كابل- يرفع فرهاد قبعته ذات النقوش الحمراء القرغيزية ليحك مقدمة رأسه، ثم يعيدها ويقول “نحن شعب بدوي وهذه هي حياتنا، نحن لا نحب العيش في المدن أو بين الجدران الإسمنتية، نحن نعشق هذه الجبال التي عاش فيها أجدادنا منذ مئات السنين في بامير، ونحب وطننا أفغانستان”.

ثم يستدرك فرهاد بحديثه، “لكن لم تقدم أي من الحكومات السابقة لنا شيئا، نحن شعب منسي على أطراف حدود أفغانستان والصين”، وإذ بدمعتين تترقرقان في عيني الرجل الأربعيني الذي يبدو وكأنه في الـ60 في عمره.

يعيش في أفغانستان عشرات الأقوام من ذوي الأصول واللغات المختلفة، كالبشتون والطاجيك والأوزبك والنورستانيين والإيماق، وبعضها أقليات تعد بالمئات فقط، كالهندوس واليهود الذين كادوا أن ينقرضوا، ومنها أقلية القرغيز التي يصل تعداد أفرادها لأقل من ألفي شخص، يعيشون في أعالي هضبة البامير (سقف السماء) في ظروف معيشية شديدة الصعوبة.

وفرهاد هو شيخ إحدى قبائل القرغيز هذه، يعيش مع عائلته في خيمة قرغيزية مستديرة، يعتمد في حياته -كما هي حال كل القرغيزيين- على الرعي، ففي هذه الارتفاعات الشاهقة الباردة لا توجد زراعة أو أي عمل آخر، فيصبح الرعي أسلوب الحياة الوحيد للقرغيزيين، ومصدرهم الغذائي الوحيد هو ما تنتجه ماشيتهم وجواميسهم الجبلية.

يعد القرغيزيون من الشعوب التركية التي استوطنت وسط آسيا منذ القدم، ووصلوا إلى هذه المناطق إبان فترة توسع الإمبراطورية الروسية، “كان أجدادنا من المسلمين السنّة وفروا بدينهم إلى هذه الجبال، ولأن حياتهم تعتمد على الرعي، فقد كانوا دائمي التنقل بين حدود الصين وأفغانستان وطاجيكستان، إلى أن تم ترسيم الحدود فكان نصيبنا أن نكون في القسم الأفغاني من هضبة بامير” يوضح فرهاد.

خدمات الكهرباء أو الإنترنت لا تتوفر في بيوت أقلية القرغيز وحتى وقت قريب لم يكونوا يعرفون الهاتف الخلوي (غيتي)

حياة بسيطة

ورغم ضيق الحال، فإن القرغيزيين شعب مضياف، يحب إكرام الضيف، فعندما تزور قرغيزيا في خيمته سيقوم بذبح أحد خرافه إكراما لك، وسيقوم بطهيه كاملا ويضعه أمامك، أما مشروب القرغيزيين المفضل فهو الشاي بالحليب المالح، ومائدتهم تكاد تخلو من المنتجات النباتية، إذ إنه في هذا الارتفاعات الشاهقة والجو البارد لا توجد زراعة ولا أشجار.

ويصف فرهاد معاناة الذهاب للسوق بقوله: “لا توجد لدينا أسواق، أنا أذهب كل شهر تقريبا لمدة يومين أو 3 على الحصان، فليست لدينا طرق معبدة، والمركبات لا تستطيع عبور هذه المناطق الوعرة إلى منطقة واخان، حيث توجد بعض المحلات التجارية”.

ويضيف قائلا “نحن شعب نكاد لا نتعامل بالنقود، ونعتمد في تعاملاتنا على المقايضة، فالنقود قليلة، ونحن نقايض مواشينا ومنتجاتها بما نحتاجه من مواد، فأشتري ما تحتاجه عائلتي من أرز وقمح وزيت مقابل الخراف، حتى أعواد الثقاب نحن نقايضها بمنتجات مواشينا”.

منطقة معزولة

لا تقتصر معاناة القرغيزيين على ظروف المناخ القاسية والمناطق المرتفعة الوعرة فحسب، بل يضاف لها تجاهل الحكومات المتتابعة لهذه الأقلية، فلا توجد طريق معبدة تصل مناطقهم بالمدن الأفغانية الأخرى، إذ إن أقرب قرية لهم تبعد 7 أيام على الحصان، ومعظم القرغيزيين لم يسافروا ولو مرة إلى المدن الأخرى، بل إن معظمهم لا يعرفون ماذا يجري خارج منطقتهم.

فمثلا، على من يرغب في الوصول إلى منطقة بامير التي يسكنها القرغيزيون، التي تتبع إداريا لولاية بدخشان شمال شرق أفغانستان، عليه أن يركب سيارة من مدينة فيض آباد التي تعد مركز الولاية، وستستغرق الرحلة يومين أو 3 أيام للوصول إلى مديرية “اشكاشم”، لتبدأ بعدها الطريق الجبلية غير الممهدة.

ولقطع هذه الطريق باتجاه منطقة “واخان”، لا بد من استخدام سيارات الدفع الرباعي مع سائق خبير بالمنطقة، حيث يشكل هذا الممر الجبلي الضيق واديا عميقا من الأراضي الأفغانية بين دولتي طاجيكستان وباكستان، وقد يستغرق الطريق 6 أو 7 أيام للوصول إلى أول نقطة في هضبة بامير.

وبعد أن ينتهي الطريق المعبد وتبدأ الطرق الجبلية الوعرة، لا توجد وسيلة للتنقل سوى الحصان أو الجمل ذي السنامين أو الجاموس الجبلي الذي يدعى محليا “غجگاو”، إذ تنتشر قبائل القرغيز في أماكن متباعدة في الهضبة.

القرغيزيون يسكنون في مناطق متباعدة جدا بما يتناسب مع أماكن رعي ماشيتهم (غيتي)

الوضع الصحي

تكاد تكون الخدمات الصحية معدومة، فلا توجد مستشفيات أو عيادات في المنطقة، ونسبة كبيرة من القرغيزيين يموتون سنويا بسبب الأمراض المختلفة، بينما يموت ثلث النساء بسبب مضاعفات الولادة، ونصف المواليد لا يعيشون حتى الخامسة من أعمارهم، وفي حال إصابة أحدهم بالمرض فإن المسكّن الوحيد هو تدخين الأفيون.

أما عن أقرب مركز صحي، فيقول فرهاد للجزيرة نت إنه تم بناء مركز لكنه بعيد، فقبائل القرغيز تعيش في مناطق متباعدة حتى يتسنى لمواشيها الرعي، وبالنسبة لفرهاد فإن المركز الصحي يبعد عنهم 5 أيام على الحصان، ويقول “في الشتاء تغلق الثلوج جميع الطرق، ومن يمرض منا يجلس في بيته ينتظر، إما الشفاء أو الموت”.

وعن حال المركز، يشرح فرهاد “المركز الصحي ليس فيه كل الإمكانات المطلوبة، قبل عامين مرض أخي فحملناه إلى المركز، فأخبرونا أن علاجه لا يتوفر لديهم، وهم لا يملكون سيارة إسعاف لنقل المرضى، فاضطررنا لاستئجار مركبة تحمله إلى مركز الولاية فيض آباد، فطلب منا السائق مبلغ 100 ألف أفغاني (1400 دولار)، فاضطررنا لبيع عدد كبير من المواشي لنقل أخي”.

مدرسة بلا طلاب

على مر السنين، لم يحظ القرغيزيون بمدارس أو جامعات، وبعد مطالبات عديدة تم في عهد الرئيس السابق حامد كرزاي افتتاح مدرسة، لكن مستوى التعليم فيها لا يتجاوز الصف التاسع، ويصفه السكان هناك بأنه متدنٍّ، ويقال إنه حتى الآن لا يوجد بين القرغيزيين أي شخص استطاع الوصول إلى الجامعة، وإن شخصا واحدا فقط استطاع إنهاء المدرسة الثانوية، وبطبيعة الحال لا تتوفر الكهرباء أو خدمات الإنترنت لديهم، وحتى وقت قريب لم يكونوا يعرفون الهاتف الخلوي.

تتكون عائلة فرهاد من زوجة و6 أبناء، سألته الجزيرة نت إن كان أبناؤه يذهبون للمدرسة، فتنهد وقال “تبعد المدرسة عنا مسافة نصف يوم على الحصان، وفي الأعوام الأولى أرسلتُ أبنائي للدراسة، حيث كانت المدرسة تحوي مهجعا للطلاب، فكنتُ أحملهم للمدرسة في بداية الأسبوع وأعيدهم في نهايته، لكن المهجع توقف لاحقا عن الخدمة، فلم يعد أبنائي يستطيعون الدراسة”.

توجهت الجزيرة نت إلى هذه المدرسة الوحيدة في منطقة بامير، والتقت آصف (أحد المعلمين في المدرسة) الذي تحدث عن ظروف المدرسة قائلا إن عدد المعلمين فيها 3 فقط، ويقومون على تدريس 9 صفوف، ويضيف أن “صفوفنا تخلو من المقاعد والأدراج، ولا يوجد أي وسيلة تدفئة في هذه المنطقة ذات البرد القارس”.

وعند سؤاله عن سبب إغلاق المهجع أمام الطلاب، قال “كان لدينا مهجع ليلي للطلاب الذين يأتون من مناطق بعيدة، ومنذ عدة سنوات توقفت ميزانية هذا المهجع، فترك معظم الطلاب الدراسة، إذ إن بعضهم يعيش على بعد مسافة يومين على الحصان، أما القريبون فيحتاجون إلى 3 أو 4 ساعات على الأقل للوصول للمدرسة”.

معظم الطلاب تركوا الدراسة لأن بعضهم يعيش على بعد مسافة يومين على الحصان من المدرسة، أما القريبون فيحتاجون من 3 إلى 4 ساعات للوصول إليها (غيتي)

حكومة طالبان

لم يحظ القرغيزيون تقريبا بأي تمثيل سياسي في حكومات أفغانستان على مدى تاريخها، إلا أنه في عهد الرئيس الأفغاني السابق تم اختيار توردي آخند ليكون عضوا في مجلس الأعيان ممثلا عن قبائل القرغيز، ويعلق فرهاد على ذلك قائلا: “لم يعد علينا هذا بأي فائدة، فما زلنا حتى الآن نعيش دون كهرباء ودون طرق معبدة، وليست لدينا سوى مدرسة واحدة، ومركز صحي واحد”.

أما عن تعامل حكومة طالبان مع أقلية القرغيز، فيقول فرهاد إنه قبل عام تقريبا جاء وزير القبائل والحدود إلى ولاية بدخشان، فسافر هو ومجموعة من شيوخ قبائل القرغيز لمدة 7 أيام، إلى أن وصلوا إلى مديرية اشكاشم حيث التقوا الوزير، واستمع إلى مطالبهم، ووعدهم بنقل هذه المطالب إلى الحكومة والعمل على تحقيقها.

وبعد مدة قامت الحكومة الأفغانية بتشكيل هيئة مساعدات إنسانية لسكان بامير من القرغيز، وقدموا لهم مساعدات إنسانية وغذائية، وتم الإعلان عن بدء تعبيد طريق واخان بامير، إلا أن العمل لم يبدأ به حتى الآن.

وعلى الرغم من استمرار مطالبات الأقلية القرغيزية بحل مشكلاتهم من عدم توفر الكهرباء والطرق المعبدة والخدمات الصحية والتعليمية، فإنه لم يصدر أي تصريح رسمي من قبل الحكومة الأفغانية حول هذا الأمر حتى الآن.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version