لم تعد الضربات التي تنفذها إسرائيل في سوريا كما السابق، على صعيد الوتيرة والأهداف وطبيعة التعاطي معها على مستوى التعليق، وفي حين وصلت مجرياتها مؤخرا إلى حد التأكيدات النادرة وتوجيه التحذيرات المباشرة للنظام السوري تثار تساؤلات عن مدى قدرة الأخير على ضبط وجود إيران وحزب الله في مناطق نفوذه.

وتذهب تساؤلات أخرى باتجاه ما إذا كان رئيس النظام السوري يمتلك القدرة على المناورة كسبيلٍ لضبط هذا الوجود، وما إذا كان يمسك أيضا بأية مفاتيح قد تبعده عن خطر التصعيد الذي بات يحوم على نحو أكبر في محيط العاصمة دمشق.

حصلت آخر الضربات الإسرائيلية، الاثنين، وسبقتها واحدة، الأحد، وأسفرت عن 9 قتلى على الأقل في منطقة السيدة زينب بدمشق. وبينما لم يحدد النظام هويتهم قال “المرصد السوري لحقوق الإنسان” إن الغارة الجوية استهدفت “شقة بمبنى تقطنه عائلات لبنانية وعناصر من حزب الله”.

هذه الضربة هي الثانية من نوعها في منطقة السيدة زينب في غضون أسبوع، وكانت الأولى حصلت في الرابع من نوفمبر الحالي واستهدفت “ركن الاستخبارات التابع لحزب الله اللبناني داخل سوريا”، حسبما أعلن الناطق باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي.

وسبق كلا الضربتين تنفيذ إسرائيل سلسلة غارات استهدفت مواقع “حزب الله” في منطقة القصير الحدودية بريف محافظة حمص، وطالت أخرى مواقع عسكرية ومستودعات أسلحة تستخدمها الجماعة المدعومة من إيران كمورد، وفق البيانات الرسمية التي يصدرها الجيش الإسرائيلي.

ونادرا ما يصدر عن النظام السوري أي بيانات تؤكد أو تنفي انتشار الإيرانيين وحزب الله في مناطق عسكرية تتبع لقواته، وبعد حرب غزة لم يخرج التعاطي الخاص به على صعيد الضربات عن إطار الإعلان عن الخسائر المادية والبشرية.

في المقابل لم يكن السلوك المذكور للنظام السوري كفيلا بالحد من الضربات.

وعلى العكس بدأت إسرائيل منذ ثلاثة أسابيع بتوجيه تحذيرات مباشرة للنظام، فيما ذهبت مراكز أبحاث إسرائيلية بينها “ألما” بالتوازي للتركيز على النشاطات التي تقوم بها أفرع أمنية تتبع للأسد بالشراكة مع حزب الله، لتمرير الأسلحة من سوريا باتجاه لبنان.

من يمسك الجغرافيا في سوريا؟

ويعود تاريخ انتشار الميليشيات الإيرانية في سوريا إلى العام الثاني من انطلاقة الثورة السورية (2012). وفي ذلك الوقت زجّ بهم “الحرس الثوري”، وفق تقارير استخباراتية وغربية من أجل منع نظام الرئيس بشار الأسد من السقوط.

وبينما تولت الميليشيات مهاما عسكرية وأمنية إلى جانب قوات النظام، سرعان ما تحولت إلى مرحلة التموضع والتمترس في مناطق مختلفة من البلاد، بالتزامن مع ترجيح كفّة الميدان لصالح الأسد على حساب المعارضة.

أبرز المناطق التي تنتشر فيها ميليشيات إيران الآن هي محافظة دير الزور ومدينة البوكمال الواقعة على الحدود السورية- العراقية.

بالإضافة إلى ريف محافظة حلب ومناطق أخرى في شمالي البلاد وجنوبها، وهو ما سلطت الضوء عليه سابقا عدة تقارير منها لـ”المرصد السوري لحقوق الإنسان”.

على الطرف الآخر تشير الأهداف المعلنة من جانب إسرائيل إلى أن حزب الله ما يزال ينتشر في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام. ويشمل ذلك على وجه التحديد الضواحي المحيطة بالعاصمة دمشق والواقعة على الحدود، على رأسها منطقة القصير.

وكما يظهر من خريطة السيطرة في مناطق الأسد توضح الخبيرة في شؤون الشرق الأوسط، إيفا كولوريوتي، أن جزءا كبيرا منها يخضع لسيطرة كاملة للميليشيات التابعة لـ”الحرس الثوري” الإيراني، مع وجود ضئيل لقوات النظام باستثناء بعض المواقع ذات التأثير المحدود.

وتُظهر الخريطة أيضا، بحسب حديث الخبيرة لموقع “الحرة” أن المنطقة الوسطى في سوريا، التي تمتد من البوكمال في الشرق إلى القصير والقلمون في الغرب، مرورا بتدمر والسخنة، حيث يمتد ممر الأسلحة من طهران إلى الأراضي اللبنانية هي “الأكثر أهمية من حيث النفوذ الإيراني”.

يُعَدّ هذا الانتشار ضمن هذه المناطق من الناحية العملية جزءا من خطة طهران، التي تعتمد أساسا على أن إيران تمتلك حقوق هذا الممر، وأن قرار فتحه أو إغلاقه يأتي من طهران وليس من دمشق.

وفي المقابل ومن الناحية الاستراتيجية تقول كولوريوتي إن الأسد، الذي تربطه علاقات شراكة مع طهران تحولت بفعل الثورة السورية إلى اعتماد على الدعم العسكري والاقتصادي الإيراني “غير مستعد رغم التهديدات الإسرائيلية، لاتخاذ قرار يتعارض مع التوجهات الإيرانية”.

وينبع ذلك من أهمية هذا الدور الإيراني في بقائه في السلطة من جهة.

ومن جهة أخرى، ينبع من خوفه من تداعيات قرار كهذا على تماسك نظامه وحتى على حياته، كما حدث مع الرئيس اليمني السابق، علي عبد الله صالح، الذي حاول التخلص من النفوذ الإيراني، فكانت نهايته الاغتيال، بحسب الخبيرة.

السويداء السورية… من الحياد إلى الغضب الشعبي

بعد 12 عاما من اندلاع الثورة السورية، في صيف 2023 خرجت السويداء عن حياد انتهجته لسنوات، ليعلو صوت الاحتجاجات في قلب المحافظة.

هل يمتلك مفاتيح “الضبط”؟

ولا تبدو حتى الآن أي حدود للضربات التي تنفذها إسرائيل في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري.

وبعدما كان يلتزم في السابق سياسة عدم التعليق بدأ الجيش الإسرائيلي مؤخرا بالإعلان عن تفاصيل الغارات التي ينفذها في دمشق، ويرفق معها تحذيرات للنظام السوري، محملا إياه مسؤولية ما يحصل بالشراكة مع حزب الله وإيران.

وقبل حرب غزة كانت الضربات الإسرائيلية تستهدف مواقعا عسكرية بعينها داخل سوريا، ووصلت لأكثر من مرة إلى حد تنفيذ غارات جوية على مدارج مطاري دمشق وحلب الدوليين.

لكن بعد هجمات السابع من أكتوبر وحملتها القائمة الآن في جنوب لبنان اتجهت لضرب شقق داخل مجمعات سكنية، وقالت إنها قتلت بها قادة كبار في “الحرس الثوري” وحزب الله.

ويوضح الباحث السوري في مركز “حرمون للدراسات المعاصرة”، نوار شعبان أن وجود إيران وحزب الله في سوريا ليس وليد اللحظة، وإنه لا يشمل قطاع واحد (عسكري وأمني) بل ينسحب إلى مختلف القطاعات.

وعلى أساس ذلك يستبعد في حديثه لموقع “الحرة” أن يكون من السهل على النظام تنفيذ الضغط من أجل ضبط هذا الوجود.

ومع ذلك يقول الباحث إنه “لا يجب الاستخفاف بالنظام السوري”، مؤكدا على أن “مهمة الضغط من جانبه لتحقيق ضبط الوجود ليست مستحيلة لكنها تبقى صعبة جدا”.

يرتبط عامل الصعوبة بالأدوات التي تتحرك بموجبها إيران في سوريا مع حزب الله، إذ تتخطى العسكرة والأمن. ويضيف شعبان: “إذا ضغط النظام عليهم في بعض المحاور قد يضغطون عليه في محاور أخرى”.

وبالنظر إلى الصورة التي بات عليها النظام السوري فهو لم يعد متماسكا كما كان قبل مارس 2011، حسبما تشير الخبيرة، كولوريوتي.

في مقابل إرسالهم عشرات الآلاف من المقاتلين عبر ميليشيات متعددة الجنسيات كان الإيرانيون زادوا من نفوذهم داخل هيكل النظام ذاته من خلال دعم ضباط في الجيش من الطائفة الشيعية لتولي مناصب عليا وحساسة.

وبينما اتجهوا خلال السنوات الماضية إلى تقديم دعم عسكري موجه للفرقة الرابعة بقيادة ماهر الأسد، شقيق الرئيس السوري بشار الأسد عززت طهران أيضا نفوذ الأمن العسكري في سوريا وبنت شبكة علاقات قوية مع قادته.

وتضيف الخبيرة أنه وإلى جانب هذا التوغل الأمني والعسكري كانت إيران بنت أيضا علاقات قوية مع كبار رجال الأعمال السوريين، واستخدمت بعضهم في عمليات غسيل أموال لصالحها ولصالح حزب الله في لبنان.

ونتيجة لذلك تعتقد كولوريوتي أن “الأسد أصبح اليوم مضطرا للخضوع للرأي الإيراني، سياسيا وعسكريا وداخليا وحتى شخصيا”.

سوريا وترامب.. محطات وسيناريوهات “نهج أقسى”

لن تكون سوريا بمعزل عن الملفات التي ستكون على طاولة ساكن البيت الأبيض الجديد، وفي حين يتوقع خبراء ومراقبون أن تظّل السياسة ثابتة بناء على سلسلة المحددات التي تم تثبيتها خلال السنوات الماضية في عهد 3 رؤساء أميركيين لا يستبعدون أن “يتغير النهج” في المرحلة المقبلة، ولاسيما بعدما أعلن ترامب فوزه في الانتخابات.

“هامش التحرك روسي”

وإيران ليست الوحيدة الداعمة للأسد سياسيا وأمنيا وعسكريا، بل هناك روسيا التي ترتبط بتفاهمات مع إسرائيل، وكانت اتضحت ملامحها على نحو أكبر بعد محطة عام 2015 ومحطة 2018.

وأفادت مصادر إسرائيلية، الاثنين، أن روسيا ستشارك في اتفاق للتسوية بين إسرائيل ولبنان، لكن دون تدخل فيما يحدث داخل لبنان، وفقا لما ذكرته وسائل إعلام محلية.

وأضافت المصادر ذاتها، بحسب مراسل “الحرة” في القدس، أن مهمة موسكو ستنصب بالدرجة الأولى على رئيس النظام السوري بشار الأسد لمنع تهريب الأسلحة الإيرانية إلى حزب الله المدرج على قوائم الإرهاب الأميركية.

وكان وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي، رون درمر قد زار روسيا، الأسبوع الماضي، بغية التنسيق لوقف إطلاق النار، ومن المرتقب أن يجري اجتماعات في الولايات المتحدة، خلال زيارته الحالية، مع عدد من المسؤولين الأميركيين، بينهم الرئيس المنتخب، دونالد ترامب.

وترى الخبيرة كولوريوتي أن “هامش المناورة أمام الأسد أصبح أكثر ارتباطا من أي وقت مضى بالحليف الروسي وحده”.

ويأتي ذلك في ظل المعادلة المعقدة التي يواجهها رئيس النظام، بين حليف في لبنان يواجه عملية عسكرية إسرائيلية تستنزف قدراته العسكرية، وتحالف إيراني قرر دعم حزب الله ومنع انهياره وهزيمته من جهة، وعدو يعتبر إبقاء الحدود السورية اللبنانية مفتوحة لتهريب الأسلحة تهديدا لمخططاته في لبنان ولأمنه الوطني.

لم تكن هذه المرة الأولى التي يطرق فيها الأسد باب موسكو حين يجد نفسه في مأزق بين إيران وإسرائيل، وعندما قرر إعادة فرض سيطرته على المعارضة السورية في جنوب سوريا، كانت موسكو الوسيط الذي سمح بهذه العملية العسكرية.

سانا: غارة إسرائيلية تستهدف جنوب حمص

أفادت وكالة الأنباء السورية (سانا)، الاثنين، أن “غارة إسرائيلية” استهدفت، الاثنين، ريف محافظة حمص، وسط سوريا.

ومع تصاعد التوتر في المنطقة بعد هجمات 7 أكتوبر طلب الأسد من موسكو زيادة وجودها العسكري في محافظة القنيطرة وعلى الحدود مع هضبة الجولان لمنع أي تحركات إيرانية ضد إسرائيل، وكبادرة حسن نية منه لحكومة بنيامين نتنياهو، وفق كولوريوتي.

واليوم وفقا لذات الخبيرة “يبدو أن الأسد بحاجة إلى الوساطة الروسية”، مشيرة إلى الزيارة التي أجراها درمر إلى روسيا الأسبوع الماضي.

كما توضح كولوريوتي أنه بين القضايا المطروحة على الطاولة في الوقت الحالي نشر القوات الروسية على الحدود السورية اللبنانية كمخرج من المأزق الحالي، وعلى أساس ذلك “ينقل الأسد هذا الملف من مكتبه إلى مكتب بوتين”، على حد تعبيرها.

ويقول الباحث السوري شعبان إن “استخدام الأسد للكارت الروسي يقتصر على نقاط وجغرافيات معينة، دون أن يكون له القدرة على استنساخ ذلك في كل المناطق الخاضعة لسيطرته”.

ويضيف: “يمكن أن يضغط عليهم في نقاط وأشياء محددة لكنه لا يستطيع الضغط على التواجد الكامل وإخراجهم (إيران وحزب الله)”.

وقد يكون الأسد اليوم يواجه معضلة الحدود السورية اللبنانية، لكنه بمرور الوقت سيجد نفسه أمام معضلة أخرى قد تكون أكثر تعقيدا، وتتمثل بـ”عندما يقرر نتنياهو أن وجود الميليشيات الإيرانية في سوريا يشكل تهديدا لأمن إسرائيل”، بحسب الفكرة الذي أعادت الخبيرة كولوريوتي الإشارة إليها.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version