بعد فترة من الهدوء النسبي يتجدد التصعيد على الحدود السورية – التركية، ورغم أن هذه الحالة سبق وأن شهدتها المناطق الواقعة على طول الشريط، إلا أن ما يجري في الوقت الحالي يراه مراقبون مرتبطا بـ”رسائل” و”ردة فعل” لن تصل إلى نقطة قد تتغير من خلالها خرائط النفوذ.

ونفذ الجيش التركي، على مدى الأسبوعين الماضيين، سلسلة من الهجمات قال إنها استهدفت مواقع “وحدات حماية الشعب” الكردية، وأسفرت عن قتلى عناصر وقيادات، ردا على قذائف اتهمت الأخيرة بإطلاقها على الأراضي التركية الحدودية.

ووفق “المرصد السوري لحقوق الإنسان” بلغ عدد الضربات 15 وذلك في غضون 12 يوما، وأسفرت عن 52 قتيلا وجريحا، غالبيتهم من العناصر التابعين لـ”الوحدات”، وهي العماد العسكري لـ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد).

وتنظر تركيا إلى “قسد” وعنصرها الرئيسي “وحدات الحماية”، على أنها امتداد لـ”حزب العمال الكردستاني”، الذي صنفته واشنطن وأنقرة على أنه منظمة إرهابية، وهو ما تنفيه “قسد”، التي تعد من أبرز حلفاء الولايات المتحدة في الحرب على “داعش” بسوريا.  

وبينما تقول “قسد” إن “قواتها ستبقى ملتزمة بحماية المنطقة” وتضيف “الإدارة الذاتية” الكردية أن القصف يشي بـ”وجود اتفاقات غير معلنة بين تركيا وروسيا وحكومة دمشق” ذكرت وزارة الدفاع التركية أن “التنظيم الإرهابي الذي هاجم مناطق القواعد العسكرية لا يزال يخضع للحساب”.

وتابعت الوزارة الأربعاء أنها تمكنت، الأربعاء، من قتل “41 إرهابيا في منطقتي تل رفعت ومنبج”، مشيرة إلى أنها “ستواصل دفن الإرهابيين في الحفر التي حفروها بأنفسهم”، حسب تعبير بيانها.

ويأتي التصعيد الحالي الذي ما يزال مستمرا من جانب الجيش التركي ومن خلال القصف بالطائرات المسيرة والمدفعية الثقيلة بعدما انتهت تركيا من فترة الانتخابات، بفوز الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان.

ولطالما هدد إردوغان قبل موعد الانتخابات بشن عملية عسكرية على طول الحدود، وبينما بقي الأمر بعيدا عن هجوم بري على الأرض اتجه الجيش التركي لتنفيذ ضربات جوية بين فترة وأخرى، وتصاعدت إلى حد كبير في نوفمبر 2022، بعدما أطلقت أنقرة عملية “المخلب السيف”.

“بين الشرق والغرب”

ومنذ سنوات تسيطر “قسد” على مناطق ومدن حدودية، وتنقسم ما بين شرق نهر الفرات وغربه.

وفي الشرق تتصدر مدينة عين العرب (كوباني) مناطق نفوذ القوات الكردية وصولا إلى القامشلي والدرباسية والمالكية في أقصى المثلث الحدودي بين سوريا وتركيا والعراق.

أما في غرب الفرات تسيطر “قسد” على مدينة منبج (30 كيلومترا غربا) والواقعة بريف حلب الشرقي، بالإضافة إلى جيب صغير يضم مناطق تل رفعت وقرى وبلدات تحاذي منطقة عفرين التي خسرتها في 2018.

وفي حين تبدو هذه المناطق ككتل متباعدة ومتجاورة ضمن نطاق سيطرة “قسد” بالكامل، إلا أنها تشهد انتشارا لقوات أميركية وروسية وأخرى للنظام السوري، مع اختلاف التوزع ما بين شرق نهر الفرات وغربه.

وكانت الضربات التي نفذها الجيش التركي خلال الأسبوعين الماضيين قد تركزت على نحو أكبر في تل رفعت ومحيط منبج، وهما المنطقتان المحسوبتان على الانتشار الروسي والخاص بقوات نظام الأسد.

وأسفرت الهجمات عن قتلى من قوات النظام السوري، بحسب وسائل إعلام “قسد” و”الإدارة الذاتية”، فيما لم يصدر أي تعليق من جانب دمشق، وهي التي سبق وأن دخلت بتفاهمات مع القوات الكردية، وانتهت بالسماح لها بالانتشار في مناطق حدودية، أبرزها كوباني.

لماذا عاد التصعيد؟

وحتى الآن لا تبدو هناك ملامح واضحة عما سيكون عليه طرفي الحدود السورية – التركية، في الأيام المقبلة، وسط تأكيد أنقرة على “مواصلة ملاحقة الإرهابيين”، وفي يبدي مسؤولون في “الإدارة الذاتية” مخاوفهم من “تنسيق” يرتبط بمحادثات “أستانة”.

ومن المقرر أن يجتمع الأتراك والروس والإيرانيين والنظام السوري في أستانة بعد أيام، في اجتماع دوري، سيضاف إليه خطوة ترتبط بالمسار الرباعي الخاص بمسار الحوار بين أنقرة ودمشق.

وتتمثل هذه الخطوة باللقاء على مستوى نواب وزراء الخارجية بين تركيا وروسيا وسوريا وإيران.
ويرى الباحث السياسي التركي، هشام جوناي أن “الجانب التركي يحاول رفع سقف المفاوضات في أستانة، ويريد إظهار أن هناك تنظيمات إرهابية في شمال سوريا تهدد أمن واستقرار البلاد”.

ومن خلال هذه العملية يوصل فكرة على أن “الانسحاب السريع من شمال سوريا يمكن أن يشكل خللا أمنيا يؤثر على التوازنات في المنطقة”.

ويقول جوناي لموقع “الحرة”: “هي محاولة لرفع سقف المفاوضات، واستبعد أن يكون هناك خلاف”، في إشارة منه إلى العلاقة الروسية-التركية.

ويضيف المحلل السياسي، باكير أتاجان أن “ما يحصل هو ردة فعل، إذ يواصل الجيش التركي قتل قياديي حزب العمال الكردستاني بعدما صعّد عملياته بعد الانتخابات، وضرب من سوريا الداخل التركي”.

ويوضح أتاجان لموقع “الحرة”: “الرد سيستمر لكن لن يكون في إطار عملية عسكرية. ما زال هناك أمل أن تكون هناك مفاوضات بين تركيا وروسيا وإيران والنظام السوري في إطار الرباعية”.

ويؤكد المحلل السياسي أن أنقرة “تريد حل المشاكل الأمنية سلميا وليس عسكريا في المرحلة الحالية”.

لكن في المقابل اعتبر الصحفي عكيد جولي ومدير منصة “مجهر الإعلامية” المحلية أن “التصعيد كان مخططا له قبل الانتخابات، وهو ما اتضح من جلسة المجلس الأمن القومي ومخرجاتها”.

ويقول جولي لموقع “الحرة”: “القرار كان واضحا. استمرار الهجمات ضد المناطق الآمنة في شمال وشمال شرق سوريا”.

ومن جانب آخر يشير الصحفي السوري إلى أن “الهجمات تتم من خلال تنسيق مشترك في محور أستانة”، وأن “النظام السوري وإيران وتركيا بإشراف مباشر من روسيا يحاولون إبقاء المنطقة تحت الضغط”.

“رسائل متبادلة”

وصرّح زيدان العاصي مدير مكتب الدفاع في “الإدارة الذاتية” الكردية أن “صمت حكومة دمشق وروسيا حيال الهجمات دليل على وجود اتفاقيات غير معلنة تؤكد على استهداف الإدارة الذاتية”.

وأضاف العاصي لوكالة “anha” المقربة من “قسد”: “النقاط التي تم استهدافها كانت لقوات حكومة دمشق والقوات الروسية، وهذا دليل على رضى الطرفين عن هذا الهجمات”.

بدورها اعتبرت “الإدارة الذاتية” في بيان أن “الهجمات تزداد في الوقت الذي يتصاعد فيه الحديث عن استمرار الاجتماعات الرباعية ووضع خرائط الطريق للعمل وإحداث آليات أمنية جديدة بين الطرفين (التركي -السوري)”.

وجاء في بيانها الخميس: “هذه التطورات والوضع يخلق أمامنا إشارات استفهام كثيرة، منها ما هو متعلق باحتمالية تفاهمات جديدة بين تركيا وغيرها من الأطراف ضدّنا، وهذا بحد ذاته خطر كبير”.

ويقول الباحث السوري في “مركز جسور للدراسات”، وائل علوان إن شرارة التصعيد بدأتها “قسد”، وخاصة من المناطق التي تنحسب ضمن النفوذ الروسي، في تل رفعت ومحيطها.

ويرى في حديث لموقع “الحرة” أن سبب التصعيد هو “الموقف الروسي”، وأن “موضوع الرسائل المتبادلة ما يزال قائما بين الأطراف الخارجية اللاعبة في سوريا”.

“النقاط الخلافية بين الدول الخارجية ليست بالضرورة أن تكون خاصة بالملف السوري سواء ميدانيا أو سياسيا”.

ويعتقد علوان أن “التصعيد من الواضح أنه يعكس استياء روسي من الموقف التركي في كوسوفو، إذ تحاول موسكو استثارة المشكلات ما بين الصرب والأخيرة في وسط أوروبا”. 

وتحدث الباحث عن تصعيد شهدته محافظة إدلب خلال الأيام الماضية، قبل أن تندلع شرارة الهجمات على طول الحدود، وهو ما يندرج أيضا في “إطار الرسائل المتبادلة”.

لكن الباحث السياسي جوناي يرى المشهد مخالفا لذلك.

ويوضح أن “تولي هاكان فيدان وزارة الخارجية دليل على أن الدولة التركية تعول على خبرته في مجال الاستخبارات وستوظفها في تطبيع العلاقات مع الجانب السوري”.

علاوة على تولي وزير الدفاع يشار غولر، والذي كان قائدا للأركان في الفترة السابقة.

ويضيف جوناي: “غولر وتعيينه إشارة إلى أن إردوغان أراد أن يجمع في حكومة واحدة ما بين شخصية تعرف ما يدور في شمال سوريا عسكريا وأخرى تعرف ما يدور استخباراتيا”.

“هذه إشارة إلى إرادة تركية في تطبيع العلاقة والتنسيق مع النظام السوري”، فيما يؤكد جوناي على فكرة أن “الضربات مجرد رفع سقف للمفاوضات لا غير”.

ويتوقع الصحفي جولي أن “تزداد وتيرة الهجمات في الفترة المقبلة”، ويقول: “سننتظر اجتماع أستانة القادم ومخرجاته”.

من جهته يشير المحلل السياسي أتاجان أن اتجاه أنقرة للمفاوضات “لا يعني إيقاف عمليات قصف قياديي حزب العمال في سوريا وشمال العراق وقنديل”.

ويقول إن “المفاوضات لن تمنع تركيا من تنفيذ العمليات”، مضيفا أن الهجمات الحالية “ليست في إطار عملية عسكرية بل ردة فعل على قصف الأراضي التركية”، وأنها أيضا تأكيد على استمرار الحفاظ على الأمن القومي سواء قبل الانتخابات أو في المرحلة التي تلتها.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version