قالت صحيفة لوموند إن غموض الدبلوماسية الأميركية في مواجهة الحربين الرئيسيتين القائمتين أدى إلى إضعاف إدارة الرئيس جو بايدن، قبل أشهر قليلة من الانتخابات الرئاسية، كما أفقدها سعيها لتجنب التصعيد دون فرض شروط التسوية، مصداقيتها، لتصبح اليوم غارقة في تناقضات لا يمكن الدفاع عنها.

وأعادت الصحيفة للأذهان، في مقال بقلم مراسلها بواشنطن بيوتر سمولار، وعد بايدن عند انتخابه بوضع حد “للحروب التي لا نهاية لها”، وها هي ولايته تنتهي بمفارقة غريبة، فهو من جهة قد حافظ على كلمته، وسحب القوات الأميركية من أفغانستان ولو كان ذلك بصورة كارثية لا تزال تطارد إدارته، ولكنه منذ ذلك الحين، تورط بحربين في أوكرانيا وغزة.

وأضاف المقال أن الولايات المتحدة استخدمت كل ثقلها العسكري والدبلوماسي، مما عرّض سمعتها للخطر، وقد قوّضت مصداقيتها اليوم بسبب الوسائل المستخدمة والنتائج المتوصل إليها، وقبل كل شيء، بسبب التناقضات التي لا يمكن الدفاع عنها في طريقة النظر إلى هاتين الأزمتين، وها هي إدارة بايدن قبل 7 أشهر من الانتخابات الرئاسية، غارقة في مستنقعها رغم أن السياسة الخارجية كان ينبغي أن تكون رصيدها الرئيسي.

ومع أن المصالح الإستراتيجية الأميركية لم تكن سلبية، حيث تم تحقيق الهدف الذي حدده البيت الأبيض، فإن واشنطن رفضت أن تعرض على كييف جدولا زمنيا للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو)، بعد أن تعرض الجيش الروسي لانتكاسة تاريخية في المرحلة الأولى من الحرب دون أن يقتل جندي أميركي واحد في أوكرانيا، وبعد أن تم تجنب المواجهة المباشرة مع حلف (الناتو).

واشنطن تقيد نفسها

وعلى الجبهة الأخرى في الشرق الأوسط، ردت إدارة بايدن دون تأخير ودون تلعثم على الهجوم الذي شنته حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بإسرائيل، وقال مستشار أمنها القومي جيك سوليفان إن “الأمر لا يتعلق بالسياسة أو الإستراتيجية فحسب، بل إنه أمر شخصي بالنسبة لنا”.

وحددت، منذ بداية الهجوم البري الإسرائيلي على غزة، لنفسها أفقا يتمثل في تجنب صراع إقليمي وتم تحقيق ذلك بفضل الانتشار المكثف للقوات البحرية في شرق البحر الأبيض المتوسط.

غير أن واشنطن، في غزة كما في أوكرانيا، حددت ما لا تريده بسهولة، دون تحديد ما تريده، فاتخاذ القرار بشأن المفاوضات مع روسيا متروك للأوكرانيين، والأمر متروك للإسرائيليين لتحديد العملية البرية في غزة، وفي كلتا الحالتين، تقدم واشنطن الدعم العسكري والمشورة ولكنها لا تفرض معايير التسوية.

وأشار المراسل إلى أن الولايات المتحدة ساعدت أوكرانيا بجرأة قبل الغزو الروسي في فبراير/شباط 2022، وكان دورها حاسما، بفضل التحذيرات العامة ورفع السرية عن المعلومات حول تعبئة الجيش الروسي على الحدود وفضح دعاية الكرملين، وعندما توجهت الدبابات الروسية نحو كييف، تمكنت واشنطن والدول الأوروبية من الرد بسرعة وبشكل منسق، وقدمت المساعدة العسكرية لأوكرانيا وتبنت عقوبات غير مسبوقة على موسكو.

النجاح بعيد المنال الآن

غير أن هذه النجاحات الأميركية بعيدة جدا اليوم، إذ أظهرت العقوبات حدودها، وظهرت طرق التفافية عبر الصين وتركيا وآسيا الوسطى، وأعيد تنظيم الاقتصاد الروسي، وبعد ذلك فرضت الإدارة الأميركية قيودا مشكوكا فيها على نفسها، خوفا من المواجهة المباشرة مع القوة النووية الروسية، وقد أدت هذه الخطوط الحمراء على أنواع معينة من الأسلحة إلى تأخير عمليات التسليم إلى كييف، وإحباط الهجوم الأوكراني المضاد في نهاية صيف عام 2022.

وتضاف إلى هذه الترددات -حسب المقال- مخاوف من ارتفاع عالمي في أسعار الطاقة، ولذلك حثت واشنطن كييف على وضع حد للضربات بعيدة المدى التي تستهدف البنية التحتية النفطية داخل روسيا، وبالفعل نقلت كامالا هاريس نائبة الرئيس الأميركي، هذه الدعوات لضبط النفس إلى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على هامش المؤتمر الأمني في ميونخ، ولكنه تجاهلها كما تجاهل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو العديد من التوصيات الأميركية.

هشاشة أميركا

وتبنى الحزب الجمهوري فكرة أن المساعدات العسكرية لكييف لن تؤدي إلا إلى إطالة أمد الحرب، وعرقلوا المساعدات الأميركية في الكونغرس، ما سبّب تشاؤما مثيرا للقلق بشأن القضية الأوكرانية وكشف عن هشاشة الولايات المتحدة، التي أعطت الانطباع بأنها تساعد أوكرانيا في الدفاع عن نفسها، لكنها لم تساعدها أبدا على الفوز، بل لمنع انتصار موسكو، دون تحديد معالم الهزيمة الروسية المرجوة.

وأخيرا، أكد زيلينسكي أن بلاده “ستخسر الحرب” إذا ظلت المساعدات التي وعدت بها الولايات المتحدة محظورة في الكونغرس، وحذر بعض الخبراء والدبلوماسيين من فرضية انهيار الجيش الأوكراني خلال الأشهر المقبلة قرب خاركيف وأوديسا.

ومع تأكيد تآكل الدعم الأميركي لأوكرانيا، أظهرت واشنطن عجزها عن التأثير على القرارات الإسرائيلية والتفكير في فترة ما بعد الحرب، وكان على واشنطن أن تنتظر مقتل 7 من العاملين الغربيين في المجال الإنساني في غارات إسرائيلية، لكي تحدث تحولا في سياستها وتضغط بشكل غير مسبوق على إسرائيل.

معايير متباينة

وأشار الكاتب إلى أن نقطة الضعف الأميركية الكبرى لا تتعلق بالوسائل المستخدمة ولا الأهداف التي تم تبنيها، بل في الصورة المعروضة، وتماسكها في عيون بقية العالم، فمن كييف إلى غزة، أصبحت الفجوة كبيرة بين المبادئ والقيم التي يتم الاستشهاد بها، والعمل على الأرض، فالبيت الأبيض الذي شكّل أوسع تحالف ضد روسيا باسم القانون الدولي، وجد نفسه وحيدا في مجلس الأمن، يعرقل القرارات التي تدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة.

نفس البيت الأبيض الذي سارع إلى إدانة جرائم الحرب الروسية الواسعة النطاق في أوكرانيا، استسلم للعمى عندما تعلق الأمر بقطاع غزة، وأكد كذلك، في 4 أبريل/نيسان، أن وزارة الخارجية “لم تحدد أي حوادث انتهك فيها الإسرائيليون القانون الإنساني الدولي” في غزة، وبالتالي تجد بلدان الجنوب العالمي أن واشنطن لا تتعامل مع حياة الفلسطينيين والأوكرانيين بنفس المعايير.

ضعف غير مسبوق

ولعل صوت أميركا لم يضعف إلى هذا الحد منذ أكاذيب إدارة جورج دبليو بوش بشأن وجود أسلحة الدمار الشامل في العراق، قبل غزو عام 2003، مع أن مصادر مجهولة في واشنطن عبرت عن عدم ارتياحها للخسائر البشرية الناجمة عن العملية البرية في غزة، وأن بايدن انتقد “القصف العشوائي” هناك.

ولكن هذا القلق لم يترجم إلى أفعال خلال الأشهر التالية، عندما دمرت إسرائيل بشكل منهجي الجامعات والمدارس والمراكز الطبية والمستودعات، مما أدى إلى محو أي مستقبل لسكان غزة.

وعلى الرغم من إعادة التوازن للخطاب في واشنطن، مع أخذ معاناة الفلسطينيين في الاعتبار، فإن الإستراتيجية ظلت، كما هي، دعما هائلا لإسرائيل، بل وفي انقلاب غريب، خضعت القوة العظمى لحليفتها.

وتسامحت واشنطن مع النزعات المتطرفة للائتلاف الذي يقوده بنيامين نتنياهو، ولم تستجب إلا بشكل هامشي، بفرض عقوبات رمزية تستهدف المستوطنين المذنبين بارتكاب أعمال عنف في الضفة الغربية.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version