“الضفة الغربية تحولت إلى سجن كبير، نتحرك بها وفق مزاج الجنود، كل يوم أغادر منزلي للعمل، أغلق الباب وكأنني مسافر، لا أعلم إن كنت سأعود أم سأتعرض لإطلاق النار، قد لا يسمحوا لي بالعودة أو يقتحموا المنزل”.
بهذه العبارة بدأ موسى العمر (40 عاما)، حديثه للجزيرة نت، عن القيود المفروضة على الحركة، والتضييقات التي يتعرض لها آلاف الفلسطينيين في الضفة الغربية، بسبب الحواجز والاعتداءات من جنود الاحتلال الإسرائيلي.
يأتي حديث العمر في ظل تصعيد متسارع، إذ كثفت حكومة الاحتلال الإسرائيلي عملياتها القمعية في الضفة الغربية، مرفوقة بهجمات من المستوطنين تحت غطاء سياسي وأمني.
وبينما تفرض قوات الاحتلال حصارا خانقا على المدن والمخيمات الفلسطينية، ارتفعت الاعتداءات الاستيطانية بنسبة 30% منذ بداية عام 2025، بحسب صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية.
ويرى محللون أن هذا التصعيد يهدف إلى ترسيخ وقائع جديدة على الأرض، حيث تُستخدم كأداة ضغط لدفع الفلسطينيين إلى الرحيل. ومع غياب أي مساءلة، تتزايد هذه الهجمات ضمن مخطط مدروس يخدم مشاريع الحكومة اليمينية المتطرفة، التي تسعى إلى فرض سيطرتها بالقوة وتوسيع نفوذها الاستيطاني دون قيود.
قوات الاحتلال الإسرائيلي تعتقل عددا من الفلسطينيين في #الضفة_الغربية خلال اقتحامها بلدة بيت فوريك شرقي نابلس، ومصادر للجزيرة تفيد أن الاحتلال أطلق الرصاص الحي وقنابل الغاز المسيل للدموع ما أدى إلى اندلاع مواجهات مع الشبان#الأخبار pic.twitter.com/1WOhM4X0WJ
— الجزيرة فلسطين (@AJA_Palestine) March 16, 2025
أرقام مقلقة
خلال الشهرين الأولين من عام 2025، بلغت الجرائم القومية التي نفّذها مستوطنون وإسرائيليون آخرون ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية 139 اعتداء، مسجلة تصاعدا ملحوظا مقارنة بالفترة نفسها من عام 2024، وفقا لبيانات قيادة المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال الإسرائيلي، التي تعكس احتمال تجاوز إجمالي الاعتداءات السنوية حاجز 800 حالة في حال استمرار هذا النسق التصاعدي.
وتُظهر الإحصائيات الإسرائيلية أن عام 2024 شهد وقوع 673 اعتداء، تسببت بإصابة 217 شخصا، من بينهم 17 جنديا وشرطيا إسرائيليا خلال تدخلهم في بعض الحوادث. في حين كان عام 2023 قد شهد 1049 اعتداء، خصوصا عقب عملية “طوفان الأقصى” في أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه.
وحسب الإعلام الإسرائيلي، فإن ملفات التحقيق في انتهاكات الجيش، التي تم فتحها على مدار 20 سنة الماضية، كشفت أن نحو 94% من هذه التحقيقات انتهت دون توجيه لائحة اتهام ضد المعتدين، بحسب منظمة متطوعين لحقوق الإنسان (ييش دين).
وفي سياق توثيق هذه الانتهاكات، كشف تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة، الصادر في 13 مارس/آذار 2025، عن جرائم العنف الجنسي التي ارتكبتها قوات الأمن الإسرائيلية، والتي شملت التعري القسري في الأماكن العامة، والتحرش الجنسي، والتهديد بالاغتصاب.
وأشار التقرير، المقدم إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلى أن الإفلات من العقاب، المدعوم بالتواطؤ الرسمي داخل النظام القضائي العسكري الإسرائيلي، أدى إلى استمرار هذه الجرائم دون محاسبة.
كما أظهرت أرقام المنظمة أن الشرطة الإسرائيلية أهملت التحقيق في 81% من هذه الملفات، ومنذ عام 2005، كانت نسبة القضايا التي أسفرت عن إدانات كاملة أو جزئية لا تتجاوز 3%. وتظهر الأرقام ذاتها تراجع ثقة الفلسطينيين في السلطات الإسرائيلية، حيث تخلى 66% من ضحايا العنف عن تقديم شكوى ضد المعتدين الإسرائيليين في عام 2024، مما يعكس استمرار تفشي هذه الظاهرة دون محاسبة.
اعتداءات انتقامية
يروي عقيل محمد، أحد أبناء الضفة الغربية، للجزيرة نت تفاصيل التضييقات المتصاعدة بعد العدوان الإسرائيلي على غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، مؤكدا أن “القيود الإسرائيلية على الفلسطينيين لم تبدأ بعد الحرب، لكنها اتخذت منحى أكثر عنفا وتصعيدا”.
وتصاعدت الاعتداءات منذ تولي حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة السلطة في ديسمبر/كانون الأول 2022. إلا أن وتيرة هذه الهجمات ارتفعت بشكل غير مسبوق بعد الحرب، حيث شعر المستوطنون، وفقا لتقرير مجموعات الأزمات الدولية، “بجرأة غير مسبوقة” لتنفيذ اعتداءات انتقامية.
ويقول محمد “قبل الحرب، كنا نعاني من الحواجز والإغلاقات، لكن بعد الحرب، عمد الاحتلال إلى إضافة عشرات الحواجز والبوابات العسكرية، مما زاد من عزلة الفلسطينيين وحوّل تنقلهم إلى معاناة يومية”.
أما عن التهجير القسري، فيضيف أن عملية “الجدران الحديدية” أدت إلى تهجير نحو 40 ألف فلسطيني من مخيمات جنين وطولكرم ونور شمس والفارعة. ويستطرد أن العملية انتهت عسكريا، لكن حتى الآن، لا يزال الآلاف من سكان هذه المخيمات نازحين، غير قادرين على العودة إلى منازلهم.
عيش شبه مستحيل
وفيما يخص الأغوار الشمالية، التي تشكل ثلث مساحة الضفة، يوضح عقيل أن الاحتلال والمستوطنين جعلوا العيش فيها شبه مستحيل، وأصبحت هدفا لتضييق ممنهج.
ويقول إن المستوطنين يعتدون يوميا على المزارعين والرعاة، مما أجبر العديد منهم على ترك أراضيهم. وأوضح أن البؤر الاستيطانية الجديدة كارثة أخرى، حيث يسيطر مستوطن واحد فقط على مئات الدونمات مع مرور الوقت، وتحت حماية جيش الاحتلال، ويواصل المستوطنون توسعهم دون أي رادع، في حين يمنع الأهالي من دخول أراضيهم.
وتشمل اعتداءات جنود الاحتلال الضرب والتنكيل وإحراق البيوت ومداهمتها وحرق المراكب، ويتعرض الفلسطينيون للتأخير والإذلال، بما في ذلك إجبارهم على خلع ملابسهم وسماع الإهانات.
وعن تجربته الشخصية، يروي العمر “بعد السابع من أكتوبر، تعرّضتُ للاختطاف، حيث تم تعذيبي وضربي”.
ويفرض الاحتلال منع التجوال، ويحرم الفلسطينيين من الخدمات الأساسية، كما يمنعهم من ممارسة طقوسهم الدينية والوطنية، “نحن نعيش وسط جنود متعصبين، بات إطلاق الرصاص لديهم مجرد هواية”، يتابع عقيل.
إستراتيجية مدروسة
ويعد الدافع الجوهري وراء كل ذلك، هو تهجير الفلسطينيين من أراضيهم، في إطار سياسة ممنهجة تهدف إلى فرض وقائع جديدة على الأرض، وفقا لما يوضحه المحلل السياسي الدكتور عبد الحكيم القرالة.
ويؤكد القرالة أن استهداف مدن وقرى الضفة الغربية والاعتداءات المتواصلة ليست أحداثا عشوائية، بل جزء من إستراتيجية مدروسة.
وأوضح القرالة، في حديثه للجزيرة نت، أن ما يجري في الضفة هو نسخة مكررة مما شهدته غزة سابقا، حيث يتم تسليح المستوطنين ودفعهم لاستهداف المدنيين، بالتوازي مع قضم الأراضي وزيادة وتيرة الاستيطان، في إطار أجندة خبيثة تهدف إلى ضمها بالكامل.
ويؤكد القرالة أن المخيمات الفلسطينية هي الأكثر استهدافا، مثل جنين وطولكرم وطوباس والفارعة، حيث يسعى الاحتلال إلى تغيير تركيبتها الديموغرافية والجغرافية وطمس هوية اللاجئين. وفي السياق ذاته، هناك حملة ممنهجة لاستهداف وكالة “الأونروا” وتجريم أعمالها، بهدف طمس صفة اللاجئ، وما يرتبط بها من حقوق، مثل حق تقرير المصير والعودة.
تجريم قانوني دولي
يتمتع الفلسطينيون في الضفة الغربية بوضعية “السكان المحميين” بموجب اتفاقية جنيف الرابعة، مما يفرض على إسرائيل، كقوة احتلال، التزاما قانونيا بحماية حياتهم وممتلكاتهم، كما أن القيود المفروضة على حركة الفلسطينيين، ومصادرة الأراضي، والعقوبات الجماعية، تُعد انتهاكا صارخا لمبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966)، اللذين يكفلان حرية التنقل والملكية والحماية من التمييز.
ووفقا لاتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، التي تعتبر من القوانين الأساسية التي تنظم أوضاع المدنيين في الأراضي المحتلة، يحظر على دولة الاحتلال نقل سكانها إلى الأراضي المحتلة. وتنص المادة 49 من الاتفاقية على أن “ترحيل أو نقل جزء من سكان الدولة المحتلة إلى الأراضي المحتلة محظور قطعا”، مما يجعل المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية غير قانونية وفقًا للقانون الدولي.
علاوة على ذلك، أصدر مجلس الأمن الدولي عدة قرارات تُدين الاستيطان الإسرائيلي، أبرزها القرار 2334 لعام 2016، الذي يؤكد أن المستوطنات “ليس لها أي شرعية قانونية” وتشكّل انتهاكا صارخا للقانون الدولي.
بالإضافة إلى ذلك، تُصنّف العديد من الانتهاكات الإسرائيلية في الضفة الغربية ضمن جرائم الحرب وفقا للمادة 147 من اتفاقية جنيف الرابعة، التي تعتبر القتل العمد، والتعذيب، والتهجير القسري، وتدمير الممتلكات دون ضرورة عسكرية انتهاكات جسيمة ترقى إلى مستوى جرائم حرب.
الأونروا: العملية العسكرية الإسرائيلية المستمرة في الضفة الغربية أدت إلى نزوح أكثر من 35 ألف فلسطيني#الجزيرة pic.twitter.com/D2hNcRG8zZ
— الجزيرة فلسطين (@AJA_Palestine) March 16, 2025
لماذا لا يُطبّق القانون؟
يؤكد الدكتور خالد محمد خويله، في حديثه للجزيرة نت، أن هناك عوامل متعددة تعيق تطبيق القانون الدولي على الاحتلال الإسرائيلي، رغم وضوح الانتهاكات التي ترتكبها ضد الفلسطينيين. ويشير إلى أن الحصانة السياسية التي تحظى بها من القوى الكبرى تُعدّ أحد أبرز العوامل التي تعرقل إجراءات المساءلة الدولية.
ويضيف “إسرائيل ترفض الاعتراف باختصاص المحكمة الجنائية الدولية، لأنها لم توقّع على نظام روما الأساسي. وهذا يجعل محاسبة المسؤولين الإسرائيليين أمرا معقدا، خاصة في ظل الدعم السياسي والدبلوماسي إلى جانب تعقيدات التحقيقات التي تجعل من الصعب إثبات المسؤولية الفردية للجنود المتهمين بارتكاب جرائم حرب، حيث يتطلب ذلك أدلة قاطعة، في وقت تفرض فيه إسرائيل قيودا شديدة على عمل المنظمات الحقوقية الدولية.
ويوضح خويلة أن هناك عراقيل عديدة تمنع الفلسطينيين من تقديم الشكاوى وفتح التحقيقات حول الجرائم التي ترتكبها إسرائيل، منها:
- قانونية وسياسية: إسرائيل لا تعترف باختصاص المحكمة الجنائية الدولية، رغم انضمام فلسطين لنظام روما الأساسي عام 2015. كما تواجه المحكمة ضغوطا سياسية من الولايات المتحدة وإسرائيل، تمنعها من المضي قدما في التحقيقات.
- عملية: تفرض إسرائيل قيودا مشددة على حركة الفلسطينيين، مما يجعل جمع الأدلة أمرا صعبا. كما تمنع المحققين الدوليين والمنظمات الحقوقية من دخول الأراضي المحتلة لتوثيق الانتهاكات.
- أمنية: يتعرض الفلسطينيون الذين يوثقون الجرائم للتهديد والاعتقال، مما يجعل تقديم الشكاوى محفوفا بالمخاطر والمخاوف.
- دولية: الإرادة السياسية الدولية ضعيفة في محاسبة إسرائيل، خاصة مع استخدام القوى الكبرى لحق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن.
- اقتصادية: التقاضي أمام المحاكم الدولية يتطلب تمويلا ضخما، وهو ما لا يتوفر للفلسطينيين الذين يعتمدون على مساعدات دولية مشروطة سياسيا.
- إعلامية: التغطية الإعلامية الغربية غالبا ما تكون متحيزة، ولا تعطي الانتهاكات الإسرائيلية الاهتمام الكافي، مما يقلل من الضغط الدولي لمحاسبة إسرائيل.
وتُعتبر الانتهاكات الإسرائيلية في الضفة الغربية، بما فيها الاستيطان والعنف الممنهج ضد الفلسطينيين، خرقا واضحا للقانون الدولي وجرائم حرب تستوجب المحاسبة. ومع غياب الإجراءات الدولية الفعالة، واستمرار الدعم السياسي والعسكري، تواصل إسرائيل تنفيذ سياساتها الاستيطانية وانتهاكاتها دون رادع حقيقي.