غزة- لعقود طويلة يحافظ اللاجئ الفلسطيني خضر الغول (79 عاما) على اعتلاء سطح منزله المحاذي للسياج الأمني الإسرائيلي في بلدة بيت لاهيا شمال قطاع غزة، ليكحل عينيه بما يتراءى له من بلدته الأصلية “هِربيا” الواقعة خلف السياج، التي أقيمت عليها مستوطنات أشهرها “زيكيم” ضمن ما تعرف بـ “مستوطنات غلاف غزة”.

يشارف الغول على الثمانين من عمره، وكان في عام نكبة فلسطين طفلاً في الرابعة من عمره، غير أن ذاكرته ما تزال حيّة، وتختزن مشاهد كثيرة من رحلة اللجوء القسرية إلى غزة. ويقول للجزيرة نت “ولدت في هربيا بتاريخ 10 أبريل/نيسان 1944، وما زلت أتذكر رحلة الخوف والموت من هربيا إلى غزة.. ولن ننسى حقنا بالعودة إلى ديارنا”.

عام 1948 إبان وقوع النكبة، كان تعداد قرية هربيا أكثر من 2500 نسمة، ومن أكبر عائلاتها “الغول” وقد اضطر سكانها تحت وقع الجرائم التي ارتكبتها العصابات الصهيونية إلى سلوك الطريق الساحلي بمحاذاة البحر وصولاً إلى غزة، أسوة بسكان البلدات والقرى القريبة من القطاع.

خضر الغول يحرص على الصعود لسطح منزله مع أبنائه لإلقاء نظرة على قريته التي هُجّر منها (الجزيرة نت)

“أرض الغول”

تنقّلت عائلة الغول بين مخيمات عدة أقامتها وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) في أنحاء قطاع غزة، قبل أن يستقر بها الحال في مخيم الشاطئ غربي مدينة غزة حتى العام 1977، لينتقل الحاج خضر بأسرته إلى منزل أقامه فيما تعرف حالياً بـ “أرض الغول” التي تعتبر الأقرب جغرافياً إلى “هربيا” والقرى المهجرة وراء السياج الأمني المحيط بالقطاع من الناحيتين الشمالية والشرقية.

أنهى خضر دراسته الأساسية في مدارس “أونروا” قبل أن يعود مدرساً فيها لمادة اللغة العربية بعد حصوله على الشهادة الجامعية من جامعة الإسكندرية في مصر. ثم تزوج وأنجب 7 من الذكور و4 من الإناث ورثوا عنه حب “هربيا” والأمل بالعودة إليها. وقال “توريث حق العودة أهم من ميراث الأموال (..) لن ننسى ولن نغفر الجرائم التي ارتكبتها العصابات الصهيونية بحق أجدادنا الأوائل”.

ويتذكر خضر استشهاد عمّه محمد جابر الغول، الذي كان برفقة والده محمود في صفوف المقاومة إبان النكبة، وقد وثقت شهادات حيًة سيطرتهما على دبابة صهيونية.

ولعائلة الغول بصمات بارزة في سجلات النضال الوطني الفلسطيني، وحسبما يقول خضر “نحن جزء من هذا الشعب، ففي كل بيت فلسطيني شهيد أو جريح أو أسير”.

وعام 2004، اغتالت قوات الاحتلال (شقيق خضر) القيادي البارز في كتائب عز الدين القسام عدنان الغول الذي يعتبر أحد أبرز مهندسي المقاومة الأوائل، وممن ساهموا في تطوير قدراتها العسكرية.

خضر الغول كان عمره 4 سنوات إبان النكبة ولا تزال ذاكرته حية بمشاهدها المؤلمة (الجزيرة نت)

العودة قريبة

ورث خضر الصلابة التي جعلته متمسكاً بالبقاء في منزله في “أرض الغول” على مقربة من قريته الأصلية الممنوعة عنه، وأمله كبير أن يغادره قريباً إلى حيث أرض الآباء والأجداد، التي يطل عليها بين حين وآخر من على سطح منزله، مستمتعاً بالشرح الدقيق لأبنائه وأحفاده عن ذكريات تلازمه ولا تفارقه.

مرات نادرة تلك التي اضطر فيها خضر وأسرته إلى مغادرة منازلهم في “أرض الغول” ويقول “منذ سبعينيات القرن الماضي ونحن نقيم هنا، وأملنا أن نكون أول العائدين إلى فلسطين، ولم نغادر منازلنا إلا مرات معدودة تتحول خلالها هذه المنطقة إلى منطقة أشباح خلال الاعتداءات الإسرائيلية على غزة”.

وحتى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، كان خضر يصطحب أسرته في زيارات إلى “هربيا”. ويقول نجله أيمن (52 عاماً) للجزيرة نت “لم تكن مجرد زيارة للسياحة، وإنما جولة تاريخية، وكان والدي يتعامل مع تلك الزيارات وكأنها عودة مصغرة، تغمره السعادة وهو يشرح لنا ما بقي من معالم البلدة وما اندثر بفعل عبث المحتلين”.

ومن على سطح المنزل، يشير أيمن بيده نحو “هربيا” ويستذكر معلومات ما تزال عالقة في ذاكرته من 5 زيارات رافق بها والده في ثمانينيات القرن الماضي، ويقول “كانت الزراعة مهنة غالبية سكان القرية، فضلاً عن عمل البعض في مهنة صيد الأسماك.. وكان في القرية مسجد واحد ومدرسة وحيدة، و6 سيارات نقل فقط، منها اثنتان ملك عائلتي، وقد استخدمتها في الهجرة إلى غزة”.

أيمن الغول ووالده خضر أكدا على توريث حق العودة للأبناء “كما نورثهم الذهب والأموال” (الجزيرة نت)

توارث حق العودة

استخدمت العصابات الصهيونية “القوة الغاشمة” عبر جرائم يصفها الحاج خضر بالبشعة، دفعت الفلسطينيين إلى هجرة منازلهم وأراضيهم، ولا تزال جرائمها مستمرة، مثلما يحدث في غزة من قصف للمنازل والمصانع والشوارع، غير أن “وعي الفلسطينيين تطور ولن يفلحوا في تهجيرنا مرة أخرى (..) الهجرة القادمة إلى فلسطين وليست خارجها”.

و”ما أخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة” يقول الحاج خضر، الذي يشعر بالفخر لدور شقيقه الشهيد عدنان ومساهمته في صناعة صواريخ وقذائف محلية، تستخدمها المقاومة في قصف المستوطنات المقامة فوق أراضي “هربيا” والقرى الفلسطينية المهجرة التي أقيمت على أنقاضها ما تُعرف حالياً بـ “مستوطنات غلاف غزة”.

ويقول نجله أيمن “لقد ورث أبي العزيمة والإصرار عن جده الحاج جابر الذي توفي عن 113 عاما، وكان لا ينقطع عن الحديث عن هربيا والعودة إليها، وزرع فينا حب الوطن والانتماء إليه، وأصبحنا نتوارثه جيلاً من بعد جيل”.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version