طهران- أثارت دعوة الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان لنقل العاصمة من طهران إلى قرب المياه الخليجية لغطا كبيرا بشأن إمكانية تنفيذ الخطوة ونفقاتها، وما إذا كانت كفيلة بوضع حد للأزمات المتراكمة في المدينة وخلق بيئة مناسبة للمنافسة الاقتصادية.
ولدى حديثه عن التحديات التنموية التي تواجه الجمهورية الإسلامية، كان الرئيس بزشكيان قد استنكر في كلمته بمقر “خاتم الأنبياء” (الذراع الاقتصادية للحرس الثوري) استمرار جلب الموارد الأولية من الشواطئ الجنوبية إلى طهران ثم إعادة المنتجات إلى هناك لتصديرها، مما يؤدي إلى استنزاف قدرات البلاد على المنافسة ويقللها، كاشفا عن عجز بلاده عن حل المشكلات المتراكمة في طهران.
ويبدو الفارق في إثارة بزشكيان لهذا الملف هذه المرة أنه يحذر من مغبة “الاحتفاظ بطهران عاصمة لعدد من الاعتبارات”، مؤكدا أنه “من المستحيل تطوير البلاد من خلال الاستمرار في الاتجاه الحالي”، وموضحا أن “طهران تواجه مشاكل ليس لها حل سوى نقل مركز العاصمة، وأي جهود تبذل لتطويرها ليست إلا مضيعة للوقت”.
معضلة تاريخية
يعود تاريخ مدينة طهران إلى أكثر من 1200 عام، حيث كانت قرية صغيرة تقع شمالي قضاء “الري” التاريخي، وقد تحولت قبل نحو 460 عاما إلى مدينة على يد الملك “طهماسب الصفوي”، في حين جعلها الملك “آغا محمد خان القاجاري” قبل 230 عاما عاصمة لبلاد فارس بعد أن نقل إليها العاصمة عام 1795 من مدينة شيراز.
ومنذ ذلك الحين، توسعت المدينة وتزايد عدد سكانها بسرعة حتى بلغ عددهم حتى الشتاء الماضي نحو 14 مليونا و500 ألف نسمة، لكن عدد نفوس العاصمة الإيرانية يبلغ خلال ساعات النهار 20 مليونا، إذ تقصدها صباح كل يوم أعداد هائلة من المواطنين من المدن والمحافظات المجاورة وتغادرها مساء.
وتبدو فكرة نقل العاصمة من طهران قديمةً، حيث تذكر المصادر الإيرانية أنها طرحت 8 مرات خلال 110 أعوام خلت، لكنها لم تجد طريقا للتنفيذ حتی الآن، ففي عهد الجمهورية الإسلامية كان الرئيس الراحل علي أكبر هاشمي رفسنجاني سبّاقا في إثارة الملف عام 1989، ثم بقيت الفكرة تراود الرؤساء الآخرين، لكن رياح الدراسات الإيرانية كانت تجري دائما بما لا يشتهون بشأن نقل المراكز السياسية والاقتصادية.
وفي يناير/كانون الثاني 2013 صادق البرلمان الإيراني بالأحرف الأولى على مشروع نقل العاصمة السياسية والإدارية من طهران إلى مكان آخر، لكن الرئيس الأسبق حسن روحاني عارض المشروع، مؤكدا أنه لن يصبح نافذا حتى يعلن المرشد الأعلى علي خامنئي رأيه النهائي فيه.
وبعد عامين، تحوّل مشروع “دراسة إمكانية نقل المراكز السياسية والإدارية للبلاد وتنظيم وتخفيف التركيز من طهران” إلى قانون بعد مصادقة البرلمان عليه بشكل نهائي.
ورغم أن المشروع لم يصطدم بمجلس صيانة الدستور باعتباره مخالفا للشريعة أو بالدستور الإيراني، فإن اجتماعات المجلس الموكل بدراسة إمكانية تنفيذ الخطة تجمدت مع تفشي جائحة كورونا، وكان آخر تقرير نشره المجلس عام 2020 قد خرج بنتيجة تعارض فكرة نقل العاصمة.
مشاكل مستعصية
لم يكتف بزشكيان بالحديث عن ضرورة تغيير المركزية السياسية والاقتصادية للبلاد، بل تطرق إلى عدد من المشاكل التي تجعل من تنفيذ الخطة أمرا لا بد منه، معتبرا أزمة المياه من أبرزها، قبل أن يتحدث عن تخسفات في التربة وتلوث الجو واكتظاظ العاصمة بالسكان.
وفضلا عن أن العاصمة طهران تقع على الخط الزلزالي، ويقطنها أضعاف إمكاناتها من البشر، وتعاني أزمات مرورية خانقة، فإنها تحتل المرتبة 745 من بين ألف مدينة في العالم وفق مؤشر “أكسفورد” لجودة الحياة الذي يتم إعداده عبر قياس معايير دخل الأسرة ونفقات السكن والمساواة الاجتماعية ومتوسط العمر وسرعة الإنترنت.
لكن عمدة طهران الأسبق غلام حسين كرباسجي، الذي شارك في لجنة دراسة إمكانية نقل العاصمة من طهران إبان حقبة الرئيس رفسنجاني، يقول إن فكرة نقل العاصمة “مستحيلة”، مضيفا أن نتائج الدراسات السابقة تظهر أن إمكانية نقل 160 منظمة ومؤسسة حكومية كبيرة إلى خارج طهران ستؤدي إلى خفض ثلث عدد سكانها.
ويضيف كرباسجي، في مقابلة مع صحيفة “دنياي اقتصاد” الناطقة بالفارسية، أن نقل العاصمة من طهران لن يجد طريقا للتنفيذ لدى الحكومة الحالية، بل لا يرى حظوظا لتطبيقه خلال الحكومات الثلاث المقبلة، مشيرا إلى أن دول العالم الثالث تطرح فكرة نقل العاصمة للهروب من معالجة المشكلة، ومؤكدا أن مشكلات طهران قابلة للحل، لكنها بحاجة إلى إرادة واتخاذ قرار وإدارة موحدة.
وبرأي العمدة الأسبق، فإن حشد الإمكانات وتمركز الطاقات السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية والدينية في طهران تجعل المواطن يرغب في الانتقال إليها، ورأى في تخويل المحافظات صلاحية إدارة شؤونها -مثل الأنظمة الفدرالية- سبيلا لحل جانب من مشاكل طهران، علاوة على نقل المؤسسات الحكومية التي لا حاجة لحضورها في العاصمة.
خطوة مجربة
من ناحيته، يطالب بيروز حناجي عمدة طهران السابق والمساعد الأسبق لوزارة الطرق والإسكان بالاعتبار من تجارب الدول التي أقدمت على تغيير عاصمتها أو نقل المراكز السياسية إلى خارج العاصمة السابقة، مؤكدا أن التجربة تظهر أن نقل المراكز السياسية أو الاقتصادية إلى خارج العاصمة لن يخفف كثيرا من مشكلاتها، لأن المسؤولين يتنقلون بين العاصمة السابقة ومحل العمل الجديد دون الانتقال نهائيا إلى هناك.
وفي تصريحات للإعلام الفارسي، رأى حناجي أن نقل المراكز السياسية إلى مكان بعيد من طهران بحاجة إلى ميزانية ضخمة قد تثقل كاهل الاقتصاد، موضحا أن التقديرات السابقة لنقل العاصمة من طهران تشير إلى ضرورة رصد موازنة بحدود 30 مليار دولار، وأكد أن الموازنة اللازمة لتنفيذ الخطة في الوقت الراهن قد تبلغ 78 مليار دولار.
في غضون ذلك، نشرت صحيفة “رسالت” تقريرا تحت عنوان “سراب نقل العاصمة” تطرقت فيه إلى تجارب نقل العاصمة في عدد من الدول الأخرى، واصفة النتيجة بأنها “غير ناجحة” في الأغلب ولم تتمكن من حل المشكلة الرئيسية، علاوة على أنها تتسبب في مشكلات جديدة قد تستمر إلى فترات طويلة.
واستشهدت الصحيفة بالتجربة الألمانية في نقل العاصمة من “بن” إلى برلين، والتجربة الباكستانية في نقل العاصمة من كراجي إلى إسلام آباد، وأضافت أن عدد نفوس إسطنبول -التي كانت العاصمة التركية السابقة- كان قد بلغ 4 ملايين نسمة، بيد أن عدد سكانها ارتفع إلى 11 مليونا بعد نقل العاصمة إلى أنقرة، مؤكدة أن نقل العاصمة لن يؤدي بالضرورة إلى تراجع عدد سكانها.
توقيت غير مناسب
وانطلاقا من التقديرات الإيرانية بشأن جدوى خطة نقل العاصمة إلى مدينة أخرى، يعارض الباحث السياسي رضا بردستاني نقل العاصمة من طهران إلى جنوبي البلاد، معتقدا أن اختيار طهران عاصمة للبلاد لم يأت اعتباطا، بل بناء على دراسات وأبحاث رجحتها على نظيراتها وفقا لموقعها ومناخها ومركزيتها.
وفي حديث للجزيرة نت، يرى بردستاني أن فكرة نقل العاصمة -رغم صوابها- جاءت في توقيت غير مناسب نظرا إلى عدم استعداد الاقتصاد الوطني لدفع ضريبة هذا القرار، لأنه لم يتصدر قائمة أولويات البلاد، مؤكدا أن إثارة الموضوع باستمرار سيقلص من جاذبية طهران للمواطن الراغب في الانتقال إليها أو الاستثمار فيها.
في المقابل، يشاطر أستاذ الجغرافيا السياسية عطا تقوي أصل رؤية الرئيس بزشكيان بشأن ضرورة نقل العاصمة إلى جنوبي البلاد، مستدركا أن الخطة تبدو غير قابلة للتنفيذ في الوقت الراهن، مقترحا إعداد خريطة طريق جديدة للعاصمة طهران تحظر عمليات البناء خارج حدودها الراهنة حتى شعاع 150 كيلومترا.
وفي حديثه للجزيرة نت، يعتقد تقوي أصل أن شريحة لا بأس بها من سكان طهران هاجروا إليها بغية العثور على فرصة عمل، وأنه في حال توفرت لديهم ظروف مماثلة في مسقط رأسهم لعادوا إليها، موضحا أن الاهتمام بالمحافظات الأخرى واختيار مدينة جديدة لتصبح عاصمة اقتصادية سيقلل من جاذبية طهران للاستثمار والهجرة الداخلية.
وخلص إلى أن نقل المصانع التي تستهلك كميات كبيرة من المياه، مثل الصلب، إلى الشواطئ الجنوبية وتوزيع بعض المؤسسات الحكومية في ربوع البلاد وإخراج جزء آخر من طهران سيقلل من أزماتها، مؤكدا أن بعض مشكلات طهران قابلة للحل ومنها تلوث الجو والأزمات المرورية والاكتظاظ السكاني، ومن ثم ربما لا نجد حاجة لنقل العاصمة في حال تمت معالجة هذه الأزمات منفردة.