في وقت تزداد فيه التوترات بين واشطن وحلفائها من جهة والصين من جهة أخرى، أعلنت الفلبين في أغسطس/آب 2024 إجراء مناورات مشتركة مع كل من الولايات المتحدة وكندا وأستراليا، في منطقة بحر جنوب الصين.
وفي المقابل، ردت الصين على هذه المناورات بتسيير دوريات مشتركة في المجال البحري والجوي قرب جزيرة “هوانغيان” وهو الاسم الصيني لهذه الجزر المرجانية المتنازع عليها مع مانيلا التي ترتبط بمعاهدة دفاع مشترك مع واشنطن، وأخرى مع طوكيو تسمح بنشر قوات على أراضي كل منهما.
وبالإضافة إلى توقيع المعاهدات العسكرية، عززت الفلبين تعاونها العسكري مع مجموعة الحوار الأمني الرباعي “كواد” (QUAD) والذي يضم كلاً من الولايات المتحدة واليابان والهند وأستراليا، والذي أنشئ عام 2007 وأُعيد تفعليه عام 2017 لاحتواء الصين والوقوف أمام صعودها العسكري والاقتصادي.
أضغان كامنة
تُعدّ تايوان أبرز نقطة ساخنة في هذه الجغرافيا المتفجرة، فعقب الحرب الأهلية الصينية وإعلان الجمهورية الصينية الشعبية عام 1949، ظهرت مشكلة تايوان ومضيقها الذي تحوّل إلى ممر دولي.
فخلافاً للرؤية الصينية التي ترى أن تايوان جزء لا يتجزأ من الوطن الأم، تستخدم الولايات المتحدة هذه الجزيرة كجزء من إستراتيجيتها لحصار الصين.
ومن الأمور اللافتة أنّ البحرية الأسترالية والنيوزلندية مرّت خلال مشاركتها في المناورات الأخيرة من ممر تايوان للتأكيد على أنّه ممر دولي، داحضة بشكل عملي ادعاءات الصين.
ولا يقتصر الأمر على تايوان وحدها، فالصين تدعي ملكيتها لغالبية مساحة بحر جنوب الصين والتي تكمن أهميته بموقعه الإستراتيجي وموارده الغنية مثل النفط والغاز الطبيعي.
ويُعتبر هذا البحر ممرًا مائيا رئيسيًا، تمر عبره حوالي ثلث تجارة العالم بقيمة تبلغ نحو 3.37 تريليونات دولار سنوياً، كما يعتبر مصدرا لنقل النفط والغاز الطبيعي والسلع الأخرى بين دول آسيا وأوروبا والشرق الأوسط، وتعتمد عليه بكين في وارداتها من الطاقة بنسبة تصل إلى 80% وتمر من خلاله 39.5% من إجمالي التجارة الصينية.
وتقدر احتياطيات النفط والغاز الطبيعي في البحر بين 23 مليارا و30 مليار طن من النفط، و190 تريليون قدم مكعبة من الغاز الطبيعي، إضافة إلى أنه غني بالثروات المعدنية والسمكية التي تعد ضرورية للأمن الغذائي للملايين في منطقة جنوب شرق آسيا.
وتزعم الصين أنّ هذا البحر يُعد تاريخياً جزءا من “التراب الأزرق” هو مصطلح يستخدم للإشارة إلى المناطق البحرية التي تعتبرها بكين جزءًا من أراضيها الوطنية ويشمل المياه الإقليمية والمناطق الاقتصادية الخالصة حولها، بالإضافة إلى البحرين المتنازع عليهما بشكل رئيسي وهما بحر جنوب الصين وبحر شرق الصين.
وبينما تطالب الفلبين وماليزيا وفيتنام وبروناي بالسيادة على مناطق متنازع عليها في البحر، تؤكد الصين أنها صاحبة الحق التاريخي على نسبة 90% من جُزره والمياه المحيطة بها.
وتعمل الصين على إنشاء جزر صناعية في البحر لتعزيز وجودها العسكري فيه وهي سياسة بدأتها منذ عام 2013، خصوصًا أرخبيل سبراتلي وباراسيل، حيث حوّلت الشعاب المرجانية المغمورة إلى قواعد عسكرية مزودة بمدارج للطائرات، ومرافق عسكرية أخرى، كما نشرت أنظمة دفاع جوي، ومعدات عسكرية عليها، لتعزيز قدرتها على المراقبة والسيطرة على منطقة بحرية كبيرة.
ورداً على ذلك، قامت الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة ودول أخرى بعمليات “حرية الملاحة” بالمنطقة منذ عام 2015، حيث أرسلت سفنًا حربية للمرور بالقرب من الجزر المتنازع عليها للتأكيد على رفضها لمزاعم الصين بالسيادة على معظم البحر.
وتسير الولايات المتحدة دوريات عسكرية مشتركة مع الفلبين واليابان وأستراليا وإندونيسيا، وزادت الدعم المالي لتعزيز القدرات العسكرية لدول آسيان ودول شرق آسيا، فضلا عن تعزيز التعاون الدفاعي الثنائي مع هذه الدول، وتفعيل التحالفات.
وترى الولايات المتحدة واليابان وأستراليا أنّ حرية الملاحة ستكون معرضة للخطر إذا فرضت الصين سيادتها على البحر، مما يجعل أهم شرايين التجارة العالمية في يدها، بينما تتبادل بكين وواشنطن الاتهامات بعسكرة بحر جنوب الصين.
استحضار مارد “كواد”
في ظل هذه الصورة، يبدو أنّ الولايات المتحدة اتجهت لتعزيز حضورها في المنطقة الآسيوية والاستعداد لأية سيناريوهات مستقبلية سلبية، استجابة لأصوات الناقدين الذين يزعمون أنّ بكين استغلت انشغال واشنطن بحروبها -خصوصا في الشرق الأوسط- لتعزيز نفوذها شرق آسيا والتحول إلى قوة عظمى يمكن أن تقصي أميركا عن قيادة العالم.
وظهرت هذه الاستجابة على شكل مواجهة بين البلدين مع تولي دونالد ترامب الرئاسة الأميركية عام 2017، والذي أطلق حرباً تجارية مع الصين ووضعها على رأس أولويات إدارته.
واستمر هذا التصعيد مع تولي جو بايدن، إذ حدّدت إدارته الصين منافسا إستراتيجيا، وأطلق خطة لمحاولة احتوائها من خلال التحذير من نشاطات بكين البحرية والجوية في بحر جنوب الصين، وإثارة قضية تايوان وتفعيل التحالفات الأمنية والعسكرية بالمنطقة.
ورغم وجود اتفاق بين الصين والولايات المتحدة على مبدأ “الصين الواحدة” والتي بموجبها تقيم واشنطن علاقات رسمية مع بكين وليس مع تايبيه، عملت إدارة بايدن على تحويل تايوان إلى قضية خلافية ودعمها عسكرياً وسياسياً.
وفي سبتمبر/أيلول 2024، استضاف بايدن زعماء “كواد” في منزله، وقال خلالها إنّ الصين “تختبر” الولايات المتحدة وحلفاءها في منطقة المحيطين الهندي والهادي، ورغم أنّ التصريحات العلنية لم تشر إلى الصين وتجنبت ذكرها، إلا أنّ تصريح بايدن الذي نشر عن طريق الخطأ خلال القمة يؤكد أنّ الصين هي المستهدفة من القمة.
فيبدو أن بايدن حينها لم يفطن إلى إقفال الميكروفون، وسمع الجميع كلامه يقول إنّ “الرئيس الصيني شي جين بينغ يتطلع إلى شراء بعض المساحة الدبلوماسية لنفسه، من وجهة نظري، لملاحقة مصالح بلاده بقوة، وتستمر بكين في التصرف بعدوانية واختبارنا في جميع أنحاء المنطقة على عدة جبهات بما في ذلك القضايا الاقتصادية والتكنولوجية. في الوقت نفسه، نعتقد أن المنافسة الشديدة تتطلب دبلوماسية مكثفة”.
وتظهر ورقة الحقائق -التي نشرها البيت الأبيض عن “كواد” عام 2024- قدراً من التنوع في أهداف هذا التجمع مثل الجوانب الصحية والبيئية والتقنية، فتم إطلاق مبادرة خاصة بمكافحة مرض السرطان في منطقة المحيطين الهندي والهادي، بالإضافة للحديث عن مجالات تنموية أخرى.
غير أنّ ذلك كله لا يمكن أن يتجاوز حقيقة أن هذا التجمع أنشئ في الأصل كتحالف عسكري لمواجهة الصين، ويمكن فهم هذا التنوع في الأهداف كمحاولة يهدف منها تلطيف التجمع وجعله أكثر قبولاً للشعوب المنطوية ضمنه وخصوصاً الهند التي لا ترى نفسها معنية بدخول مواجهة عسكرية مع الصين أواليابان التي عانت من ويلات الحرب العالمية الثانية.
الصين تتأهب لمواجهة لا تريدها
جاءت هذه القمة في وقت فرضت فيها الولايات المتحدة وكندا والاتحاد الأوروبي تعريفات جمركية جديدة على بعض الصناعات الصينية، مثل السيارات الكهربائية واتخذت إجراءات ضد شحنات التجارة الإلكترونية والصلب والألومنيوم الصيني، كما تعمل الولايات المتحدة منذ مدة على تطويق بكين في بحري الصين الشرقي والجنوبي، ليس فقط عبر الأساطيل البحرية بل أيضًا من خلال القواعد العسكرية في كوريا الجنوبية وتايوان واليابان.
وتهدف الولايات المتحدة إلى دعم حلفائها في المنطقة لمنع تعزيز الصين لنفوذها على بحر جنوب الصين، خاصة اليابان وأستراليا، كما تعمل واشنطن على تشجيع قيام أنظمة حكم غير موالية للصين على طول خط الحرير البحري، والذي يمكن أن يقف أمام الهيمنة الاقتصادية الصينية ويحد من تطلعاتها إلى التأثير في السياسة العالمية.
ورغم أن الصين تدرك مخاطر التحالفات التي تنشئها الولايات المتحدة وتأثيرها على خططها المستقبلية، وتحرص على تطوير قواتها المسلحة ومنظوماتها العسكرية، إلاّ أنّها تسعى إلى إكمال مشروع جمهورية الصين الشعبية المقرر عام 2049، وهي غير معنية أن يتعطل بسبب خلافات أو حروب.
وتدرك الصين أيضاً أنّ شراكتها الاقتصادية المعقدة مع الغرب والتي تبلغ تريليونات الدولارات، بما فيها استثماراتها في سندات الخزينة الأميركية والتي تبلغ وحدها أكثر من 700 مليار دولار، يمكن أن تتضرر في حال حصول مواجهة بين الطرفين.
لذا، فإنّ بكين تبدي استعدادها للمناقشة والوصول إلى خطوط عريضة من التفاهمات وإبقاء التوترات تحت السيطرة قدر الإمكان، على الأقل إلى حين إنهاء استعداداتها لأي مواجهة محتملة يمكن أن تفرض عليها.
ولكنها -بالإضافة إلى دول أخرى- توجه الانتقادات إلى هذا التجمع (كواد) لأنّه من وجهة نظرهم يعمل على إحياء فكرة التحالفات العسكرية ويعيد العالم إلى مرحلة الحرب الباردة وأجواء الحرب العالمية، ويعمل باضطراد على الوصول إلى مواجهة عسكرية حتمية بين القوى الكبرى، حفاظاً على الهيمنة الأميركية على المنطقة والعالم.