، وهو العجز بوجهه الآخر، فمن ذا الذي يستطيع أن يواجه سلطات تهدده بأبشع أنواع التعذيب والتنكيل إن هو قام لنصرة أخيه؟ تبدو هذه المعادلات خارج نطاق العقل والاستيعاب، لكن شعوبنا العربية عاينت هذه المشاعر طوال سنين، وعانى الشعب السوري من ويلات العجز حينًا وويلات الخذلان أحيانًا أخرى.

إن الكارثة الكبرى في حالتنا السورية كانت أن الضحية والجلاد يُنظر إليهما على أنهما من أرض واحدة وأن انتماء وطنيًّا واحدًا يجمعهما! لكن الحقيقة كانت أبعد من ذلك بكثير؛ فالانتماء وحده لا يكفي للحكم على وطنية الإنسان، والصمت ليس معيارًا للوطنية في غابة عاث الوحوش فيها فسادًا حتى لفظهم ترابها لفظ عزيز مقتدر!

لا يمكننا في هذه المرحلة التاريخية المهمة من عمر بلدنا أن نسوّي بين ظلم الأشرار وصمت الأخيار، وكلنا نعلم أن صمت الأخيار كان ثمن حياة عائلات برمّتها، ولم يكن غاية بحد ذاته، وكلنا نعلم أن مغادرة البلد أو البقاء فيها لم يكن معيار صدق على وطنية الأفراد وثوريتهم، وإن نقاشًا كهذا اليوم ليس سوى فتنة سيطفو نَتَنُها على السطح سريعًا ليجرف الأخيار قبل الأشرار.

الثورة والمزاودات الوطنية

اشتعلت ساحات النقاشات السورية بعد انتصار الثورة بالتخوين والاتهامات والمزاودات الوطنية؛ من الثوري الحقيقي؟ ومن الثوري المزيف؟ وبناء على ماذا؟ وكيف؟ وما الجدوى الآن من هذه النقاشات والجدالات العقيمة التي لا طائل منها سوى زعزعة الصفوف وتصدير بعض الوجوه على حساب أخرى!

يقول آن لاندرز “النضج يعني أن تكون قادرًا على تحمُّل الظلم دون أن تتحوّل في نهاية المطاف إلى شخصٍ ظالم”؛ أي أن ترفع الظلم عن نفسك وغيرك وتحافظ على إنسانيتك مهما حاولوا تشويهها في عينيك، أن تستطيع أن تقف مجددًا لتنظر في وجه من ظلمك وتسلّمه إلى أيدي العدل بقلب راض ومطمئن، أن تكبح في نفسك جماح الحقد والرغبة في الانتقام إيمانًا بأن العدالة ستأخذ مجراها، وفي ذلك يقول غاندي “إن السلام الحقيقي لا يتحقق إلا بالشجاعة اللازمة للوقوف في وجه الظلم. والسلام لا يعني مجرد غياب الصراع، بل يعني وجود العدالة أيضًا”.

والإيمان بالعدالة الإلهية يأخذنا إلى التسليم بأن حقًّا من حقوق العباد لن يضيع عند الله:

وما من يد إلا يد الله فوقها

ولا ظالم إلا سيبلى بأظلم

لذا لا بد حين تقوى الذراع وتنهض الهمم لتقوم بالبلاد أن تستحضر قول الشاعر:

لا تظلمنَّ إِذا ما كنتَ مقتدرا

فالظلمُ مرتعُه يفضي إِلى الندمِ

تنامُ عينكَ والمظلومُ منتبهٌ

يدعو عليكَ وعينُ اللّهِ لم تنمِ

هل الاستبداد صفة ملازمة للحكام؟

يقول الشاعر الأموي عمر بن أبي ربيعة “إنما العاجز من لا يستبد”، فهل بات الاستبداد لزامًا على كل مقتدر ذي سلطة مهما صغرت أو كبرت، في سياق العشق والسياسة على حد سواء؟!

من يطالع صفحات التاريخ يميز بين الحكم القائم على الاستبداد والحكم الذي يستمد شرعيته من رضا الشعوب ومحبتها ويقوم على توفير منافعها وتسيير مصالحها، وكل سلطة قامت على الاستبداد على مر التاريخ عادت على الخلق بالويلات والمصائب، ويزداد الشعور بالسوء نحو نتائج الاستبداد كلما اعتقد المستبد أنه الصواب المطلق، كفرعون حين قال لقومه: ﴿ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد﴾ (غافر: 29).

فالمستبد في هذه الحال يعتقد مطلق الصواب في نفسه ورأيه بلا شك ولا جدال! وهذا ديدن الطغاة على مر العصور. ولعل أسوأ مستويات الاستبداد ومراتبه وأشدها هي السلطة المطلقة للفرد الذي يرث عرش أبيه القائد الحاكم المسيطر على جيش حائز على قبول السلطة الدينية، والنموذج السوري المدحور أفضل مثال على ذلك!

جاء في كتب طبائع الاستبداد أنه لو كان الاستبداد رجلًا وأراد أن ينتسب لقال “أنا الشر وأبي الظلم وأمي الإساءة، وأخي الغدر وأختي المسكنة، وعمي الضر وخالي الذل، وابني الفقر وبنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة ووطني الخراب، أما ديني وشرفي وحياتي فالمال المال المال”.

أما الأمة إذا ما خنعت للمستبد وخضعت له فينطبق عليها قوله “إن الأمة إذا ضربت عليها الذلة والمسكنة وتوالت على ذلك القرون والبطون، تصير تلك الأمة سافلة الطباع، حتى إنها تصير كالبهائم، أو دون البهائم، لا تسأل عن الحرية، ولا تلتمس العدالة، ولا تعرف للاستقلال قيمة”.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version