باتت “الاستثمارات” ولغة الاقتصاد أكثر ما يميز العلاقة المستجدة بين أنقرة وأبوظبي بعدما اتجهت الدولتان، قبل أكثر من عام لإذابة جليدٍ تراكم بينهما لسنوات طويلة. 

ورغم أن مؤشرات هذا المشهد سادت خلال الأشهر التي سبقت الانتخابات التركية، وفي وقت طرأت فيه تحولات عدة على السياسية الخارجية لأنقرة، فإنها فرضت جوا جديدا في الأيام التي تلت فوز رجب طيب إردوغان بولاية رئاسية ثالثة.

وكان الرئيس الإماراتي محمد بن زايد، أول الزعماء العرب الذين وصلوا إلى تركيا بعد فوز إردوغان، بينما كانت أبوظبي الوجهة الأولى لنائب الرئيس التركي، جودت يلماز ووزير الخزانة والمالية المعين حديثا، محمد شيمشك.

نائب الرئيس التركي جودت يلماز زار الإمارات بعد إعادة انتخاب إردوغان

وناقش المسؤولان التركيان، الأسبوع الماضي، مع الرئيس الإماراتي ومسؤولين آخرين في أبوظبي العلاقات الثنائية وعدة ملفات على رأسها “استثمارات” تقدر قيمتها بين 30 إلى 40 مليار دولار، بحسب وسائل إعلام مقربة من الحكومة التركية.

وقالت الكاتبة هاندي فيرات المقربة من الحكومة في أنقرة، الاثنين، إن إردوغان يعتزم زيارة أبوظبي بعد عيد الأضحى المبارك، وأن هذه الخطوة “ستتوج بالتوقيع على عدة اتفاقيات، وخاصة في مجال الطاقة والصناعات الدفاعية”.

وتحدثت الكاتبة عن “خطوات إماراتية قادمة إلى تركيا” في المرحلة المقبلة، وستشمل الحزمة الأولى من الاستثمارات طويلة الأجل تمويل الطاقة المتجددة والنقل (الموانئ والمطارات والبنية التحتية)، وأعمال إعادة الإعمار في المناطق التي ضربها الزلزال في السادس من فبراير الماضي.

وأشار تقرير الكاتبة في “حرييت” إلى أن قطاعات أخرى ستتبع الحزمة الأولى من الاستثمارات الإماراتية المباشرة، أبرزها صناعات الدفاع، وأنها لن “تكون تدفقات محفظة قصيرة الأجل”.

ومن ميزات الاتفاقيات التي سيتم إبرامها بين تركيا والإمارات، أنها تعد الاستثمار الأكبر والأكثر شمولية الذي يتم إجراؤه من مصدر واحد منذ سنوات طويلة.

و”يبدو أن هذه الاستثمارات التي سيتم إجراؤها في تركيا بعد تجاوز عتبة الثقة، وتلبية الطلب على الطائرات المسيرة من نوع بيرقدار، ستعزز العلاقات بين البلدين”، بحسب تعبير الكاتبة.

“عنوان المرحلة”

وشهدت العلاقات بين أنقرة وأبوظبي توترا بعد مقاطعة السعودية ودول أخرى بينها الإمارات لقطر، أقرب حلفاء أنقرة، واستمر من منتصف عام 2017 حتى أوائل العام 2021.  

لكن العلاقات بين البلدين شهدت تحسنا ملحوظا بعد زيارة الشيخ محمد بن زايد، وكان حينها وليا لعهد أبوظبي، في نوفمبر 2021 وكشف خلالها عن استثمارات بقيمة 10 مليارات دولار في تركيا.  

وتعد تلك الزيارة الأولى لمسؤول إماراتي رفيع إلى تركيا منذ عام 2012. 

وفي فبراير من العام الماضي أجرى الرئيس التركي زيارة إلى الإمارات كانت الأولى له للبلد الخليجي منذ نحو تسع سنوات، بعد عودة الدفء للعلاقات بين القوتين الإقليميتين اللتين وقفتا على النقيض في العديد من ملفات المنطقة.

ومنذ أن بدأت أولى بوادر العلاقة المستجدة بين البلدين كانت لغة الاقتصاد قد طغت على المشهد على نحو أكبر، قياسا بالمسار السياسي الذي ولّد عقبات التوتر في السابق.

ويرى الباحث في الشؤون التركية، محمود علوش أن “تنامي الشراكة الاقتصادية بين أنقرة وأبوظبي يعتبر نتيجة الدفء المتزايد في العلاقات منذ إصلاحها”.

ويقول علوش لموقع “الحرة” إن “إرسال إردوغان فريقه الاقتصادي الجديد إلى الإمارات في أول زيارة خارجية يدل على تعويله على أبوظبي ودول الخليج عموما، لجلب الاستثمارات، والحصول على دعم مالي من أجل مواجهة الاضطرابات الاقتصادية التي تعصف بالبلاد وبالليرة”.

ويضع الفريق الاقتصادي الجديد لإردوغان أزمة التضخم التي تعيشها البلاد على قائمة جدول أعماله في المرحلة المقبلة.

وتعاني تركيا منذ أشهر من ارتفاع معدلات التضخم، وفي الفترة التي أعقبت فوز إردوغان، انخفضت قيمة الليرة التركية إلى مستويات قياسية، وكسرت مع افتتاح الأسواق يوم الاثنين حاجز الـ26 أمام الدولار الأميركي الواحد.

ويوضح علوش أن “الإمارات أصبحت مقرضا رئيسيا للبنوك التركية، وهذا مؤشر على الدور الذي تقوم به في مساعدة القطاع المصرفي التركي على مواجهة الاضطرابات الحالية”.

و”لأن آفاق تحسين العلاقات مع الغرب تبدو قاتمة للغاية، فإن فرص إعادة جذب الاستثمارات الغربية إلى تركيا ضعيفة، ولذلك، يُراهن إردوغان على الاستثمارات الخليجية بالدرجة الأولى”، وفق تعبير علوش.

ويضيف المحلل السياسي الإماراتي، رعد الشلال أن “الإمارات ومنذ تأسيس الاتحاد وحتى الآن لديها سياسة واحدة وجريئة في اتخاذ قراراتها”، وأنه “لا يوجد لديها سياسة تحت الطاولة، بل كل شيء فوق الطاولة”.

ويرى الشلال أن “الاقتصاد عصب كل علاقة دولية. وإذا كانت العلاقات جيدة في هذا المسار سيؤدي الأمر إلى علاقة سياسية جيدة”.

ويضيف أن “نوايا الإمارات سليمة، تستند على تحقيق الاستقرار الاقتصادي، الذي يؤدي إلى استقرار وتفاهمات سياسية كبرى”.

ولذلك يرى الشلال أن “الشراكة الاقتصادية بين أنقرة وأبو ظبي قد تؤدي إلى تفاهمات سياسية، وقد يفضي ذلك إلى شيء أكبر في المستقبل”.

ماذا وراء التحوّل؟

وفي مطلع مارس الماضي، كانت أبوظبي وأنقرة قد وقعتا اتفاق “الشراكة الاقتصادية الشاملة”، وقالت الدولة الخليجية إنه قد يزيد حجم التجارة الثنائية بأكثر من الضعف إلى 40 – 45 مليار دولار، في غضون السنوات الخمس المقبلة.

وأشار إلى ما سبق سفير تركيا في أبوظبي، توغاي طونجر، مطلع يونيو الحالي، بقوله إن حجم التجارة غير النفطية بين تركيا والإمارات بلغ حوالي 19 مليار دولار في 2022، في ظل مساعي البلدين لزيادة المبلغ إلى 40 مليار دولار في غضون 5 سنوات.

وأضاف وزير الاقتصاد الإماراتي، عبد الله بن طوق المري، أن الزيارة التي أجراها الشيخ محمد بن زايد إلى تركيا قبل أسابيع فتحت الباب أمام مرحلة جديدة من العلاقات والشراكة الاستراتيجية الشاملة.

وتابع المري: “بتوقيع اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة بين البلدين، ينتظرنا مستقبل واعد غني بالتجارة والاقتصاد وفرص الاستثمار”.

وينظر الإماراتيون “بأهمية متزايدة لتوطيد العلاقة الجديدة مع تركيا”، بحسب تعبير الباحث علوش. 

ويوضح أن “تركيا ليست مهمة بسبب سوقها الواعد ودورها المهم في حركة التجارة العالمية فحسب، بل أيضا مهمة من الناحية الجيوسياسية ودورها النشط في سياسات الشرق الأوسط وأفريقيا، فضلا عن أهميتها في مجال الصناعات الدفاعية”. 

و”كما استخدم الإماراتيون قوتهم الاقتصادية كمحفز لإصلاح العلاقات مع تركيا، فإنهم يستخدمون الآن هذه القوة من أجل تعميق الشراكة الجيوسياسية الجديدة مع أنقرة في المنطقة”.

ويضيف الباحث: “تُساعدهم في الواقع على الظهور كلاعب إقليمي قوي وفاعل في سياسات المنطقة”.

ويعتبر المحلل السياسي الشلال أن “الإمارات محط ثقة عالمية حتى مع من يعاديها”، ويتصور أن “تركيا يمكن أن تكون علاقتها الاقتصادية والسياسية مع أبوظبي أفضل من حلفائها السابقين”.

ويضيف: “إردوغان يعرف أن الإمارات وقيادتها صادقة ومخلصة في مواقفها وليست متلونة، وأن بعض حلفائه متلونين”.

وكل ما يرد من شراكات وصفقات كبرى بين الإمارات وتركيا “وارد جدا” في الأيام المقبلة.

وبوجهة نظر المحلل رعد الشلال فإن “الرئيس التركي يعي أن ما جعل الإمارات تقبل بالأجواء الصافية هو الهدف طويل الأمد والاستراتيجي البعيد. أي استقرر المنطقة الاقتصادي والسياسي”.

وكان “التحول التركي الإماراتي جزءا من عملية خفض تصعيد إقليمي واسعة النطاق، فرضتها الظروف والحاجة على كل القوى الفاعلة في المنطقة”.

ويتابع الباحث علوش أن “التحولات التي تشهدها المنطقة منذ عامين تُعيد تشكيل النظام الإقليمي”.

وبالنسبة لأبوظبي، فإن العلاقة الجيدة مع تركيا “جزء من وسائل التحوط للتكيّف مع وضع  إقليمي جديد لم تعد فيه الولايات المتحدة لاعبا أساسيا، خصوصا في مجالات الأمن المهمة لمنطقة الخليج”.

ويرى الباحث أنها “شراكة قائمة على المنافع المتبادلة”.

وسبق أن قال وزير التجارة الخارجية الإماراتي، ثاني الزيودي، في تصريحات لوكالة “بلومبيرغ”، مارس الماضي، إن الإمارات “تراهن على تركيا كدولة من شأنها أن تفتح الباب لأسواق جديدة من خلال لوجستياتهم وسلاسل الإمداد”.  

وأكد الوزير أن الإمارات تود الاستفادة من الاستثمارات التركية الضخمة في القطاع الصناعي وعمالتها المحترفة وشبكتها من اللوجستيات، بالأخص مع أفريقيا. 

كما تعمل الحكومة على وضع اللمسات الأخيرة على اتفاقيات تجارية مع الهند وإسرائيل، وفقا للوزير، الذي توقع أن يتم الكشف عن اتفاق مع تركيا خلال الأشهر القادمة.

ووفق “بلومبيرغ” تسعى الدولة الخليجية إلى تثبيت موقعها كمركز دولي في عالم الأعمال والمال، بالأخص مع بروز منافسة من جارتها، السعودية، التي تسعى إلى جذب الأعمال والاستثمارات.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version