طيلة السنوات تعدّدت الدعوات التي أطلقتها إيران بهدف كسب ود مصر وإقامة علاقات طبيعية معها. هذه الدعوات لم تُقابل بحماسٍ كبير من القاهرة التي حافظت على تعامل حذر مع طهران لم تسمح بموجبه للعلاقات بالتطور كثيرًا.

لماذا تفعل القاهرة ذلك؟ ولماذا لا تسعى لتعميق علاقتها بطهران؟ وهل يمكن أن تتغير هذه الأوضاع في ظل الظروف الإقليمية الجديدة التي تعيشها المنطقة؟

دولتا النقيض

بحسب بحث “العلاقات المصرية الإيرانية بعد ثورة 25 يناير” لسارة الديب فإن قضاء ثورة يوليو على الحُكم الملكي كان بداية لخلْق هوة من الخلافات بين البلدين استمرت عشرات السنوات التالية.

“منذ تلك اللحظة تحركت الدولتان في اتجاهات متناقضة”، هكذا بدأ ليئور ستيرنفيلد أستاذ التاريخ الاجتماعي للشرق الأوسط في جامعة ولاية بنسلفانيا لـ”الحرة”، موضحًا أنه في الخمسينيات قادت مصر العالم الثالث نحو “الحياد الإيجابي” بين القوتين العظميين وكانت معارضًا قويًا لأميركا وإسرائيل بعكس إيران التي كانت حليفةً لكليهما.

ويتابع، أنه حينما وقعت الثورة الإسلامية غيّرت إيران جلدها السياسي وأصبحت مركزًا للنشاط المعادي للغرب، بالتزامن مع ذلك عدّلت مصر موقفها أيضًا وعقدت اتفاقية سلام مع إسرائيل وباتت صديقة لأميركا.

بعد اغتيال أنور السادات خلفه نائبه حسني مبارك إلى السُلطة فظلّت العلاقات مُجمدة بين البلدين في ظِل إطلاق اسم خالد الإسلامبولي قاتل السادات على أحد شوارع طهران. “هذا الموقف اعتبره مبارك إشارة سلبية وعدم استعداد للتعاون”، بحسب أحمد سُلطان الباحث في الشؤون الإقليمية والدولية.

عادت العلاقات الدبلوماسية بشكلٍ متواضع بين البلدين بدءًا من أبريل 1991 بعدها شهدت العلاقات الثقافية والتجارية تحسّنًا متناميًا خاصةً في ظل فترة الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي لكن سرعان ما تعكرت هذه الأجواء بعدها بأعوام قليلة حين أعلنت الأجهزة الأمنية المصرية إفشال محاولة إيرانية لتجنيد جاسوس مصري من أجل تنفيذ عمليات تفجير في مصر والسعودية.

وفي حديثه لـ”الحرة” لم يتوقع إسلام منسي الباحث في الشأن الإيراني أن يحدث الكثير من التقارب بين البلدين بسبب اعتقاد بأن هناك “اختلاف بنيوي” في منطلقات السياسة الخارجية للدولتين.

أوضح منسي، أن مصر لا تملك مشروعًا للتوسع الخارجي بعكس إيران؛ فهي تؤمن بحتمية التعامل مع الدول والحفاظ على الحكومات القائمة مهما كانت ضعيفة، بعكس إيران التي لا تتحرّج عن التدخل في شؤون الدول الأخرى بأشكالٍ مختلفة.

“الجيوب الشيعية” في مصر

بحسب سُلطان فإن إيران خلال عهد مبارك دعّمت الحركات الإسلامية التي تبنّت موقفًا معارضًا من النظام المصري مثل جماعة “الإخوان المسلمين” بما فيها الحركات المسلحة مثل “جماعة الجهاد” و”الجماعة الإسلامية المصرية”.

طيلة عهد مبارك ظلّت العلاقة “فاترة” مع إيران بعدما لم يتحمس أبدًا للانفتاح عليها، وبحسب منسي الباحث في الشأن الإيراني فإن هذا الأمر بُحث عدة مرات على أعلى المستويات وفي كل مرة كان النقاش ينتهي إلى إبقاء الوضع على ما هو عليه باعتبار أن أضرار هذه الخطوات أكبر بكثير من نفعها.

في مذكرات آخر وزير خارجية في عهد مبارك أحمد أبو الغيط كشف أن مبارك سبَق وأن أبدى حذره من السماح للإيرانيين بزيارة مصر كسُيّاح بسبب خشيته من “إرسال الآلاف من السياح الشيعة لاختراق المجتمع المصري”.

هذا الأمر أثار قلق الأجهزة الأمنية المصرية التي كانت ترفض دومًا أي دعاوى للانفتاح على طهران في ضوء ما يردها من تحذيرات مخابراتية بأن طهران تهرّب الأسلحة داخل حاويات عبر قناة السويس إلى حزب الله في لبنان.

وبرغم التصريحات المتكررة من قادة إيران بعد ثورة يناير برغبتهم الأكيدة في تعميق صلاتهم بمصر فإن مصر في مايو 2011 ألقت القبض على دبلوماسي إيراني وطردته من البلاد بعدما اتهمته بالتجسس والعمل على الإضرار بمصالح مصر.

سنوات البرود تلك خلقت أجواءً سلبية تجاه إيران ليس فقط في أذهان المسؤولين الحكوميين ولكن في نفس الشعب المصري أيضًا وهو ما تجلّى عند تنفيذ أحد أكثر المحاولات الجدّية للتقريب بين البلدين خلال حُكم الرئيس الراحل محمد مرسي الذي كان أول رئيس مصري يزور إيران منذ الثورة الإسلامية، هذه الخطوات جُوبهت بانتقادات شديدة ليس فقط من مُعارضي مُرسي لكن من بين أنصاره أيضًا.

“موافقة مُرسي على السماح لمئات الآلاف من السياح الإيرانيين بالانتشار بأنحاء مصر حملت بوادر خطورة على الأمن القومي المصري”، كشف منسي تداعيات مثل هذه الخطوات ضاربًا المثل على ذلك بما جرى في حادثة “حسن شحاتة”، وهو مبشر شيعي مصري على صِلة بإيران كان يعيش في إحدى قرى محافظة الجيزة وكان يستهزئ بمقدسات أهل السُنة في خُطبه فاقتحم أهل القرية منزله وقتلوه بصحبة شقيقه ومثّلوا بجثته في الشوارع.

من جانه أكد الباحث في العلاقات الدولية بالشرق الأوسط إدوارد واستنيج خلال حديثه لـ”الحرة” أن اتهام إيران بالتدخل في “الشؤون الطائفية” للدول المجاورة لها أمر قديم، مؤكدًا أن طهران سعت دومًا للتعاون مع التجمّعات الشيعية واستخدامها لصالحها لكنها في المقابل تتميز بالبراغماتية فيما يتعلّق بالعلاقات الإقليمية. وفيما يخصُّ الوضع في مصر أكد واستنيج أن إيران قد تتمتع ببعض النفوذ الديني بين الشيعة المصريين لكنها لا تملك القُدرة ولا الرغبة في لعب دور أكبر من ذلك في الوقت الحالي.

ما بعد 30 يونيو

بعد الإطاحة بمرسي من منصبه عشية المظاهرات الحاشدة التي خرجت ضده في يونيو 2013 بادرت إيران إلى انتقاد هذه الخطوة عبر وزارة الخارجية التي صرّحت بأن “كل ربيع يتبعه صيف حار وشتاء بارد”، ووصفت إزاحة مرسي من منصبه بأنه أمر “غير ملائم”.

“زادت أسباب (عدم الارتياح) بين البلدين في ظل استمرار صِلة إيران بجماعة الإخوان التي صنّفتها القاهرة جماعة إرهابية”، وفقًا لما ذكره منسي.

لاحقًا كشفت تسريبات صحفية أنه في أبريل 2014 عُقد اجتماعٌ في تركيا بين دبلوماسيين إيرانيين وعددٍ من قيادات الجماعة لتبادل الآراء بشأن الأوضاع الجديدة.

بجانب هذا الاجتماع تعدّدت المرات التي سافر فيها وفد من الجماعة إلى طهران للالتقاء بعددٍ من المسؤولين فيها منهم بعض العاملين في مكتب خامنئي تحت مُسمّى التنسيق بين الحركات الإسلامية لكيفية دعم حركة حماس.

كما وفّرت طهران تمويلاً لبعض المؤسسات الإعلامية والبحثية التابعة لجماعة الإخوان، بعضها توقف وبعضها لا يزال مفتوحًا مثل “المعهد المصري للدراسات” الذي ترأّسه عمرو درّاج وزير التخطيط والتعاون الدولي في حكومة هشام قنديل ورئيس المكتب السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، بحسب سُلطان.

ووفق ستيرنفيلد فإن مصر باتت تعتبر أن إيران امتلكت “نفوذًا أكثر مما ينبغي”، ويضيف: “كلا الدولتين تعتبر نفسها قوة إقليمية، كل واحدة تمتلك أجندة وأهداف مختلفة، قد تنجحان في إقامة علاقة عمل محدودة لكنهما لن تتعمقا أكثر من ذلك”.

وبحسب منسي فإن مثل هذه العلاقات لا تعتبرها مصر مرتبطة بها وحدها لكنها مرتبطة بالأمن القومي العربي بأكمله بحُكم نفوذ طهران المتنامي في أكثر من دولة محيطة بها بعضها في ملفات ذات صِلة مباشرة كان لها تدخلات في ملفات تمسُّ بالأمن القومي المصري مثل ليبيا واليمن.

هل يُمكن أن تتحسن العلاقات في المستقبل؟

في حديثه لـ”الحرة”، أكد المتخصص في التاريخ السياسي لدول الشرق الأوسط كامران جيشنيزجاني أنه من “المحتمل جدًا” أن مصر ستنتظر حتى تنتهي الحرب الدائرة حاليًا بالشرق الأوسط حتى تبني سياستها على تقييمات “أكثر حسمًا”، كذلك فإن القاهرة ستضع في حساباتها حجم التقدم الذي سيحدث في مباحثات تحسين العلاقات بين السعودية وإيران وما ستسفر عنه من نتائج.

“التقارب مع السعودية يغيّر المعادلة تمامًا”، هكذا علّق واستنيج على إمكانية حدوث المزيد من التطور في العلاقة بين البلدين، مؤكدًا زيادة فرص توثيق العلاقة في ضوء اهتمام مصر بملفات أكثر سخونة مثل ليبيا والسودان بينما تركز طهران مخاوفها على العراق ولبنان فضلاً عن الحرب في غزة التي جمعت بين الطرفين، أما مصر فهي “لا تُعتبر ضمن المخاوف الأمنية الوطنية” لإيران في الوقت الحالي.

من جانبه أكّد سُلطان أن مصر تضع في حسبانها ألا يؤثر أي تقارب محتمل مع طهران على علاقاتها بدولٍ أخرى حليفة مثل الولايات المتحدة ودول الخليج، مضيفًا أن مصر لم تنخدع بالمصالحة التي جرت بين السعودية ودول الخليج واصفًا إياها بأنها “تقارب مصلحي” لا ينفي التناقضات الموجودة بين سياسات هذه البلاد ولا الطموحات التوسعية الإيرانية وهو أمر لم تتبرأ منه طهران ويثير قلقًا كبيرًا في مصر.

من جانبه توقّع السفير رخا أحمد حسن مساعد وزير الخارجية الأسبق أن الظروف التي تمرُّ بها المنطقة منذ ما جرى في أكتوبر 2023 قد تؤدي إلى دفع العلاقة بين البلدين إلى الأمام أكثر من أي وقتٍ مضى.

وكشف رخا لـ”الحرة”، أن العلاقات بين البلدين تشهد تحسنًا كبيرًا في ظِل حُكم الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، موضحًا أنه رغم عدم رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي بين البلدين إلا أنه أصبح معتادًا أن يرأس العلاقات بين البلدين دبلوماسيون بدرجة سفير، ويعتبر أن الشكل الفعلي للعلاقات يجعلنا نتوقع أن ترتقي لدرجة تبادل السفراء في أي لحظة.

وبحسب رخا فإن كلا الدولتين لا تتبعان البروتوكول المعتاد عند التعاون الدبلوماسي على هذا المستوى، ويوضح “من المفترض أن القائم برعاية المصالح حينما يتوجه لمقابلة أي مسؤول يجب أن يصحبه مُمثِّل الدولة المُشرفة على عمله، وهو ما لا يجري حاليًا فالقائم على رعاية المصالح المصرية يُقابل المسؤولين الإيرانيين وحده”.

ووفق رخا فإن الحرب الدائرة منذ العام الماضي أظهرت أن إسرائيل لا تعترف بأي خطوط حمراء في عملياتها العسكرية ضد الدول العربية بدعمٍ أميركي أضعف من صورتها بالمنطقة وكان من عوامل التقريب بين جميع دول المنطقة، معتبرًا أنه لا يُمكن التحدّث عن أمن منطقة الخليج بدون تفاهمات مع إيران التي تملك قوة لا تُعادلها قوة عربية أخرى في المنطقة.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version