تلقّت الصين في الحقبة الاستعمارية ضربات قاسية أصابت كبرياءها في الصميم، فقد احتُلت أجزاء واسعة منها وقُسمت أراضيها، وجُرت إلى دائرة التخلف العلمي والاقتصادي، وهي التي كانت تعتبر نفسها على مدى آلاف السنين مركز العالم وعاصمة التحضر والمدنية.

لذا، فإن التاريخ لعب دورا مهما في صياغة أولويات الصين ورسم السياسيات الخارجية وطريقة تعاملها مع التهديدات الإستراتيجية، والعلاقة المعقّدة مع كل من الولايات المتحدة والغرب.

وخلافا للتاريخ الأوروبي، فإنّ السياسة الخارجية الصينية التقليدية ترتكز عادة على عدم التوسع خارج الإقليم، وتكتفي بالحصول على الولاء أكثر من الاحتلال العسكري المباشر.

كما أنّ الصين التي عانت من الاحتلال والسياسات الاستعمارية وتدرك كراهية الشعوب للهيمنة الأجنبية، تقدّم نفسها كشريك ناجح لديه ما يقدمه لدول العالم الثالث.

معاهدة نانجينغ..  كيف أجبرت بريطانيا الصين على توقيعها عبر الأفيون؟

فرادة التجربة الصينية

كانت بعض أشهر محطات هذه المواجهات، حرب الأفيون الأولى والثانية (1839، 1856)، ثم التدخل في ثورة تايبنغ (1850-1864) التي تعتبر واحدة من أكثر الحروب دموية في تاريخ البشرية.

تبعت ذلك الحرب مع اليابان (1894-1895م)، التي قادت إلى احتلال اليابان لإقليم منشوريا الصيني، واندلاع الحرب الأهلية بين الحزب الشيوعي وحكومة الحركة القومية (الكومينتانغ)، والتي استمرت منذ 1924-1949، وأدى ذلك إلى انفصال جزيرة تايوان وتأسيس جمهورية الصين الوطنية الموالية للغرب، ثم لاحقا المواجهة مع الغرب في كوريا عام 1951.

هذه المراحل التاريخية جعلت الصين تهتم بالحفاظ على حرية أراضيها وتعزيز قوتها على صد العدوان الخارجي، وهو أحد أهم أهداف الثورة الشيوعية في القرن العشرين، بالإضافة إلى تكريس الاستقرار الداخلي وإطلاق عجلة التنمية.

وبالاستناد إلى هذا التاريخ، يمكن فهم حساسية الصين العالية تجاه التدخل الأجنبي في شؤونها الداخلية، خصوصا وحدتها الترابية وكذلك دائرة نفوذها الإقليمي، وهو ما تسبب في مواجهات عسكرية دامية مع الدول المجاورة لها حتى مع أصدقائها المفترضين، كالحرب مع الهند عام 1962، والنزاع الحدودي مع الاتحاد السوفياتي عام 1969، والحرب مع فيتنام عام 1979.

جنود سوفياتيون بالقرب من جبل كامينايا على الحدود الصينية السوفياتية خلال الحرب بين روسيا والصين (غيتي)

بالإضافة إلى جهودها لحماية إقليمها من خلال مواجهة الولايات المتحدة والدول الغربية، والسعي المستمر إلى الهيمنة على بحر جنوب الصين.

هذا التاريخ جعل الصين تشعر بأنّ هناك تهديدا دائما لبرها الرئيسي، فسعت لامتلاك الردع من خلال حصولها على السلاح النووي عام 1964 ثم الهيدروجيني عام 1967.

ولكنّها في الوقت نفسه، رفضت الدخول في حالة سباق تسلح كما حدث بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، كي لا يحصل استنزاف لاقتصادها ومواردها، واكتفت بالحد الأدنى من القوة النووية الكفيلة بتحقيق الردع.

واتجهت نحو تطوير تدريجي لقواتها المسلحة في كافة المجالات، بعيدا عن فكرة “جيش الشعب” التي كانت سائدة في الصين في المراحل المبكرة من عمر الجمهورية، والقائمة على تحقيق النصر من خلال الزج بمئات الآلاف من المقاتلين في المعركة، والذهاب نحو قوات مسلحة أكثر احترافا وأقل عددا.

كما عملت على تطوير قدراتها التكنولوجية لتواكب العصر، خاصة في حروب الفضاء والحروب السيبرانية.

وصاغت مبادئ السياسة الخارجية الصينية طمأنة المجتمع الدولي من خلال إستراتيجية النمو الهادئة، والتي كان مدخلها الشراكات الاقتصادية والتنموية، خصوصا بعد لقاء الزعيم ماو تسي تونغ مع الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون عام 1972.

نتج عن ذلك بناء علاقات جيدة مع الغرب في فترة الحرب الباردة، استفادت منها الصين بتجاوز المجاعات المتتالية وتطوير الاقتصاد حتى تحوّلت إلى “مصنع العالم”.

ريتشارد نيكسون (يسار) وماو تسي تونغ في الصين 1972 (شترستوك)

العلاقات مع الغرب

وجد الغرب في الصين منافسا ومهددا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وأراد تحجيم دورها وفك الارتباط بالاقتصاد الصيني، لكنّه لقي صعوبة بالغة في ذلك، نتيجة الارتباط العضوي بينهما، كما أن تراكم القوة الصينية والتحول النوعي الذي شهدته القوات المسلحة الصينية جعل أي مواجهة مباشرة معها خطرة جدا.

وشهدت تلك الفترة توترا كبيرا في علاقات الصين مع الولايات المتحدة والدول الغربية، خاصة خلال ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ما أدى إلى حدوث تغيرات في طبيعة العلاقات، وأصبحت تلك القوى تتعامل مع بكين بشكل أكثر ندية ورفعت وتيرة التصعيد ضدها.

وتعرضت الصين لحملة من الضغوط الغربية سواء الاقتصادية، مثل الحرب التجارية التي شنها ترامب، أو بناء تحالفات عسكرية وإستراتيجية لحصارها وعزلها، بالإضافة لمحاولة استهداف الوحدة الداخلية من خلال إثارة مواضيع مثل حقوق الانسان والإيغور وقضية تايوان، رغم اتفاق واشنطن مع بكين على سياسة “الصين الواحدة”.

وعمل الرئيس الأميركي جو بايدن خلال ولايته على حشد شركاء واشنطن في معركته ضد الصين، وجعل من مواجهتها جزءا مركزيا من سياسته الخارجية.

وبهدف “خلق توازن قوى في آسيا”، قام بايدن باستضافة تحالف “كواد” (QUAD) خلال قمة عقدت في عام 2021، وهي القمة الأولى التي يشارك فيها قادة الولايات المتحدة والهند وأستراليا واليابان مباشرة، حيث تعهدوا بالعمل من أجل الحرية في منطقتي المحيطين الهندي والهادئ، في إشارة للصين.

وبالإضافة إلى ذلك، شكّلت واشنطن مبادرة أمنية ثلاثية تحت مسمى “أوكوس” (AUKUS)”، بين أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، بهدف تعميق التعاون الدبلوماسي والأمني والدفاعي في منطقة المحيطين الهندي والهادي، والعمل على مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين، في إشارة غير صريحة أيضا إلى الصين.

بالإضافة لمحاولة الإضرار بمبادرة “الحزام والطريق” والتي تعتبر عنوان النفوذ الاقتصادي والسياسي الصيني، وإنشاء نظام دفاعي اقتصادي وإستراتيجي ضد نفوذها الاقتصادي في المنطقة، من خلال “الممر الاقتصادي” الذي أعلن عنه بايدن خلال قمة العشرين 2023، والذي يربط الهند بالشرق الأوسط وأوروبا.

 

زيادة الميزانية العسكرية

تدرك بكين الخطط والمخاطر التي تحدق بها والتحالفات التي تعقدها الولايات المتحدة والدول الغربية لمحاولة حصارها في محيطها وإيقاف صعودها، وتعي جيدا أنّ الاكتفاء بالاقتصاد والبقاء على وضع ثابت لقواتها العسكرية لن يكون كافيا للدفاع عن خططها، ولن يحقق الاستقرار لمصالحها.

ولهذا زادت الصين ميزانيتها العسكرية والدفاعية بشكل واضح لمواجهة هذه التهديدات، وإيجاد حالة قوة تستطيع التلويح بها أمام أي عدوان خارجي، سواء بالتحالفات التي تستهدفها أو محاولة انفصال تايوان، أو الحفاظ على مصالحها في العالم، وهو ما جاء متكاملا مع علاقتها الخارجية مع الدول منذ 2013 المرتكزة على مبادرة “الحزام والطريق” التي أعلنها الرئيس شي جين بينغ.

وفي عام 2024، كشف تقرير رسمي أنّ الصين زادت ميزانيتها العسكرية 7.2%، إذ ستبلغ تريليونا و665 مليون يوان (نحو 231 مليار دولار)، وهي الزيادة التاسعة على التوالي، وهو ما تنظر إليه الولايات المتحدة وشركاؤها على أنها انعكاس للتطورات مع الصين وخططها الإستراتيجية مع تصاعد التوتر خلال السنوات الماضية.

كما أنّ الإستراتيجية الصينية التي تسعى لحضور أكبر في المنظمات الدولية على غرار منظمة شنغهاي وبريكس، بدأت تستشعر أنّ المواجهة حتمية مع الغرب، وأنها ربما تكون مسألة وقت فحسب، مما جعلها معنية أكثر بتطوير علاقاتها مع دول العالم، لضمان وقوفها إلى جانبها في حالة حدوث شيء يضر بمصالحها.

ورغم هذه الاعتبارات، فإنّ الصين ما زالت تمارس سياسة خارجية حذرة، تقوم على حل المشكلات بالتفاوض، لأنّها غير معنية في الدخول بالمواجهة المباشرة مع الغرب والولايات المتحدة، لفارق القوة والتكنولوجيا وإدراكها الخسائر الهائلة التي ستنتج عن مواجهة من هذا النوع، خاصة أنّها لم تصل بعد لاستكمال خططها الإستراتيجية، خاصة الصين 2049.

تطوير القدرات العسكرية

وعملت الصين منذ تولي شي جين بينغ السلطة على إعادة إصلاح الجيش وتنظيمه ليتناسب مع طموحها وخططها الإستراتيجية، وحماية مشاريعها والدفاع عن مصالحها الرئيسية، وعن مطالبها الإقليمية والبحرية والحدود البرية.

وركّزت في تطوير قوتها العسكرية لجيش التحرير الشعبي على تقليص أوجه الضعف والتعامل مع التهديدات، وتحديث قدراته بشكل كامل، لتتناسب مع طبيعة الحروب المعاصرة، واستخدام أسلحة متقدمة، وتغيير في أنظمة القيادة والتحكم والاتصالات والحوسبة والمراقبة والاستطلاع، بالإضافة لقوة الردع النووية.

ووضعت في 2020 مخططا لتسريع التطوير المتكامل في الجوانب الآلية والمعلوماتية والاستخباراتية للقوات المسلحة، التي إذا تحققت سوف توفر لها مزيدا من الخيارات العسكرية في حالات الطوارئ، خاصة في قضية تايوان، وتكون بمثابة حالة ردع وهامش من المناورات.

وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2020، ذكر متحدث باسم وزارة الدفاع الصينية أنّ الجيش أنجز مرحلة التحديث “لتحقيق الميكنة بشكل عام”، وهو الهدف الذي يُفهم منه تحديث أسلحته ومعداته بحيث يمكن ربطها شبكيا، واستخدام تكنولوجيات أكثر تقدما مناسبة للحرب “المزودة بالمعلومات والذكية”.

وخلال عام 2021، نجحت الصين في تجربة صاروخ يستطيع الدوران حول الأرض بسرعة تفوق سرعة الصوت 5 مرات، مما يمكنه من الإفلات من النظام المضاد للصواريخ الذي يحمي الولايات المتحدة المركّب في ألاسكا “الدرع”، على اعتبار أنّ مسار الأسلحة العابرة للقارات يمرّ عبر القطب الشمالي.

في حين أن الصاروخ الصيني الجديد يمكن أن يأخذ مسارا آخر عبر القطب الجنوبي، مما يجعل “الدرع” معطلا، وهو ما وصفه قائد هيئة أركان القوات المسلحة الأميركية السابق الجنرال مارك ميلي بأنّه واحد من أكبر التحولات في القوة الجيوستراتيجية التي لم يشهد العالم مثله على الإطلاق.

وإذ كانت الصين في السابق تعمل للحصول على الحد الأدنى من القوة النووية التي يتيح لها الانتقام من أي هجوم نووي عليها لتحقيق الردع، فإنها اليوم تسعى لامتلاك 1000 رأس نووي بحلول عام 2030، بحسب توقعات وزارة الدفاع الأميركية، كما تقوم بإنشاء البنى التحتية اللازمة لدعم هذا التوسع الكبير لقواتها النووية.

معارك البحار

يضم الجيش الصيني في قواته البرية الصينية نحو 975,000 مقاتل، كما أنّه يضم أقوى قوة طيران في المنطقة وثالث أكبر قوة طيران في العالم.

وبمقارنة الجيش الصيني مع الجيش الأسترالي، القوة الغربية الأقرب له، فإنّ الأول يمتلك أكثر من 3260 طائرة حربية، في حين يمتلك الثاني نحو 425 طائرة حربية بينها 75 مقاتلة فقط.

ومن حيث القوة البحرية، يتكون الأسطول الصيني من 777 قطعة بحرية، منها 3 حاملات طائرات هي “لياونينغ” و”شاندونغ”، فيما جرى اختبار الثالثة “فوجيان” عام 2024، وهي أكبر سفينة تابعة للبحرية، ما يمثل خطوة رئيسية في تعزيز البحرية الصينية في إطار سعيها لترسيخ وجودها في البحار والمحيطات، خاصة مع زيادة التوتر في بحر جنوب الصين.

وتوصف البحرية الصينية بأنّها الأكبر في العالم، حسب تقرير أصدرته خدمة أبحاث الكونغرس في يناير/كانون الثاني 2024، نقلا عن وزارة الدفاع، متوقعا أن تضم 435 سفينة بحلول عام 2030.

وتدرك الصين أنّ المواجهة البحرية هي الأهم والأخطر، لذلك تريد تعزيز قوتها لتكون قادرة على ردع التحالفات الأميركية وتدخلها في حال اندلاع صراع مع تايوان أو أي قضية أخرى.

فخلال عام 2021، نشرت بكين صواريخ طويلة المدى المضادة للسفن على طول سلسلة الجزر التي تمتد من اليابان إلى تايوان والفلبين، وبدأت في نشر قوات قادرة على إجراء عمليات خارج تلك الجزر.

وهكذا، ومع تزايد التهديدات يوما بعد يوم، يحرص التنين الأحمر على السعي دائما لتطوير قدراته العسكرية، بغرض الجاهزية لتحقيق الردع ضد أي تهديد وتأمين مصالحه الاقتصادية المنتشرة عبر العالم، خصوصا خطوط الطاقة التي يعتمد عليها الاقتصاد الصيني بشدة.

ووفقا لهذا السعي، نستطيع أن نشهد الصين وهي تتحول تدريجيا من قوة اقتصادية عظمى إلى قوة إستراتيجية عظمى جديدة.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version