يحتل الرقم 207 مكانة مميزة في ذاكرة الشاب العراقي مهدي المهنا الذي شارك بنشاط في احتجاجات تشرين عام 2019 وكاد يخسر بسببها حياته، لدرجة أنه رسم هذا الرقم على شكل وشم في يده حتى لا يفارقه أبدا.

يعد، مهدي الشاعر والناشط المدني البالغ من العمر 32 عاما، أحد أبرز النشطاء الذي قادوا الاحتجاجات المناهضة للسلطة الحاكمة في مدينة النجف، ولم يغاردها لآخر لحظة، حين رفعت خيام المتظاهرين من معظم ساحات الاحتجاجات.

الرقم 207 كان هو نفس رقم الخيمة التي نصبها مهدي منذ الأيام الأولى لاندلاع الاحتجاجات وجرى إزالتها بعد نحو عام ونصف من الحركة الاحتجاجية التي مثلت علامة فارقة في وعي الشعب العراقي وسعيه نحو تحقيق التغيير الجذري.

كان لإزالة خيام المحتجين أثر في نفس مهدي باعتبارها تشكل انتهاء حقبة حملت الآمال لمعظم العراقيين بالتغيير المنشود.

يقول مهدي لموقع “الحرة” إن “الوشم يذكرني بتلك الأحداث.. حتى لا أنسى يوما ما جرى، وكذلك يذكرني بالتضحيات والليالي التي كنا ننام فيها ونحن خائفون لا نعرف ما الذي ينتظرنا في الصباح”.

الرقم 207 كان هو نفس رقم الخيمة التي نصبها مهدي منذ الأيام الأولى لاندلاع الاحتجاجات

في مثل هذه الأيام من خمس سنوات، اندلعت شرارة “ثورة تشرين” كما يحلو للعراقيين تسميتها، لتصبح إحدى أهم محطات التاريخ العراقي الحديث.

كان الشارع العراقي يغلي بسبب سنوات من الفساد وسوء الإدارة وتفشي البطالة والخدمات العامة المتردية، وكان الشباب في المقدمة يقودون مسيرة الاحتجاجات مطالبين بوطن يحتضنهم ويوفر لهم حقوقهم الأساسية، رغم القمع العنيف الذي تعرض له المحتجون.

استمرت الاحتجاجات عدة أشهر اعتصم خلالها مئات الآلاف من المتظاهرين في ساحة التحرير ببغداد وفي محافظات الوسط والجنوب التي عانت مناطقه من الفقر وسوء الخدمات.

قُتل أكثر من 560 شخصا في تلك التظاهرات، معظمهم من المحتجين العزل، لكن كان منهم أيضا أفراد أمن، في موجة الاضطرابات الشعبية مع قيام قوات الأمن العراقية ومسلحين مجهولين بقمع الاحتجاجات.

في الذكرى الخامسة لاندلاع الاحتجاجات يستذكر مهدي الشوارع والساحات التي كانت مليئة بالدخان والعنف الموجه ضد زملائه من المحتجين الشباب الذين كان شعارهم الأبرز “نريد وطن”.

مهدي رافعا العلم العراقي مع مجموعة من المحتجين في مدينة النجف
مهدي رافعا العلم العراقي مع مجموعة من المحتجين في مدينة النجف

في الأول من أكتوبر كان مهدي من بين عدة مئات شاركوا في احتجاجات اندلعت في النجف بناء على دعوات أطلقها نشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي.

العنف والقمع كسر الآمال

جرى مواجهة المحتجين منذ الساعات الأولى بالرصاص الحي والكرات المطاطية والقنابل الدخانية ليسقط منهم أعداد بين قتيل وجريح.

يتذكر مهدي أيامه الأول في ساحة الصدرين بمدينة النجف، حين كان الحماس يسيطر على الجميع والكل مؤمن بأن صوته سيغير مصير البلاد.

في ذلك الوقت، لم يكن يعرف أن “الثورة” ستتحول إلى صراع طويل الأمد، وأنه سيشهد سقوط العديد من أصدقائه قتلى أو جرحى في سبيل تحقيق أهدافهم.

تحدث مهدي عن أصعب اللحظات التي واجهها في تلك الفترة وكانت هجوم المحتجين على منزل محافظ النجف في حينها.

يقول مهدي إن “ذلك اليوم شهد سقوط العديد من القتلى وبعضهم أصدقاء ومقربون مني، برصاص قوات الأمن”.

جرى مواجهة المحتجين منذ الساعات الأولى بالرصاص الحي والكرات المطاطية والقنابل الدخانية

“تعرض 3 أو 4 من زملائي في الخيمة لإصابات مباشرة سواء بطلق حي أو كرات معدنية، كان المشهد أشبه بساحة معركة، الرصاص في كل مكان” يضيف مهدي.

في بغداد لم يكن المشهد مختلفا، فساحة التحرير كانت تعج بالمتظاهرين منذ الأيام الأولى لانطلاق الاحتجاجات، وكان لديها حصة الأسد من الضحايا الذي كانوا يتساقطون بشكل يومي.

المطالب الرئيسية للمتظاهرين في البداية كانت واضحة: توفير فرص العمل تحسين الخدمات العامة مثل الكهرباء والمياه مكافحة الفساد المستشري وإنهاء النظام السياسي الطائفي الذي قسم البلاد.

هذه المطالب جذبت تعاطف شريحة واسعة من العراقيين الذين رأوا في هذه التظاهرات فرصة لإصلاح بلدهم.

وعلى الرغم من سلمية التظاهرات في بدايتها، إلا أن رد الحكومة العراقية والميليشيات الموالية لها كان عنيفا. تم استخدام القوة المفرطة لقمع المتظاهرين مما أسفر عن سقوط مئات القتلى وآلاف الجرحى.

كان القناصة ينتشرون على أسطح المباني فيما قنابل الغاز المسيل للدموع، وحتى الرصاص الحي، تحولت لأدوات لقمع أصوات الشباب المطالبين بالتغيير.

لم يكن عبد الرحمن جديدا على أجواء التظاهرات فقد شارك في تلك التي جرت في أعوام 2011 و2013 و2015

لم يكن عبد الرحمن الغزالي (34 عاما) جديدا على أجواء التظاهرات فقد شارك في تلك التي جرت في أعوام 2011 و2013 و2015 وكانت تقتصر على نخبة من المثقفين والصحفيين والنشطاء، لكن ما جرى في أكتوبر 2019 كان مختلفا.

يقول عبد الرحمن لموقع “الحرة” إن “كم القمع الذي حصل في احتجاجات تشرين كان فظيعا، حتى أنني رأيت المتظاهرين كانوا يحاولون فقط تفادي القنابل الدخانية التي كانت تنهمر كالمطر.. رأيت العديد من الشباب الذين أصيبوا إصابات مباشرة بهذه القنابل وبعضهم توفي في مكانه”.

تلك الأساليب لم تثنِ الشباب العراقي عن الاستمرار في التظاهر، بل زادت من تصميمهم على مواجهة السلطة والمطالبة بحقوقهم، ومع تصاعد القمع، شهد العراق انتشارا للاعتصامات في الساحات العامة.

خيبة أمل وتحديات

كانت ساحة التحرير في بغداد وساحة الحبوبي في الناصرية وساحة الصدرين في النجف رمزا لصمود المتظاهرين، إذ أصبحت تلك الساحات ملتقى للناشطين والفنانين والمثقفين الذين أرادوا إيصال رسائلهم بطرق إبداعية سلمية.

في خضم هذا العنف، تصاعدت الدعوات لإصلاحات سياسية حقيقية، بما في ذلك مطالب بإصلاح النظام الانتخابي وإنهاء التدخل الأجنبي، خاصة من إيران، التي لعبت ميليشياتها دورا محوريا في قمع الاحتجاجات.

على الرغم من القمع والعنف، حققت احتجاجات تشرين بعض المكاسب، إذ استقال رئيس الوزراء في حينها عادل عبد المهدي تحت ضغط الشارع، وتم تعديل قانون الانتخابات. كما شهد العراق في عام 2021 انتخابات مبكرة، على الرغم من أن نسبة المشاركة كانت متدنية جدا، مما يعكس عدم ثقة العراقيين في النظام السياسي.  

قبل ذلك انتهت احتجاجات تشرين خلال الأشهر الأولى من عام 2021 عندما رفعت الخيم من ساحات الاعتصام في بغداد وباقي المحافظات من قبل القوات الأمنية.

يصف عبد الرحمن تلك اللحظة بأنها “أشبه بالنكبة للمتظاهرين” حيث أحس بأن الشوارع التي أعيد افتتاحها والسيارات التي كان تسير عليها كانت “تمشي على أحلام ودماء شباب كان لديهم أمل بتحقيق التغيير المنشود”.

ماذا بعد؟

لكن شعور مهدي المهنا حاليا مختلف، فهو يعرف أن التحديات ما زالت قائمة، وأن النضال لم ينته بعد.

بعد انتهاء الاحتجاجات، اضطر مهدي وتحت وقع التهديدات لمغادرة النجف إلى الكوت ومن ثم الديوانية وبعدها لبغداد، ليستقر به المطاف في أربيل، مع العديد من زملائه الناشطين هربا من الملاحقات.

عاد مهدي لبغداد بعد نحو عام من بقائه في أربيل، لكن الشرط كان مكلفا بالنسبة له ولباقي زملائه الذي اتخذوا نفس القرار.

يقول مهدي بنبرة ضاحكة: “وصلتنا رسائل أن الذي يرغب بالعودة فبإمكانه ذلك لكن بشرط أن يكون عاقلا ولا يعمل مشاكل”.

أكثر من 560 شخصا قُتلوا في التظاهرات معظمهم من المحتجين العزل

ويضيف مهدي: “سنبقى ننادي بشعار نريد وطن.. لدينا أطفال نريد تربيتهم في بيئة سليمة وعائلات وطموح في أن نبني مجتمعا ببيئة تصلح على الأقل للعيش”.

يعتقد مهدي وكذلك عبد الرحمن بأن “تشرين” حققت الكثير ولم تفشل ولا تزال آثارها مستمرة حتى اللحظة.

ويؤكد الناشطان أن واحدة من أهم مكتسبات “ثورة تشرين” هي أن القوى السياسية والدينية بدأت تحسب حسابا للشارع، الذي بات بإمكانه التحرك والوقوف بوجه السلطة والأحزاب الحاكمة.

يقول عبد الرحمن: “إذا تكررت التجربة من جديد فسيتم البناء على ما انتهت إليه تشرين وليس من الصفر، تشرين بحد ذاتها لم تولد من الصفر بل تعكزت على تظاهرات سبقتها”.

ويرى مهدي أن “الشيء الوحيد الذي لم يفشل بعد عام 2003 كان هو ثورة تشرين، التي حققت أغلب أهدافها وأهمها صناعة جيل جديد والتأثير على أجيال كاملة، وإسقاط كل الأصنام والمسميات التي كان من المستحيل انتقادها بشكل علني”.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version