تباطأ معدل التضخم في مصر على مدار الأشهر الـ5 الماضية، رغم زيادة أسعار مجموعة واسعة من السلع والخدمات، مع استئناف الحكومة لبرنامج قرض مع صندوق النقد الدولي، وتخفيض قيمة الجنيه بنسبة 60 بالمئة تقريبا.

ومنذ مارس الماضي، رفعت الحكومة المصرية في إطار خطتها التي اتفقت عليها مع صندوق النقد لتقليل الإنفاق على الدعم، أسعار الكهرباء والوقود والمواصلات العامة (القطارات والمترو)، فضلا عن زيادة أسعار الخبز لأول مرة منذ عقود.

ولم يتأثر التضخم في البلاد وفق البيانات المُعلنة من الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، والبنك المركزي المصري، إذ سجل معدل التضخم في يوليو الماضي، 25.6 بالمئة على أساس سنوي، وهو الأدنى منذ ديسمبر 2022.

ومع ذلك، هناك أرقام أخرى للتضخم في مصر، يكشف عنها بشكل دوري، أستاذ الاقتصاد التطبيقي في جامعة جونز هوبكنز، البروفيسور ستيف هانكي، تختلف تماما عن البيانات الحكومية.

وقبل أسبوع تقريبا كتب هانكي في منشور على منصة “إكس” أنه “يُقدر التضخم في مصر حاليا عند معدل مُذهل يصل إلى 66 بالمئة على أساس سنوي”، وهو الأمر الذي يثير المزيد من التساؤلات بشأن أرقام التضخم المُعلنة، ومدى دقتها لتعكس واقع ارتفاع الأسعار في البلاد.

التضخم يتراجع.. لماذا لا نشعر بانخفاض الأسعار؟

بعد أشهر من ارتفاع الأسعار في العديد من الأسواق العربية، بدأت بالانخفاض عن المستويات القياسية التي وصلت لها، فيما تظهر بيانات رسمية تراجع التضخم في بعض الدول، وفي مقدمتها مصر.

لماذا الاختلاف؟

وما بين بيانات الحكومة وتقديرات هانكي، يؤكد خبراء اقتصاد خلال حديثهم مع موقع “الحرة” أن الطريقة الإحصائية للقياس هي ما تقف وراء اختلاف الأرقام، رغم أن “كلاهما لا يعكس الواقع المعيشي”.

وينتقد الخبير الاقتصادي المصري، محمد فؤاد، الأرقام التي يعلنها هانكي بشأن التضخم في مصر، ويقول إنه “يستخدم مقياسا مختلفا تماما عن المقاييس التي تستخدمها مصر للحساب”.

ويضيف لموقع “الحرة”: “مقياس التضخم في مصر هو ‘CPI‘ (الرقم القياسي لأسعار المستهلكين) المُعلن من قبل البنك المركزي، الذي يقيس التغير في أسعار مجموعة سلعية معينة باستثناء السلعة متقلبة الأسعار سريعا، وفي المقابل يستخدم هانكي مقياس ‘PPP ‘ الذي يتأثر بشدة بأسعار الصرف وأسواق الأسهم”.

لذلك “من الصعب المقارنة بين معدلات التضخم وفق مقياس هانكي، والمعلنة في مصر” وفق فؤاد، الذي يشير إلى أن “الرقم القياسي لأسعار المستهلكين دقيق جدا على المستوى الحسابي، ولا يمكن التلاعب به”.

وتقديرات التضخم التي يعلنها هانكي تأتي في إطار مشروع العملات المضطربة التابع لمعهد كاتو بجامعة جونز هوبكنز، الذي أُطلق عام 2021، ويتتبع معدلات التضخم في 44 دولة، استنادا إلى الكثير من المتغيرات، من بينها أسعار السلع والصرف والأسهم.

ويعتبر هانكي أن “الإحصاءات الرسمية لا تعكس معدلات التضخم الحقيقية”، إذ يشير في مقال منشور عبر الموقع الإلكتروني لمعهد كاتو قبل أكثر من 3 أعوام إلى أن سلة السلع التي تستخدمها على سبيل المثال الأرجنتين في مؤشر أسعار المستهلك لا تشمل سوى 324 سلعة، وهي تمثل جزءا صغيرا من السلع التي تشتري وتباع كل يوم في البلاد.

مصر.. مخاوف بسبب “الحد الأقصى للسحب”

تدرس بنوك مصرية وضع حدود قصوى للسحب النقدي بالعملات الأجنبية للأفراد والشركات، حيث من المقرر أن يُعلن هذا الأسبوع ثاني أكبر بنك حكومي عن هذه الحدود التي يراها بعض الخبراء “غير مبررة” وتثير مخاوف المتعاملين، فيما ينظر إليها آخرون باعتبارها “قواعد تنظيمية ضرورية”.

وعلى النقيض من ذلك فإن سلة مقياس التضخم “PPP” تشمل كل السلع والخدمات والأصول التي يتم تبادلها في الأرجنتين، وهذا يعني أنها سلة شاملة، حسب هانكي، الذي يؤكد أن “مقياس التضخم الذي يستخدمه يشتمل على تغيرات الأسعار لكل شيء يشترى ويباع بما في ذلك السلع والخدمات والأصول، وليس فقط تلك السلع المدرجة في سلة الحكومة”.

ويؤكد الخبير الاقتصادي، عبدالنبي عبدالمطلب، أن “مقياس البنك المركزي للتضخم CPI، يستثني العديد من السلع والخدمات مثل الخضراوات والفاكهة التي يقول إن أسعارها سريعة التغيير، فضلا عن السلع والخدمات المحدد أسعارها إداريا”.

ويضيف لموقع “الحرة”: “لهذا من الطبيعي أن تتباطأ معدلات التضخم في مصر خلال الأشهر القليلة الماضية، خصوصا أنها لا تظهر أغلب السلع التي زادت أسعارها مؤخرا مثل الوقود والكهرباء والمواصلات العامة، وهي السلع المحددة أسعارها”.

ويؤكد هذا البنك المركزي، الذي يشير إلى أن معدل التضخم الذي يُحتسب باستخدام الرقم القياسي لأسعار المستهلكين يستبعد تأثير صدمات الأسعار المؤقتة من خلال استبعاد السلع الغذائية التي تتميز بأسعار متقلبة، والسلع والخدمات المحدد أسعارها إداريا.

ووفق بيانات البنك المركزي، فإن أسعار مجموعة الخضر والفاكهة التي تستثنى من الرقم القياسي لأسعار المستهلكين، ارتفعت على أساس سنوي في يوليو الماضي بنسبة 44.24 بالمئة، متسارعة من 37 بالمئة في يونيو السابق عليه.

ومع ذلك، يرى فؤاد، خلال حديثه، أنه لا توجد أي مشكلة فيما يتعلق بدقة أرقام “التضخم في مصر من خلال مؤشر أسعار المستهلكين، إذ إن التباطؤ خلال الأشهر القليلة الماضية رغم ارتفاع الأسعار السلع، يرجع إلى جانب استثناء السلع متقلبة الأسعار، إلى سنة الأساس التي شهدت مستويات قياسية من الارتفاعات”.

ويضيف: “عند مقارنة ارتفاع أسعار السلع خلال العام الحالي على أساس سنوي، سنلاحظ تباطؤ ارتفاع الأسعار، لأن العام الماضي كان استثناء بسبب الأزمة الاقتصادية الحادة التي كانت تشهدها مصر وقتها”.

“لا تعكس الواقع”  

وخلال العام الماضي، وصل معدل التضخم في مصر إلى أعلى مستوى على الإطلاق عند 38 بالمئة في سبتمبر، متسارعا من مستوى 15.02 بالمئة في سبتمبر 2022.

ووصف تقرير لوكالة “بلومبيرغ” الأميركية، هذا الشهر استمرار تباطؤ التضخم في البلاد بـ”تحد” لتوقعات العديد من خبراء الاقتصاد، حتى بعد خفض قيمة العملة المحلية بشكل كبير قبل 4 أشهر.

وأكدت الوكالة أن “التباطؤ المستمر للتضخم من مستوى قياسي بلغ 38 بالمئة يظهر أن القيمة المنخفضة للغاية للعملة في السوق السوداء التي تم القضاء عليها، كان لها بالفعل تأثير أكبر على أسعار التجزئة”.

ويتوقع فؤاد استمرار التضخم على نفس وتيرة التباطؤ خلال الأشهر القليلة المقبلة وحتى نهاية 2024، إذ يقول خلال حديثه: “نعم لا يزال هناك غلاء ولا تزال الأسعار ترتفع بشكل كبير، لكن معدلات التضخم ستواصل التباطؤ حتى مع الزيادة الأخيرة في أسعار الوقود والكهرباء”.

ويتفق عبدالمطلب مع فؤاد بشأن استمرار تباطؤ التضخم، لكنه يقول إن “بيانات التضخم يمكن أن يتم التحكم فيه من خلال الأوزان النسبية لكل سلعة (نسبة مساهمة السلعة في معدل التضخم)، التي من خلالها يقيس الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء معدلات التضخم، خصوصا أن مقياس التضخم لدى الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لا يستثني السلع ذات الأسعار المتقلبة أو المحددة إداريا”.

هروب “الأموال الساخنة” من مصر.. كيف يؤثر عليها؟

مصطلح “الأموال الساخنة” تكرر استخدامه على لسان بعض أعضاء الحكومة المصرية خلال الأيام الماضية، وآخرها تصريحات رئيس الوزراء، مصطفى مدبولي، الأربعاء، والتي تحدث فيها عن خروج تلك الأموال من مصر خلال عمليات البيع العالمية، الاثنين، لكن بنسبة لم تتعد 7 أو 8% من إجمالي الأموال الموجودة في السوق في ذلك الوقت. 

ويضيف عبدالمطلب: “من الممكن خلال حساب معدل التضخم العام أن يتم زيادة الوزن النسبي لسلعة ما، تراجعت أسعارها في السوق بشكل كبير ،أو لوحظ تراجع أسعارها في السوق بشكل كبير. وفي المقابل يتم خفض الوزن النسبي لسلعة أخرى ارتفعت أسعارها، وبالتالي فإن المحصلة أن مساهمة السلعة ذات الوزن النسبي الأكبر وهي بطبيعة الحال منخفضة السعر، ستكون أكبر في التضخم من مساهمة السلعة التي زادت أسعارها”.

ويقول البنك المركزي المصري عبر موقعه الإلكتروني إن التضخم يقاس على أنه معدل الارتفاع العام في الرقم القياسي لأسعار المستهلكين (CPI) الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، الذي يجمع أسعار السلع والخدمات ويعالجها، من خلال تخصيص أوزان لكل سلعة ومجموعة.

وحسب البنك المركزي تُحدد الأوزان النسبية بناء على نتائج “بحث دخل وإنفاق واستهلاك الأسرة”، الذي كان آخر تحديث له عام 2020، وفق الموقع الإلكتروني للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.

ولهذا يؤكد فؤاد أن “بيانات التضخم في مصر تعكس واقعا إحصائيا، ولا تعكس واقعا معيشيا”.

فيما يقول عبدالمطلب إن “استمرار تباطؤ معدلات التضخم في مصر، أو في أي بلد آخر لا يعكس بطبيعة الحال تراجع الأسعار فعليا، لأن التضخم هو مقياس للارتفاع المستمر للأسعار”.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version