تُرى، ما الذي كان سيقوله أي من “آباء إسرائيل المؤسسين” لو قام من قبره ليرى العالم اليوم؟ عالم تتعالى فيه أصوات الطلاب بالهتاف للمقاومة الفلسطينية، وتتناثر الاعتصامات حول العالم رفضا للجرائم الإسرائيلية، أما ثالثة الأثافي فهي أن تأمر محكمة الجنايات الدولية باعتقال مسؤولي إسرائيل الأهم بتهم الإبادة الجماعية وارتكاب جرائم حرب تشمل استخدام الجوع سلاحا ضد المدنيين، وهم من عانى آباؤهم من النبذ والجوع في معسكرات الاعتقال وفي أزقة أوروبا.

فعندما تأسست إسرائيل، كانت الصورة التي تُرسم عن الدولة اليهودية الوليدة أنها موطن الضحايا، وملتقى المعذبين في الأرض، هؤلاء الذين يريدون أرضا هادئة يعمرونها، ويعيش فيها أبناؤهم، ويحمونها من جور العالم والجيران. فلعقود طويلة، كانت إسرائيل مجرد فكرة بدأت في عقول عدد من مؤسسي الحركة الصهيونية في القرن التاسع عشر، واستطاع هؤلاء أن يحشدوا تأييدا بين الساسة في الدول الاستعمارية الغربية الكبرى، لكنهم لم يكونوا قد امتلكوا ناصية السردية التي تمكنهم من إقناع الرأي العام العالمي.

لكن هذا تغير بعد الحرب العالمية الثانية، ومعرفة العالم بالانتهاكات التي قام بها النازيون في أوروبا ضد الأقليات، وعلى رأسهم اليهود، وحينها كانت ذروة الرأي العام العالمي في دعم حق اليهود في تأسيس دولة يحتمون بها. لم ترد القوى الغربية المنتصرة للعالم أن يرى جريمة غير جرائم النازية، فكل ما سواها يهون.

وبعد أن عانى العالم في مجمله من ويلات الحرب الثانية، وشاهد الناس فظائع النازيين، لم يكن مستغربا أن يقدموا كل الدعم للضحية التي سُلط الضوء على الانتهاكات ضدها أكثر من أي طرف آخر. وكان هذا هو العالم الذي تأسست فيه إسرائيل، عالم تقوده عقدة الذنب، وتحركه صورة الضحية التي لم تكن ثمة صورة غيرها، وينشأ فيه الأطفال على وجود ضحية واحدة، ومقدّس واحد لا يجوز التشكيك فيه، لكن ذلك كان قبل 77 عاما.

خلال هذه الأعوام الطويلة، تغيرت صورة إسرائيل لدى شعوب العالم، وكثير منهم أخلاقيون محبون للعدل والسلام. حتى قبل انطلاق حرب السابع من أكتوبر 2023 وما تبعها من إبادة جماعية في قطاع غزة عقابا على ممارسة الفلسطينيين حقهم في المقاومة، كان جيل جديد في الغرب قد بزغ ولديه قناعات مختلفة كثيرا عن الأجيال التي سبقته بشأن القضية الفلسطينية، فقد بدأت الإحصاءات والبيانات تخبرنا بأن الأجيال الجديدة في الغرب تحمل رؤى مختلفة تماما حول هذا الصراع، وقد جاءت الحرب الجارية حاليا لتعمق هذه الفجوة الجيلية في الغرب، وتكثف وتبلور آراء الأجيال الجديدة الناقدة بشدة لدعم دولها لدولة الاحتلال الاستيطاني كما يصفونها.

لم يعد هذا التبلور يحدث من خلال النقاشات أو التعليقات العابرة على مواقع التواصل الاجتماعي فقط، وإنما ظهر بوضوح متشابكا على أرض الواقع من خلال مظاهرات ضخمة في كل العواصم الغربية رغم كل الإجراءات القمعية لكبحها، وهي المظاهرات المستمرة التي خرجت تندد بإسرائيل والتواطؤ الغربي على انتهاكاتها، في مشهد جعل الحكومات الغربية تظهر أمام العالم بصفتها منتهجة لسياسات معارضة لشعوبها، وتحديدا شبابها والأجيال الأصغر سنا من مواطنيها.

وإذا كانت الإحصاءات الأخيرة تدلل على شيء، فهو ما يمكن أن يحدث في المستقبل، إذ إن الأجيال الجديدة في دول أوروبا والولايات المتحدة تميل بشكل واضح ومتزايد في اتجاه تأييد القضية الفلسطينية، والابتعاد عن دعم إسرائيل. لا نتحدث هنا عن أسباب عاطفية تتعلق بحق الفلسطينيين في الغذاء والدواء وحرية إدخال المساعدات، بل نتحدث عن منظومة قيمية عالمية لا يعود لإسرائيل فيها مكان، وعلى افتراض أن المشهد استمر على ما هو عليه ولم تتغير قناعات تلك الأجيال الجديدة جذريا بعد ذلك، فهذا يعني باختصار أنه بعد سنوات قليلة ستجد الدول الغربية نفسها، وهي تدعم إسرائيل واحتلالها الاستيطاني، في مواجهة خاسرة مع الأغلبية الساحقة من شعوبها قد تضطرها رغما عنها لتغيير سلوكها الداعم للاحتلال.

مظاهرات متواصلة في فرنسا دعما لفلسطين ورفضا لحرب إسرائيل على غزة

جيل يتغير.. والقضية تعود إلى مكانها المستحق

ربما كانت الدولة الأكثر فحصا من جانب الباحثين فيما يتعلق بتحولات آراء صغار السن فيها لصالح فلسطين على نحو شديد الوضوح كانت الولايات المتحدة الأميركية، الداعم الأهم والأكبر لإسرائيل، والتي يرى الكثيرون أنه لولا دعمها غير المشروط لإسرائيل لواجهت صعوبات كبيرة في استمرار استعمارها الاستيطاني.

لسنوات طويلة كان الأميركيون متعاطفين في أغلبهم مع إسرائيل، ويرون أن من واجب الولايات المتحدة المشاركة في دعمها وضمان أمنها وسلامتها، لكن شيئا قد تغير بوضوح الآن، إذ يبدو أن لدى أبناء الأميركيين اليوم رأيا مختلفا تماما عن آبائهم وأجدادهم، وحتى المدافعين عن إسرائيل اليوم في أميركا يدركون تماما حجم التبدل في المواقف عند الأجيال الجديدة ولا ينكرونه رغم استيائهم منه.

من قبل أن تبدأ الحرب الأخيرة كانت الإحصاءات قد بدأت في الكشف عن هذا التحول الكبير، ففي استطلاع أجراه مركز بيو للدراسات الشهير عام 2022، وهو مركز أبحاث أميركي غير حزبي يقع في العاصمة واشنطن، ويعد من أشهر المراكز عالميا التي تعمل على تقديم البيانات والأرقام حول القضايا الاجتماعية والرأي العام والاتجاهات الديموغرافية في الولايات المتحدة الأميركية والعالم؛ وجد الاستطلاع أن 55% من الأميركيين ينظرون لإسرائيل بشكل إيجابي، وأن 41% فقط هم من يعارضونها، لكن عند التعمق في تحليل البيانات نجد أن الصورة توحي بإمكانية أن تتغير على نحو كبير في السنوات القادمة.

ورغم أن المناهج المدرسية والمقرّرات التثقيفية والخطابات السياسية قد عبأت أجيال الغرب بمقولات قيم الحرية والحقوق، شهدت هذه الأجيال ضلوع قادة دولها وحكوماتها في عملية سحق مرئية لا هوادة فيها لهذه القيم والمبادئ دون أن تعترض الطبقة السياسية والنخب الإعلامية والثقافية المتنفِّذة على ما يجري.

إذ إن 41% فقط من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاما هم من ينظرون إلى دولة الاحتلال بإيجابية، وكذلك تزداد النسبة بشكل أبسط في الجيل الذي يكبره مباشرة (الذين تتراوح أعمارهم بين 30 و49 عاما)، لكنها لا تصل إلى تحقيق الأغلبية، إذ رأى 49% من تلك هذه الفئة العمرية لإسرائيل بطريقة إيجابية، وكانت نسبة من يؤيدون إسرائيل بين الذين تتراوح أعمارهم بين 50 و64 عاما هي 60%، فيما وُجدت الأغلبية الكبرى لداعمي إسرائيل في الجيل الأكبر سنا، وهم الذي تزيد أعمارهم عن 69 عاما، بنسبة 69%.

وكذلك رصدت أرقام مؤسسة غالوب الأميركية للاستشارات والتحليلات، التي تقع في واشنطن، في مارس/آذار من عام 2023، نفس الاتجاه الهابط لتأييد إسرائيل بين الأجيال المختلفة، لكن هذه المرة بين المنتمين للحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة الأميركية، وأنه كلما قل العمر زادت احتمالية الاصطفاف مع فلسطين، فبينما حظيت إسرائيل بمستوى تعاطف إيجابي بلغ +46% بين فئة مواليد 1946-1964، و+32% بين فئة مواليد 1965-1979، كانت أرقام التعاطف مع إسرائيل سلبية حين جاء الدور على فئة مواليد مواليد 1980-2000، إذ بلغ التعاطف معدلا سلبيا في مقابل التعاطف مع فلسطين بنسبة -2%.

وحتى بين اليهود الأميركيين نرى نفس الفجوة الجيلية، فبحلول عام 2020 كان 48% فقط ممن تقل أعمارهم عن 29 عاما منهم يشعرون بارتباط شديد مع إسرائيل، في مقابل 67% من اليهود الذين تبلغ أعمارهم أكثر من 65 عاما، إذ كانوا يشعرون بالانتماء والارتباط بدولة الاحتلال.

وحين قامت حرب السابع من أكتوبر، أجرت مجلة الإيكونوميست استطلاعا في الفترة بين 21 أكتوبر و24 أكتوبر، وقد وجدت أن نسبة المتعاطفين مع الفلسطينيين ممن تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاما أعلى من نسبة الذين يتعاطفون مع إسرائيل من نفس الفئة العمرية، بنسبة 28% في مقابل 20%. في حين كانت النسبة بين المتعاطفين مع إسرائيل مقارنة بالمتعاطفين مع الفلسطينيين بين هؤلاء الذين تزيد أعمارهم عن 65 عاما هي 65% في مقابل 6%.

وكما يقول الباحث الفلسطيني المتخصص في الشأن الأوروبي “حسام شاكر” في مقاله على الجزيرة نت، فإن الأمر لا يتعلق فقط برؤية الواقع، بل بالبحث عن المعنى، إذ تجود فلسطين على هذه الجماهير بامتياز منح الهُوية واسترجاع المعنى واستلهام المغزى، فثمة قيم ومبادئ يتجند المرء لأجلها في الميادين ويبذل تضحيات على طريقها من مكتسباته، كأنْ تعاقبه الجامعة المرموقة أو تعتقله قوات الشرطة أو يواجه غرامات مالية أو تطارده حملات تحريض، وقد يضحّي بطموحه الوظيفي لتسجيل موقف مبدئي.

لذلك لم يكن غريبا أن يشير استطلاع الرأي، الذي أجرته إذاعة “إن بي آر” بالتعاون مع “بي إس نيوز” و”ماريست ناشيونال” بعد 4 أيام من انطلاق الحرب، إلى أن 48% فقط من جيل الألفية وجيل زد يرون ضرورة دعم الولايات المتحدة الأميركية لدولة الاحتلال، بينما كان 83% من جيل طفرة المواليد ونسبة أعلى في الأجيال الأكبر يرون ضرورة دعم الولايات المتحدة لإسرائيل.

فلسنوات، كان النضال المقترح على أجيال الحاضر منحصرا في شواغل محلية أو قضايا بيئية أو اهتمامات جنسية، مع ترك شواغل السياسة لأولي الأمر ورجال الاستخبارات الذين لا يُسائلهم أحد تقريبا، لكن الأمر بدأ يتغير وبشكل جذري.

فبحسب استطلاع رأي “هارفارد كابس-هاريس بول” في الشهور الأولى للحرب، فقد كان 51% من المستجيبين الأميركيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاما يعتقدون أن من حق حركة المقاومة الإسلامية “حماس” مهاجمة المواطنين الإسرائيليين بسبب عدالة المظلمة الفلسطينية، وكذلك كانت نسبة من يرون ذلك في الأعمار التي تتراوح بين 25 و35 عاما هي 48%، في حين اعتقد من هم أكبر من 55 وصولا إلى 65 عاما بنسبة 89% أن هجمات حماس لا يمكن تبريرها على الإطلاق، وكانت النسبة تزيد كلما زاد العمر عن ذلك.

ربما أخذت الولايات المتحدة الأميركية وشبابها نصيب الأسد في الدراسات والاستطلاعات التي أجريت حول تغير الآراء تجاه فلسطين وإسرائيل، لكن الواقع أن هذا البعد الجيلي الواضح فيما يتعلق بتغير الآراء تجاه إسرائيل والميل لكفة فلسطين يمتد لأوروبا وكندا أيضا وكافة أرجاء العالم الغربي.

فبحسب الاستطلاع الذي أجرته شركة كومريس البريطانية لصالح شبكة سي إن إن في عام 2018، والذي كان المبحوثون فيه أكثر من 7 آلاف أوروبي في 7 دول، للتعرف على رأيهم بشأن القضية الفلسطينية وإسرائيل؛ أظهر الاستطلاع بوضوح أن الفارق في وجهات النظر بالأساس كان فارقا جيليا، إذ كان الأكبر سنا هم الأكثر دعما لإسرائيل في مقابل الأصغر سنا الأكثر دعما لفلسطين، كما أظهر استطلاع أجراه معهد إيفوب الفرنسي المتخصص في استطلاعات الرأي في عام 2018 أن 57% من المبحوثين الذين تبلغ أعمارهم 65 عاما أو أكثر يحبون إسرائيل، بينما 32% فقط من الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 35 عاما لديهم وجهة نظر إيجابية حولها.

هذا التأثير يمكن ملاحظته بشكل أعم، إذ قالت لوتشيا أردوفيني، الأستاذة بجامعة لانكستر البريطانية، للجزيرة نت في وقت سابق؛ إنها فوجئت بالتحول الهائل الذي حدث لطلابها في أعقاب هجوم السابع من أكتوبر والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وأوضحت ذلك قائلة: “يمكنني القول إن هذا الجيل هو الجيل الأقل تسييسا الذي رأيته على الإطلاق…، لكن كان هذا قبل الحرب على غزة”. وأكدت أن الطلاب الآن يُظهرون اهتماما فائقا بالشأن العام، ويظهرون استعدادا كبيرا لتحديد تفضيلاتهم في التصويت في الانتخابات على سبيل المثال، اعتمادا على مواقف الساسة والمشرعين من الحرب على غزة ودعم الاحتلال.

وقد أظهر استطلاع للرأي أجرته شركة يوجوف العالمية للاستطلاعات في أبريل (نيسان) 2024 في 5 دول أوروبية، هي بلجيكا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والسويد، ذلك التباين بين آراء الشباب وكبار السن حول القضية الفلسطينية.

لقد أظهر الاستطلاع أن نسبة كبيرة من تلك الشعوب كانت مع الشهر السادس للحرب قد اقتنعت بتأييد حظر تجارة الأسلحة مع إسرائيل (إيطاليا: 65%، بلجيكا: 62%، السويد: 50%، فرنسا: 51%، ألمانيا: 49%)، بينما كانت نسبة من يعتقدون أن إسرائيل تقوم بإبادة جماعية في القطاع هي (إيطاليا: 49%، السويد: 46%، بلجيكا: 43%، فرنسا: 34%، ألمانيا: 33%)، وقد أعرب عدد كبير من الناس عن أن حكومات بلادهم ينبغي أن تكون أكثر دعما للفلسطينيين أو أن تكون مواقفها أكثر توازنا على الأقل (بلجيكا: 45%، ألمانيا: 49%، فرنسا: 43%، إيطاليا: 52%، السويد: 48%) بدلا من دعم إسرائيل، وكذلك كانت فكرة أن إسرائيل ينبغي أن تُفرض عليها العقوبات تلقى تأييدا يصل إلى الأغلبية في هذا الاستطلاع.

لكن المهم في الأمر أن الاستطلاع قد أكد الاختلاف في وجهات النظر تجاه القضية الفلسطينية بين جيل الشباب ما بين 18-24 عاما وبين الجيل الأكثر سنا، إذ كان الجيل الشاب أكثر انحيازا في الاستطلاع لفلسطين، باعتبارها تمثل قضية نضال من أجل الحرية، من الجيل الأكبر، وأكثر وعيا بانتهاكات إسرائيل.

وفي بريطانيا بعد عام كامل من الصراع، كان ثلث الجمهور البريطاني يعتقد وفق التليجراف أن إسرائيل تعامل الفلسطينيين بأسوأ الطرق التي اختبرتها أوروبا من قبل في الحرب العالمية الثانية، ويسود هذا الاعتقاد بين الشباب بين 18-24 عاما تحديدا، حيث تصل النسبة بينهم المعتقدة بهذا الاعتقاد إلى 48%، في حين يعتقد أكثر من ثلث تلك الفئة العمرية أن إسرائيل تفلت من العقاب بسبب سيطرة أنصارها على صناعة الإعلام، في حين لا يعتقد 23% منهم أن دولة الاحتلال لها الحق في الدفاع عن نفسها، ولا يعتقد 18% منهم بحقها في الوجود.

وبحسب صامويل روبنستين، الباحث في التاريخ بكامبريدج، وهو الكاتب المؤيد لإسرائيل، فإن “ما يحدث في لندن يشبه إلى حد كبير الطقوس الدينية، ففي كل يوم سبت منذ السابع من أكتوبر تكتظ منطقة وسط لندن بالمحتجين الذين يلوّحون بالأعلام الفلسطينية ويهتفون: [من النهر إلى البحر]. وبالنسبة للمراقب المحايد والفضولي، فإن هناك حقيقة واضحة.. أنهم دائما من صغار السن”.

على جانب آخر، ووفق استطلاع أجرته ما تسمى بـ”حملة مكافحة معاداة السامية (caa)”، فإن 1 من كل 8 من الشباب في بريطانيا الذين تتراوح أعمارهم بين 18-24 عاما يشكّون في التقارير الغربية التي تحدثت عما يسمى بالفظائع التي قامت بها حركة المقاومة الإسلامية “حماس” ضد المدنيين، ويعتقد 16% من الشباب في بريطانيا أن هجمات حماس كانت مبررة أخلاقيا، وبالإضافة لذلك يعتقد أكثر من 1 من كل 8 (13%) أن الحكومة البريطانية أخطأت بوضوح حين صنفت حركة المقاومة الإسلامية “حماس” باعتبارها جماعة إرهابية.

هذا يؤكد أن القضية الفلسطينية لم تعد أمام هؤلاء الطلاب ومناصريهم قضية إغاثية، تتناول اللاجئين أو إدخال المساعدات أو إخراج المصابين للعلاج، بل أصبحت قضية ثورية تجمع المؤمنين بالحق والعدل. فبمشاركة ذوي خلفيات متعددة في اعتصام جامعة إدنبرة الإسكتلندية، على سبيل المثال، من البوذيين والمسلمين واليهود وحتى الإسرائيليين المؤيدين للسلام، تحوّل الاعتصام شيئا فشيئا ليصبح دعوة للتحرر بأقوى العبارات والوسائل.

فمثلا، في مظاهرة في الأول من يونيو/حزيران الماضي، تحدث بعض الطلاب عن خسائر جيش الاحتلال في غزة، ليهتف عدد من المتظاهرين مطلقين صافرات الاحتفال بمقتل جنديين إسرائيليين في غزة. أما التغيير الأبرز، من ناحية أخرى، فهو التحول التدريجي من استخدام الهتافات الإنجليزية الأقرب إلى الحياد، إلى الهتافات العربية المؤيدة للمقاومة بشكل واضح، التي يترجمها الطلاب العرب لرفاقهم الأجانب، ويهتفون بها جميعا.

وفي كندا أظهرت استطلاعات الرأي التي أجريت قبل وبعد السابع من أكتوبر بحسب تقرير لسي بي سي الكندية أن الكنديين الذين تبلغ أعمارهم أقل من 30 عاما يميلون إلى الجانب الفلسطيني، بعكس من تبلغ أعمارهم أكثر من 55 عاما، وأن الكنديين عموما من كل الاتجاهات أكثر دعما من حكومتهم للقضية الفلسطينية. وبحسب استطلاع للرأي أجرته مؤسسة إيكوس في سبتمبر/أيلول 2023، فإن ما يقرب من نصف (48%) الكنديين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و34 عاما يرون إسرائيل دولة فصل عنصري، بينما لم يرَها كذلك إلا 29% فقط من الذين تتراوح أعمارهم بين 55 و64 عاما.

صورة من اعتصام الطلاب في جامعة كولومبيا قبل فضه من شرطة نيويورك (الجزيرة)

ما الذي يعنيه ذلك؟

في يوم 25 فبراير/شباط، شهد العالم الحادثة المأساوية للعسكري التابع للقوات الجوية الأميركية آرون بوشنيل، والذي كان متخصصا في عمليات الدفاع الإلكتروني والدعم الاستخباراتي بالقاعدة 531 في سان أنطونيو لاكلاند، كانت الحادثة باختصار أن العسكري مرهف الحس قد تأثر بشدة بالمشاهد التي تحدث في قطاع غزة، وبدعم دولته لنظام الفصل العنصري الإسرائيلي، فذهب أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن وأضرم النار بجسده وهو يصرخ مرددا: “فلسطين حرة”.

العسكري كان من مواليد عام 1999، إنه ينتمي لهذا الجيل الذي لم يعد مصدقا للبروباجندا الأميركية، ويعرف إلى حد كبير حقيقة إسرائيل، بعكس آبائه وأجداده، وقد جعلته الحرب الأخيرة يعرف أكثر وأكثر عن طبيعتها وتاريخها. يمثل آرون جيلا جديدا -في البلاد الغربية كلهاـ صار وعيه يتبلو أكثر وأكثر حول القضية الفلسطينية وعدالتها.

كان آرون بوشنيل، يحتل موقعا حساسا باعتباره عضوا في الدعم الاستخباراتي في قاعدة أميركية عسكرية، وقد اختار أن يوصل رسالته بطريقته اعتراضا على الطريقة التي يدير بها الرجال الأكبر سنا والأكثر نفوذا النظام الأميركي، وهي الطريقة التي دعمت واحدة من أشرس الإبادات في العصر الحديث، لكن رفاقا آخرين لبوشنيل سيستمرون في الحياة وهم يحملون نفس أفكاره، وبالنظر للإحصاءات يمكن ملاحظة أنه بعد سنوات من الآن سيتقلص عدد المؤيدين لإسرائيل في الغرب أكثر وأكثر، ويصعد جيل جديد أكثر إدراكا للمظلمة الفلسطينية وحق الشعب في التحرير وتقرير المصير.

لم يعد خافيا على الكثير من الباحثين في العلوم السياسية أن الدعم الشعبي الرئيسي الذي تتلقاه إسرائيل في الولايات المتحدة الأميركية يأتي من المسيحية الإنجيلية التي تشكل عمودا فقريا لأهم جماعات الضغط الأميركية الداعمة لتل أبيب، لكن بالنظر إلى الإحصاءات نكتشف أنه بحسب استطلاع أعدته جامعة كارولينا الشمالية فإن الإنجيليين الأصغر سنا أنفسهم باتوا يميلون أكثر وأكثر في السنوات الأخيرة للقضية الفلسطينية على حساب إسرائيل بعكس قادة الطائفة الآن، فبعد أن كان 40% من الجيل الأصغر سنا مؤيدين لدعم الولايات المتحدة لإسرائيل في عام 2015، بات 21% منهم فقط يؤيدون هذا الدعم في عام 2018.

وبحسب تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية، ففي غضون الخمسة عشر عاما القادمة ستكون هناك قيادات جديدة للمجتمع الإنجيلي مؤمنة بعدالة القضية الفلسطينية، على عكس القيادات الحالية التي تلعب دورا أساسيا وصلبا في الضغط من أجل دعم جيش الاحتلال.

ولعل ذلك، كما أوردت صحيفة واشنطن بوست، لأن الشيوخ يرون المحرقة النازية حاضرة، لأن الحدث غُرس في ذاكرتهم التي تشكلت في أواخر سن المراهقة وأوائل العشرينات، أما شباب اليوم فلم يعوا سوى جرائم إسرائيلية لا تختلف كثيرا عن الهولوكوست في كثير من النواحي. فبينما رأى الشيوخ أن إسرائيل تمثل الملاذ لليهود العائدين لبلادهم بعد ألفي عام من الاضطهاد، رأى الشباب القصة الحقيقية في معاناة الفلسطينيين المستمرة مع الاستعمار والاحتلال حتى من قبل النكبة.

وبغض النظر عن أي نتيجة ستؤول إليها هذه الحرب في ظل وصول الهوس الإسرائيلي بالتدمير إلى حدود غير مسبوقة، فربما على الداعمين للقضية الفلسطينية أن يعرفوا حقيقة أنه للمرة الأولى في التاريخ ستكون أغلبية العالم الغربي مهيأة للميل لصالح فلسطين أكثر من إسرائيل، وربما يكون من تلك الأغلبية من هم في مراكز صناعة القرار. فلأول مرة منذ تأسيسها، تفشل إسرائيل في التحكم في القصة، وفي صياغة رؤية العالم للحقيقة، وفي منع الفلسطينيين من حقهم في السرد، لذلك ربما يتوقف الأمر على مدى قدرة مناصري القضية على الاستمرار في الدفع بها إلى مركز الحوار بشكل مستمر، وعدم التوقف عن المحاججة بعدالتها بكل الوسائل الممكنة.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version