في الأول من أكتوبر، خرجت الاحتفالات في أنحاء الصين بمناسبة مرور 75 عاما على تأسيس الصين الشيوعية، لكن هذه الاحتفالات تحمل في طياتها مشاعر مكنونة بالخوف.

حكم الحزب الشيوعي الصينيين، الذين يمثلون حوالي خمس سكان العالم، لمدة 75 عاما، وما يميز هذا العام أنه تجاوز للمرة الأولى مدة حكم السوفييت الذين بقوا في السلطة لمدة 74 عاما.

لا يزال الحزب الأوحد في الصين ممسكا بالسلطة بعد نحو ثمانية عقود على تأسيس الزعيم الصيني آنذاك، ماو تسي تونغ، جمهورية الصين الشعبية، ويأمل الحزب بعد 25 عاما أن يحتفل بما يطلق عليه “تجديد شباب الأمة”، بحلول عام 2049، وهو العام الذي يفترض أن يمثل الذكرى المئوية للحكم الشيوعي.

لكن أسئلة عدة تتبادر إلى ذهن الصينيين والحزب الشيوعي نفسه وهي: هل يستطيع الحزب البقاء على قيد الحياة لمدة أطول؟ أم قد يكرر التاريخ نفسه؟و إلى متى سيظل ممسكا بزمام السلطة؟ وما عوامل الخطر؟

ترى مجلة “إيكونوميست” أن الرئيس الصيني شي جينبينغ “يشعر بالقلق”، وتقول إن “الخوف من حدوث انهيار على طريقة  الاتحاد السوفييتي يحرم الرئيس شي جينبينغ من النوم في الليل”.

في الأول من أكتوبر 1949، أسس ماو جمهورية الصين الشعبية، بعد انتصار الجيش الشيوعي على القوميين، بعد حرب أهلية استمرت عقدين.

وفي ذلك الوقت، هرب القوميون إلى جزيرة تايوان، حيث شكّل شيانغ كاي شيك، حكومة في تايبيه، عاصمة تايوان، الجزء الوحيد من الأراضي الوطنية التي لم يسيطر عليها الشيوعيون.

ظل الشيوعيون في السلطة، وعاشوا أحداث انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، والآن تجاوز الحزب الشيوعي الصيني “الأخ الأكبر”، كما كان يطلق على الاتحاد السوفييتي ذات يوم.

خبير التحليل السياسي العسكري في معهد هدسون، ريتشارد وايتز، قال لموقع الحرة إن القيادة الصينية “فوجئت بانهيار الكتلة السوفييتية، وفوجئت كذلك باحتجاجات ميدان تيانمين، عام 1989، التي وقعت في نفس الوقت تقريبا”.

حاول الحزب الشيوعي في البداية استقطاب المحتجين، ولكن في النهاية اضطر للضغط عليهم لتقع النهاية المأساوية المعروفة للتظاهرات المطالبة بالديمقراطية، وفق وايتز.

أطلق ماو عام 1958 ما وصفها بـ”القفزة العظيمة للأمام”، وهي سياسة تصنيع قسرية، وفرض أيضا تنظيما جماعيا للأراضي الزراعية أغرقت البلاد في مجاعة تسببت في وفاة ما بين 30 و70 مليون شخص.

بين 1956-1957، أطلق حملة المئة زهرة، التي سمحت بالتحدث بحرية وانتقاد الحزب الحاكم، لكن ماو خدع الجميع، و أرسل مئات الآلاف إلى المعسكرات.

وفي عام 1966، أطلق ماو “ثورة ثقافية” طالب من خلالها الشباب بإحياء الأهداف الشيوعية وطرد العناصر الرأسمالية التي تسللت إلى الحزب.

لكن الثورة تحولت إلى سنوات من العنف والقتل بحق الصحفيين والمثقفين، ووصفت الصحفية جاو يو، التي كانت طالبة جامعية عام 1966، الأمر بأنه ” كان أشبه بحرب أهلية”، وفق تصريحاتها لوكالة أسوشيتد برس.

قالت جاو إن حماسها الأولي للثورة الثقافية خف بعد أن داهمت مجموعة من الحرس الأحمر المتعصبين منزلها واتهموا والدها، وهو من كوادر الحزب السابقين، بعدم الولاء لماو.

وبعد مرور عقود على “الثورة”، بقيت آثارها واضحة على جميع مفاصل النظام السياسي الاستبدادي، حتى مع محاولات التغيير، عندما وصل دينغ شياو بينغ إلى السلطة في عام 1978 إبان فترة الحرب الباردة.

حاول دينغ اتباع سياسية إصلاحية تسمح ببعض التحرير في السياسية والاقتصاد، لكن لم يسمح بأي حركة ديمقراطية حقيقية.

ثم جاءت مجزرة تيانمين في يونيو 1989، حين فتح عناصر الجيش النار على المحتجين، مما أدى إلى مقتل المئات، وهنا كانت الرسالة واضحة.

يقول وايتز إنه خلال التسعينيات والألفية الجديدة، “كان هناك تركيز على النمو الاقتصادي، وإثراء الناس، وتم تخفيف القمع إلى حد ما، وكان بالإمكان توجيه الانتقاد في الأحاديث الخاصة أو على الإنترنت، ولكن ليس في الاحتجاجات العامة”.

ثم جاء عهد شي، لتدخل البلاد في مرحلة جديدة من القمع.

في عام 2012، بات شي على رأس الحزب الشيوعي الصيني، وأطلق حملة لمكافحة الفساد، وقمع المعارضة، وفي عام 2018، أزال القيود على الفترات الرئاسية، وخنق أي أمل في إصلاح سياسي.

يقول وايتز إنه خلال عهد شي “زاد القمع كثيرا. باتت هناك مساحة ضئيلة للغاية لأي تعليقات سلبية عن سياسة الحكومة حتى في الاحتجاجات الخاصة، وقمع شي أقليات عرقية ودينية، مثل سكات التبت والمسلمين وغيرهم”.

في أغسطس الماضي، تحدث شي عن التاريخ السوفييتي، وكانت المناسبة هي الذكرى السنوية الـ120 لميلاد دينغ شياو بينغ، صاحب سياسة “الإصلاح والانفتاح”. 

أشاد شيء به “لمعارضته الحازمة للاضطرابات” في 1989 “على خلفية تفكك الاتحاد السوفييتي والتغيرات الدرامية في أوروبا الشرقية”. ونقل مقولة دينغ: “لا أحد يستطيع سحقنا”.

تقول إيكونوميست إن الحزب الشيوعي الصيني واجه هذه الاحتجاجات “بعزيمة لا تعرف الرحمة وحافظ على نفسه” من موجات الصدمة القادمة من موسكو.

وفي الأول من أكتوبر الجاري، دعا شي أمام الآلاف المتجمعين في بكين لحضور مأدبة بمناسبة العيد الوطني، إلى معارضة “الأنشطة الانفصالية” المؤيدة لاستقلال تايوان.

في عهد شي، شهدت البلاد نموا اقتصاديا من خلال سيطرة الدولة على المعارضة وكبح جماح الشركات العملاقة.

لكن جاء تباطؤ الاقتصاد لاحقا “ليزيد من استياء الناس”، وفق وايتز.

ويعاني الاقتصاد الصيني أزمة حادة منذ عام 2020 بعد انهيار بعض شركات البناء الكبرى. ويواجه أزمة ديون عقارية وضعفا في الاستهلاك، مع تسجيل النشاط الصناعي انكماشا في سبتمبر للشهر الخامس على التوالي.

ومثل قطاع البناء والإسكان لفترة طويلة أكثر من ربع الناتج المحلي الإجمالي في ثاني أكبر اقتصاد في العالم.

غير أنه يتكبد منذ 2020 تبعات سياسة بكين التي شددت شروط الحصول على القروض لشركات التطوير العقاري، مما دفع بعض الشركات العقارية الكبرى إلى شفير الإفلاس.

وبعد التخلي عن سياسة “صفر كوفيد” التي تبناها شي، واجهت البلاد انتعاشا اقتصاديا باهتا، دفع السلطات الأسبوع الماضي، إلى طرح خطة تحفيز.

وسجلت الصين واحدة من أقل نسب النمو خلال ثلاثة عقود بلغت 5.2 في المئة، وهي نسبة ضئيلة بالنسبة للنمو الذي سجلته الصين سابقا، وجعل منها ثاني أكبر اقتصاد في العالم.

ولا تزال السلطات تتوقع نموا بحوالي 5 في المئة هذه السنة، لكن الهدف يبدو بعيد المنال بسب مشكلات الاقتصاد.

كما تواجه بكين مشكلة اتساع الفجوة بين الطبقات الاجتماعية. 

تعثر الاقتصاد فزاد الاستياء.. “صراع طبقي” يلوح في الصين

تواجه الصين مشكلة اتساع الفجوة بين الطبقات الاجتماعية، وهي مشكلة عملت الحكومات الصينية المتعاقبة على حلها خلال العقود الماضية، لكن التعليقات الأخيرة على مواقع التواصل الاجتماعي تشير إلى “صراع طبقي جديد يلوح في الأفق” في ظل تصاعد الغضب الشعبي بسبب الفجوة في توزيع الثروات.

ووفقا للمكتب الوطني للإحصاء، فإن 20 في المئة من الصينيين الأعلى دخلا كسبوا 5.3 ضعف ما كسبه أدنى 20 في المئة في عام 2015. وهذا المعدل كان قريبا من المتوسط في البلدان المتقدمة الرأسمالية.

وفي عام 2022، وفقا لتقرير المكتب الوطني للإحصاء، ارتفع متوسط دخل أغنى 20 في المئة من الأسر الحضرية إلى 6.3 ضعف دخل أفقر 20 في المئة من الأسر.

وأفاد تقرير لمجموعة إدارة الثروات “يو بي أس” بأن أغنى 1في المئة من سكان الصين يسيطرون حاليا على أكثر من 31 في المئة من ثروة الأسر في البلاد.

ويشعر مسؤولو الحزب وعلى رأسهم شي بالخوف من انهيار مماثل للاتحاد السوفييتي، والدليل على ذلك تذكيرهم المستمر بأزمة السوفيين في الخطب ووسائل الإعلام واجتماعات الحزب.

وفي أكتوبر 2022، خلال مؤتمر الحزب الذي يعقد كل 5 سنوات، قال شي: “يجب أن نبقى دائمًا متيقظين”.

وأصبحت عبارة “التحديات الخاصة التي يواجهها حزب كبير” منذ ذلك الحين شعارا رئيسيًا للدعاية الحزبية، وإشارة إلى تجربة الحزب السوفييتي.

ويتفق معظم المحللين على أنه لا توجد انقسامات واضحة في الحزب الشيوعي الحاكم، حاليا، لكن ظهورها المحتمل يقلق شي بوضوح.

مايكل كانينغهام، الباحث المتخصص في السياسة الداخلية للصين في مؤسسة هيريتيج الأميركية، قال لموقع الحرة: “لا يزال الحزب الشيوعي الصيني يسيطر بقوة على الصين، ولا يوجد حاليا أي تهديد موثوق به لسلطته”.

لكن الحزب يخشى دائمًا الانهيار، وهذا أحد أكبر العوامل المحفزة له، والدليل على ذلك إنفاق الكثير على الأمن الداخلي، وانتشار تكنولوجيا المراقبة بكل مكان في البلاد، وجعل جيش التحرير الشعبي فرعا رسميا للحزب، وليس الدولة، وجعل “أمن النظام” أولوية الأمن الوطني الأولى في الصين، وفق كانينغهام.

ويقول إنه عندما تولى شي السلطة  عام 2012، أصبح الحزب “فاسدا للغاية وفقد قلوب وعقول الناس لدرجة أن الكثيرين اعتقدوا أن أيامه أصبحت معدودة”، لكنه قضى على ذلك من خلال “القضاء على الفساد، وبناء عبادة الشخصية، والتضييق على وسائل الإعلام والأوساط الأكاديمية، وقمع المجتمع المدني في الصين، وفرض المراقبة لضمان تحديد التهديدات المتصورة وتحييدها في وقت مبكر”.

في خطاب ألقاه في يناير 2023 أمام اللجنة المركزية للحزب، قال شي: “مع نمو الحزب، قد يشكل البعض زمرا صغيرة أو فصائل أو ينخرطون في سلوك يقوض وحدة الحزب وقوته القتالية…  الحصن يمكن اختراقه بسهولة من الداخل. الوحيدون الذين يمكنهم هزيمتنا.. أنفسنا”.

ويقول كانينغهام إن الحزب الشيوعي الصيني يقبض بقوة على المجتمع لدرجة أن الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يفقد بها السلطة هي الانقسام داخل الحزب.

لكن لا توجد مؤشرات على ذلك تلوح في الأفق.

ومن المؤكد أن هناك انقسامات وتنافسات ضخمة خلف الكواليس، لكن شي قضى على الكثير من الصراع الفصائلي الذي كان موجودا عندما تولى السلطة من خلال وضع حلفائه في معظم المناصب الرئيسية، ولكن يبدو الآن أن هناك تنافسات تتشكل بين مجموعات مختلفة من حلفاء شي.

وهناك أيضا مؤشرات على أن شي يواجه انتقادات من كبار القادة فيما يتعلق ببعض سياساته، خاصة ما يتعلق بتعامله مع الاقتصاد.

لكن “الدراما الحزبية، تبقى في الغالب، وراء الكواليس”. 

وعلاوة على ذلك، بات الانضباط الحزبي أقوى من أي وقت مضى في عهد شي، لذا فمن الصعب على كبار المسؤولين تنظيم معارضة فعالة للرئيس.

حاول البعض ذلك على مر السنين ذلك، لكن “العديد منهم الآن في السجن”.

ومعظم أولئك الذين بقوا في الهيئات القيادية العليا للحزب إما يوافقون على سياسته أو أن غريزة الحفاظ على أنفسهم تدفعهم إلى الصمت والانصياع.

وفي نهاية المطاف، فإن قيادات الحزب كلها في نفس القارب.

ويقول كانينغهام: “لا يستطيع أي منهم أن يتحمل انفصال الحزب الشيوعي الصيني من الداخل، والطريقة الوحيدة التي يمكنهم من خلالها الترقي إلى مناصب أعلى هي تنفيذ سياسات شي بحماس”.

ولا يهتم الحزب الشيوعي الحاكم بمسألة الخلافة في الوقت الحالي، ولا يبدو أن شى لا يكترث لذلك بعد أن ألغى الحد الأقصى لفترات الرئاسة.

ويرى كانينغام أنه لم يكن بالإمكان ظهور مراكز قوة بديلة، لذلك فإنه حتى مع حدوث انقسام داخلي، فإن الحزب “متحد في ضمان عدم حدوث أي شيء داخليا أو خارجيا من شأنه أن يهدد قبضته على السلطة”.

بينما يرى وايتز مؤشرات على ثورة شعبية مثلما حدث في الماضي في الصين، والأمر أشبه بما يحدث في حالة إيران ودول أخرى: احتجاجات تحدث من حين لآخر، لكنه من الصعب إحداث التغيير.

الحزب الشيوعي سيبقى في السنوات القليلة المقبلة، وفق وايتز، لكن من غير المؤكد أن يحتفل بالمئوية بعد 25 عاما.

يقول وايتز: “لم يتوقع معظم الناس من قبل انهيار الاتحاد السوفييتي”.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version