لا تعتبر حادثة إسقاط الطائرة المسيّرة التركية فوق مدينة كركوك العراقية حدثا عابرا أو ناجما عن “خطأ”، وفق خبراء عراقيين وأتراك، وتشير المعطيات المتعلقة بها إلى “مرحلة جديدة” رسمت أولى ملامحها “حدودا” فيما كشفت عن “حالة من التخبط”. 

وترتبط “الحدود” بالقدرات العملياتية التركية في مناطق شمال العراق، وفي المقابل انعكس التخبط من المواقف التي صدرت أولا على لسان نائب قوات الدفاع الجوي في كركوك، وما أصدرته الحكومة العراقية في وقت لاحق، مساء الخميس.  

وكان إعلان إسقاط الطائرة التركية جاء أولا على لسان نائب قوات الدفاع الجوي في كركوك، العميد عبد السلام رمضان، حيث قال للصحفيين من مكان الحادثة: “تم إسقاط طائرة مسيّرة تركية اخترقت الأجواء العراقية”.  

وبينما كانت صور الحطام تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي نشرت “خلية الإعلام الأمني” في الحكومة العراقية بيانا رسميا اختلف بمضمونه عما أكد عليه عبد السلام رمضان في البداية.  

ولم يتبنَ البيان عملية الإسقاط بشكل مباشر بل وضع الحادثة في إطار السقوط المبهم، وأعلن في نهايته أنه “تم تشكيل فريق عمل فني من الأدلة الجنائية والدفاع الجوي وملاكات الطائرات المسيرة لغرض معرفة أسباب سقوطها، وملابسات الحادث”. 

وأعاد الناطق باسم وزارة الخارجية التركي، أونجو كيتشيلي مشاركة بيان “خلية الإعلام الأمني” العراقية، وقال بعد البيان الأول من الحكومة العراقية أنه “تم التنسيق مع السلطات العراقية لتوضيح الحادثة بالتفصيل”. 

وأكد كيتشيلي أن “تركيا تواصل حربها ضد التنظيم الإرهابي المتمركز في الأراضي العراقية وفقا لمبدأ الدفاع عن النفس الوارد في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة”، في إشارة منه إلى “حزب العمال الكردستاني”. 

كما أوضح أن الإعلان الأخير عن “العمال الكردستاني” باعتباره “منظمة محظورة” في العراق و”مذكرة التفاهم حول التعاون العسكري والأمني ​​ومكافحة الإرهاب” الموقعة في أنقرة في 15 أغسطس هي “نتاج لهذا النهج”. 

لكن في المقابل لم يذكر الناطق باسم الخارجية التركية ما إذا كانت الطائرة بدون طيار تركية، ويرى الخبير التركي في الشؤون العراقية، محمد ألاجا أن التصريح الذي أدلى به كيتشيلي “يعني أن الحادث لن يتم تضخيمه من قبل كلا الطرفين (تركيا، العراق).  

ويقول ألاجا لموقع “الحرة” إن “أنقرة وبغداد اختبرت حدود مجال الرؤية لديهما في هذه الحادثة”، لافتا إلى ما أشارت إليه التصريحات العراقية بأنها “لن تسمح للقدرة العملياتية التركية في المنطقة بالوصول إلى مسؤولية السيطرة الخاصة ببغداد”. 

لا تعتبر حادثة إسقاط الطائرة المسيّرة التركية فوق مدينة كركوك العراقية حدثا عابرا أو ناجما عن “خطأ”.

“بين مذكرة تفاهم أمنية” 

وتشن تركيا بشكل دوري هجمات جوية على مقاتلي “العمال الكردستاني”، في شمال العراق، المصنف إرهابيا لدى أنقرة والولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبية. 

وبموازاة ذلك كانت قد نفذت سلسلة عمليات بيد القوات الخاصة على الأرض، وكان آخرها ضمن إطار عملية “المخلب القفل”، مما أسفر عن خلافات بين الجارتين.  

لكن ومنذ بداية العام الحالي ارتسمت معالم صورة أمنية عسكرية مختلفة عن السابق بين تركيا والعراق. 

ووصلت في آخر محطاتها منتصف شهر أغسطس إلى حد توقيع مذكرة تفاهم للتعاون العسكري والأمني في “مكافحة الإرهاب”. 

وما يزال المسؤولون العراقيون والأتراك وحتى الآن يتحدثون عما اتفقوا عليه أمنيا خلال الفترة الماضية. 

وفي حين كانت الأنظار تتجه إلى ما سيترجمونه على الأرض في المرحلة المقبلة جاءت حادثة إسقاط الطائرة فوق كركوك لتثير التساؤلات.  

الدفاعات العراقية أسقطت المسيرة فوق كركوك
الدفاعات العراقية أسقطت المسيرة فوق كركوك

ويشير الخبير التركي في الشؤون العراقية، ألاجا إلى أن مجريات الأحداث التي وصلت إلى إسقاط المسيّرة التركية لم تعرف كواليسها حتى الآن، لكنه يقول إن ما جرى يختصر بمعنى بسيط بأن “بغداد تقول لأنقرة إن (قدرتك على الحركة في إقليم كردستان مقبولة ولكن ليس في كركوك”. 

ومن ناحية أخرى، يرى ألاجا أن الحادثة التي حصلت الخميس وقعت في وقت فاز فيه حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بمنصب حاكم كركوك، وبينما “فشلت مقترحات أنقرة” حول منصب الحاكم.  

ويعتبر ظهور الطائرة المسيرة التركية فوق كركوك “بمثابة تحذير تركي للحزب المتمركز في السليمانية”، وفق الخبير التركي. 

ويضيف أن “أنقرة لم ترغب في وجود نظام حكومي في كركوك يضم الاتحاد الوطني الكردستاني”، كما تواصل على اتهام الأخير بدعم “العمال الكردستاني” وتجري عمليات عسكرية ضده في المنطقة. 

جاء إعلان إسقاط الطائرة التركية أولا على لسان نائب قوات الدفاع الجوي في كركوك.

ما قصة “حاكم كركوك”؟ 

وكانت مصادر دبلوماسية تركية نقلت عنها وسائل إعلام انتقدت الحكومة العراقية في وقت سابق من أغسطس الجاري، بسبب انتخاب محافظ كركوك المرتبط “بالاتحاد الوطني الكردستاني”. 

ويوضح الباحث السياسي العراقي، مجاهد الطائي أن مجلس محافظة كركوك تشكل “بعيدا عن التوافق السياسي، وتم إقصاء قوى رئيسية معينة، وتشكيل تحالف من قوى سياسية ومسلحة مقربة من طهران وبفرض الأمر الواقع”.  

الطائي يربط من جانبه أيضا حادثة إسقاط الطائرة وأنها جاءت بعد تشكيل المجلس، والصراع الخفي الذي تطل ملامحه من خلف الحدود. 

ويقول لموقع “الحرة” إن ما حصل مؤخرا على الصعيد المحلي في كركوك “يعني أن القوى الحليفة لإيران والمتهمة بالتعاون مع حزب العمال الكردستاني عدو تركيا قد اتسع حجم التعاون معها”. 

كما يضيف أن “عناصر تلك القوى انتقلت من مناطق سنجار وبعض مناطق السليمانية إلى كركوك وهذا مؤشر خطير جدا على الاستقرار الاجتماعي والسياسي وحتى الاقتصادي كون المحافظة غنية بالنفط ومتنوعة عرقيا وثقافيا”، على حد تعبير الطائي. 

ولأكثر من مرة خلال العامين الماضيين وجه المسؤولون الأتراك تحذيرات واتهامات لـ”حزب الاتحاد الوطني الكردستاني” بتقديم الدعم لـ”حزب العمال” في شمال العراق. 

وشيئا فشيئا وبينما كانت التهديدات تطلق بين الفترة والأخرى كانت تنتشر أخبار عن استهداف طائرات مسيّرة تركية لقيادات من “العمال” في منطقة السليمانية. وهو ما لم تؤكده أنقرة في عدة حوادث، آخرها قبل يومين. 

ويعتقد الخبير الأمني العراقي، أحمد شوقي أن حادثة إسقاط المسيرة التركية ترتبط بـ”خرق لمنطقة استراتيجية ومهمة وخطرة.. وبردة فعل لا مركزية”.  

ويقول لموقع “الحرة” إن المسيّرة التي تم إسقاطها كانت بقدرات استطلاع وترصد وهجوم، وأنها كانت تحمل صاروخا، مما يعني أنها “هجومية”. 

تشن تركيا بشكل دوري هجمات جوية على مقاتلي “العمال الكردستاني”، في شمال العراق.

“مرحلة جديدة” 

ووصف مراقبون وخبراء أتراك عبر مواقع التواصل الاجتماعي الطائرة التي أسقطها الدفاع الجوي في كركوك بأنها من طراز “أنكا – أكسونجور”. ولم توضح البيانات العراقية والتركية ذلك.  

ويوضح الخبير الأمني شوقي أن “عملية استهدافها لم تكن مركزية بمعنى أوامر من قيادات عليا ومن ثم للدنيا من أجل التنفيذ”. 

ويضيف أن ما حصل كان عبارة عن “رد فعل مباشر لهدف هجومي اقترب من موقع استراتيجي مهم وهو كركوك، التي تضم آبارا نفطية ومؤسسات حكومية عملاقة”.  

الخبير الأمني يعتبر أن الحادثة تفتح الباب أمام “مرحلة جديدة” وترسم حدودا.  

ويتابع أن “التصدي والإسقاط يبعث برسالة لدول الجوار ودول أخرى بأنه قد يحصل عامل رد مفاجئ في أي وقت وبشكل لا مركزي”.  

وتقول تركيا إن وجودها العسكري في شمال العراق إنه يأتي بهدف تأمين حدودها من “حزب العمال الكردستاني” المدرج على قائمة “المنظمات الإرهابية” التي وضعتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة. 

وكان العراق قد صنف الحزب المذكور كـ”منظمة محظورة” وبعدما عقد المسؤولون فيه أول قمة أمنية في العاصمة العراقية بغداد، مارس 2024. 

تشن تركيا بشكل دوري هجمات جوية على مقاتلي “العمال الكردستاني” في شمال العراق.

لماذا التخبط في البيانات؟ 

 ولم تكن قمة بغداد الأولى من نوعها على الصعيد الأمني – العسكري بين تركيا والعراق بل تبعتها أخرى، وعقدت قبل أسبوعين في العاصمة أنقرة.  

وتخلل اجتماعات القمة الثانية توقيع مذكرة تفاهم أمنية بين وزراء دفاع البلدين، وأعرب وزير الخارجية التركي، حقان فيدان بعدها عن اعتقاده بأن مراكز التنسيق والتدريب المشتركة المنصوص عليها في الاتفاقية ستنقل التعاون إلى مستوى أعلى. 

وفي حين أكد فيدان أنهم سيواصلون اتصالاتهم بشأن “محاربة الإرهاب” دون انقطاع، أعرب أيضا عن أمله في أن تكون مذكرة التفاهم “خيرا للبلدين”. 

ومن الجانب العراقي اعتبر وزير الخارجية العراقي، فؤاد حسين أن “مذكرة التفاهم تمثل إضافة نوعية للعلاقات الثنائية”، و”تؤكد على التزامنا المشترك بالسلام والاستقرار في المنطقة، بما يحقق المصالح المشتركة”. 

وتعتبر حادثة إسقاط الطائرة التركية أول اختبار تشهده التفاهمات الأمنية التي تم عقدها بين بغداد والعراق.  

وبينما استخدمت الحكومة العراقية بشأنها “لغة حذرة” ساد خطوات وخطاب عسكري مختلف لدى قادة الدفاعات الجوية في كركوك.  

ويعتقد الباحث السياسي الطائي أن “التخبط في التصريحات العراقية يأتي لتداخل المسؤوليات الأمنية بين عدة جهات سياسية ومسلحة منها حليفة لتركيا ومنها حليفة لإيران”. 

ويقول إن “تداخل المسؤوليات والمصالح والولاءات هو ما أنتج تلك الصورة”. 

وينظر الخبير الأمني العراقي شوقي إلى بيان الحكومة العراقية بأنه “خجول” ويقول إن “عامل الحرج ليس بجديدا على المواقف الحكومية”. 

وحتى ولو كان هناك اتفاقا أمنيا لملاحقة قادة وعناصر “حزب العمال” “لا يمكن أن تتعدى العمليات إلى كركوك وهي منطقة حساسة جدا”، بحسب الخبير العراقي.  

ويضيف أن “الطائرة دخلت الأجواء العراقية من مسافة بعيدة جدا عن ما يمكن تنفيذه لملاحقة حزب العمال في شمال العراق وجبال قنديل والمناطق المحاذية لدهوك”. 

ولا تحافظ تركيا على وجود عسكري شامل ليس في شمال العراق فحسب، بل في شمال سوريا ضمن نطاق “القضاء على المشكلة من مصدرها في الحرب ضد الإرهاب”. 

وما تزال تؤكد حتى الآن على نيتها إطلاق حملات عسكرية إضافية، وكان وزير دفاعها، يشار غولر قد أعاد الحديث في مارس الماضي عن “منطقة أمنية بعمق 40 كيلومترا” تهدف بلاده لإنشائها في مقابل حدودها.  

كما عقد قائد الجيش الثاني التركي الفريق متين توكل والوفد المرافق له اجتماعا أمنيا على الحدود مع المسؤولين المحليين العراقيين، قبل انعقاد القمة الأمنية الأولى بين المسؤولين الأتراك والعراقيين في بغداد. 

وقالت وزارة الدفاع التركية في بيان، حينها إن “الاجتماع حصل داخل حدود منطقة عملية المخلب، وتمت مناقشة أمن الخط الحدودي العراقي التركي فيه وإجراءات زيادة أمن المواطنين العراقيين”. 

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version