يرصد روبرت كولفيلد تلك السرعة المتزايدة في كل ما حولنا، ويذكر في كتابه “التسارع الكبير” (The Great Acceleration) الذي صدر عام 2016 كيف زادت سرعة المشي بنسبة 10% في الـ15 عاما الماضية، واختُصرت اللقطة السينمائية التي كانت تستغرق نحو 10 ثوان في المتوسط في الثلاثينيات، بحيث لم تعد تتجاوز 4 ثوان على الأكثر في يومنا هذا.

ومنذ سنوات قليلة صار بوسعنا زيادة سرعة ما نشاهده من أفلام ومحاضرات ورسائل صوتية، لتوفير الوقت، وتجنب الملل، إنها خاصية توفرها أغلب المنصات اليوم، هكذا عند سرعة “1.5x” يمكننا إنجاز مهامنا، في مشاهدة محاضرة ما أو ربما معرفة إجابات بعض الأسئلة، وحتى مشاهدة حلقات مسلسل نفضله وأحيانا عند سرعة “1.75x” و”2x” يمكن إنهاء بعض المقاطع البطيئة، إنه ما يعرف بمصطلح “المشاهدة السريعة” (speedwatching).

لكن ماذا عن آثارها المحتملة في عقولنا؟ وما الذي يخبرنا به اختصاصيو الأعصاب؟

لهذه الأسباب نضاعف السرعة

في مجتمع يقدر الانشغال الدائم، يبدو أننا نبالغ في القيام بكل شيء بسرعة، وهكذا نود أن ننتهي من قائمة الأفلام والمحاضرات، فضلا عن رسائل الأصدقاء، بسرعة مضاعفة. هناك سبب آخر في الحقيقة يكمن وراء تلك الرغبة في الاستهلاك السريع للمحتوى، إنه القلق من أن يفوتنا أي شيء، فيما يُطلق عليه “فومو”، أو السعي للاطلاع الدائم على أحدث الأفلام والمسلسلات ومقاطع الفيديو، والإلمام بما يُعرض على شبكات التواصل، والشعور بالقلق وعدم الأمان وأحيانا تدني احترام الذات إزاء أي بادرة تأخر عن الإلمام بهذا المحتوى، مما يدفعنا لمتابعة “كل شيء” إن استطعنا.

يدفعنا هذا القلق إلى استهلاك أو مراجعة المحتوى بشكل متسرع وعشوائي، انطلاقا من شعور خفي بأننا سنكون أقل قيمة في محيطنا الاجتماعي إذا لم نكن على علم بكل شيء، إنه السبب ذاته الذي يدفعنا لتصفح مواقع التواصل استمرار، ولفحص الهاتف كل 10 دقائق في المتوسط، ومضاعفة السرعة طريقة تدعم الاستهلاك الفوري للمحتوى، وفق موقع “اريل هيومنا” الإسباني.

ويعد الصبر الذي نفقده سريعا بالإتاحة الفورية للمعلومات التي توفرها لنا التكنولوجيا أحد الأسباب، إذ نشعر بالإحباط حين لا نشبع فضولنا ونحقق أهدافنا في وقت محدود، كما أن الهوس بالإنتاجية سبب آخر يدفعنا لاستهلاك المحتوى بسرعة.

ووفق موقع “ذا كونفرسيشن”، لا يمكن إغفال عامل آخر غالبا ما يقف وراء رغبتنا الدائمة في متابعة وسائل التواصل واستهلاك المحتوى الجديد، إنه الدوبامين، يمكننا القول بأن استهلاك المحتوى بسرعة يدخلنا في تلك الدائرة المفرغة من الرغبة في مكافأة الدوبامين، ومن ثم الرغبة في مزيد من المحتوى.

الرسالة لم تصل بعد

بينما لا يزال من المبكر -وفق موقع “إلباييس” الإسباني- الجزم بتأثيرات استهلاك المحتوى على هذا النحو، فإن ما يمكن تأكيده هو أننا نفقد جزءا من محتوى الرسالة ونغفل عن بعض جوانبها، فمحل التوقف ونبرة الصوت وغيرها تحمل جزءا من المضمون، وحين نتجاهلها نفقد جزءا من الرسالة، ويكون ما نفقده أكبر بالطبع عند الحديث عن محاضرة أو فيلم وثائقي مثلا.

كما أننا عندما نتلقى الرسائل بوتيرة أسرع، تفقد عقولنا قدرتها على النظر إلى التفاصيل، وتركز على فهم المحتوى العام للرسالة، وهكذا تتراجع قدرتنا على التحليل، وتضعف قدرتنا على الفهم، ويزيد هذا التأثير كلما زادت السرعة، فضلا عن أننا، مع اعتياد دماغنا على تلك السرعة، نفقد قدرتنا على الصبر ويتسلل إلينا الملل حين لا تكون المحفزات على المستوى الذي اعتدناه، وتدريجيا تتأثر قدرتنا على الانتباه والتركيز والتعلم مع مرور السنوات، حسب تقرير نشره موقع “ذا كونفرسيشن”.

الذاكرة قصيرة المدى

ويلفت موقع “أون لاين لايبراري” إلى تحذير أطباء الأعصاب من أن استخدام هذه الخاصية قد يؤثر في الذاكرة قصيرة المدى، كما أنه يعرضنا للإجهاد الناتج عن التعرض للتحفيز البصري الزائد، ونفقد استيعابنا لمزيد من التفاصيل الدقيقة المتعلقة بالمحتوى، كما أنه يُبقينا على هامش التجربة، ونظن أننا قد أكملنا وحققنا المرجو منها، وننتقل لأخرى، لكن الحقيقة أننا لم نستوعبها بعد، وفق موقع “اريل هيومنا”.

في مجتمع الطلاب كانت هناك ملاحظات أكثر تحديدا، ففي دراسة نشرتها مجلة “سكولارشيب أوف تيتشينغ آند ليرنينغ إن سيكولوجي” عام 2018، استخدم الباحثون طريقة المشاهدة السريعة لعدد من المحاضرات مع طلاب لديهم معرفة مسبقة بعلم النفس، ولاحظوا وجود تأثير سلبي بسيط على مستوى استيعابهم للمحتوى، لكنهم أكدوا أن التأثيرات تختلف باختلاف خصائص المتعلم، وعوامل مثل المعرفة السابقة والاهتمامات وطريقة كل فرد في التعلم.

زيادة السرعة عن الضعف تؤثر سلبا

نهاية عام 2021 نشرت مجلة “أبلايد كوغنيتيف سيكولوجي” نتائج دراسة أُجريت على مجموعة من الطلاب شاهدوا مقاطع فيديو بسرعة تزيد مرة ونصف مرة (1.5x) أو مرتين (2x) لقياس نتائج التعلم من هذه المقاطع، ليتبين أن استخدام السرعة المضاعفة (2x) مرة إضافية كان فارقا في مراجعة المحتوى قبل وقت قصير من الاختبار، وكان أفضل من مشاهدة المحتوي مرة واحدة فقط بالسرعة العادية.

وأشار الباحثون إلى أن زيادة السرعة عن الضعف تؤثر سلبا في فهم المحتوى وأداء الاختبار، إذ في الغالب ما يكون متوسط الكلام نحو 150 كلمة في الدقيقة، ويبدأ فهمنا في التأثر سلبا عندما يقترب معدل الكلمات من 275 كلمة في الدقيقة.

النتائج تختلف باختلاف المحتوى

ونصح الباحثون -إلى جانب ذلك- بألا تعتمد هذه الطريقة باستمرار، خاصة أنها لا تناسب المواد الدراسية الصعبة والمعقدة، فالنتائج قد تختلف باختلاف محتوى مقطع الفيديو ودرجة تعقيده، وقدر التداخل السمعي البصري.

يظل خيار مضاعفة السرعة ميزة يمكن توظيفها جيدا في توفير الوقت مع بعض الرسائل والمحتويات، إذا ما أجدنا اختيار هذه الرسائل، والحديث عن التأثيرات السلبية يظهر فقط عندما تصبح عادة مستمرة، إذ في الغالب ما نحتاج عند استقبال الرسائل المختلفة إلى بعض التأمل والتفكير، وفق موقع “ذا كونفرسيشن”.

لا تزال الأبحاث تجرى للوقوف على التأثيرات الحقيقية لهذه الطريقة في دماغنا، لكنها بشكل عام ستختلف وفق الاستجابات الفردية لكل منا، والأمر المؤكد أن علينا إلى جانب ترشيد استخدمنا مواقع التواصل واستهلاكنا المحتوى الضخم من المعلومات، أن نكون على وعي بالطريقة التي نستهلك بها هذا المحتوى للحفاظ على عقل متوازن، وفق موقع “لينكد إن”.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version