على امتداد السواحل الشمالية لمنطقة تبوك، في المملكة السعودية، توجد مجموعة من المحميات الطبيعية والشواطئ الواقعة على البحر الأحمر، بالإضافة إلى المناطق السياحية التي تم اختيارها لتكون مقر إنشاء أحد أضخم المشاريع ليس في تاريخ المملكة فحسب، بل على مستوى العالم.

في 24 أكتوبر عام 2017، أعلن ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، إطلاق مشروع مدينة نيوم المستقبلي، الذي يندرج في ما تطلق عليه وسائل الإعلام الرسمية، رؤية 2030، وخصص مبلغاً قياسياً، يقدر بنحو نصف ترليون دولار لتنفيذه على عدة مراحل.

مشروع نيوم المزمع إنشاؤه، يعتمد تصميماً فريداً وغير مسبوق، إذ يتضمن عدة مدن، تمتد إحداها، وتدعى “ذي لاين، على شكل خط مستقيم على طول أكثر من 100 ميل، وتوفر السكن المريح والعمل وكافة ظروف الرفاهية لآلاف السكان.

إنشاء المشروع سيراعي الجانب البيئي، باستخدام الطاقات المتجددة للحصول على الطاقة وتحلية المياه، وغياب السيارات، التي ستعوضها وسائل نقل متقدمة مثل القطارات المعلقة، بهدف الوصول إلى التوازن الكربوني، الذي يعني أنه لا توجد انبعاثات لغازات الدفيئة من المدينة، مع اكتفاء ذاتي في الأغذية، توفره مشاريع زراعية متقدمة، تقطع مع الطابع القاحل للمنطقة.

غير أن هذه الأهداف الطموحة لمشروع نيوم، التي تبدو كأنها قادمة من قصص الخيال العلمي، تصطدم ليس فقط بعقبات هندسية وتكنولوجية، بل بطبيعة موقع إنشائها، وخصوصاً الجانب الإنساني الخاص بالسكان المقيمين فيه الذين تم ترحيل عدد كبير منهم بالقوة حسب شهادة الضابط السعودي المنشق رابح العنزي الذي قال إنه كان يعمل في تلك المنطقة.

حديث الخليج | قبيلة الحويطات.. ضحايا التهجير القسري لبناء مدينة نيوم

مشروع مدينة نيوم الطموح، الذي أطلقه ولي العهد السعودي، لا يزال يثير الجدل بشأن تمويله الضخم وجدواه وكذلك موقعه الذي يتطلب تهجير السكان الأصليين المقيمين هناك، وأغلبهم من قبيلة الحويطات.

مدن مشروع نيوم المستقبلية مصممة للحفاظ على البيئة، لكن يوجد جدل حول جدواها وكلفتها الضخمة. (AFP)

لكن الدكتور، عبد الحفيظ محبوب، أستاذ الجغرافيا الاقتصادية والسياسية في جامعة أم القرى سابقاً، يرى في تصريحاته لبرنامج “حديث الخليج” على قناة الحرة أن من حق الدولة انتزاع ملكية الأراضي التي يملكها أفراد من القبائل، لفائدة الصالح العام، وشبّه مشروع نيوم بمشروع أنبوب “كيستون” الذي ينقل النفط من كندا إلى الولايات المتحدة، وتم إنشاؤه رغم احتجاجات عديدة من النشطاء الذين يدافعون عن البيئة، وحقوق السكان الأصليين.

تضارب في الروايات

تقطن قبيلة الحويطات منذ قرون في المنطقة الممتدة بين الأردن ومصر وإسرائيل والمملكة السعودية. وتحتضن هذه الأخيرة 13 قرية للحويطات، تقع كلها في نفس الموقع الذي تم إنشاؤه لتنفيذ المشروع.

العقيد المنشق العنزي، الذي استضافه برنامج “حديث الخليج” على الحرة، والذي عمل في المنطقة كضابط أمن، قال إن السلطات السعودية تقوم باستخدام القوة ضد السكان المحليين من قبيلة الحويطات، أثناء عملية إجلائهم من أراضيهم ومنازلهم، قصد فتح الباب لتنفيذ مشروع نيوم، الذي سيقام على أراضي القبيلة.

ويؤكد العنزي أن الدولة ليست في حالة حرب ضد السكان، لذلك لم يكن مبرراً الاستخدام المفرط للقوة، من قبل السلطات قصد تحقيق إجلاء الأفراد الذين تقع عقاراتهم على الأراضي المخصصة للمشروع.

وأبرز مثال على أحداث العنف التي دارت بين السلطات وأفراد قبيلة الحويطات، أثناء محاولة إجلائهم، كانت بلا شك عملية مقتل عبد الرحيم الحويطي في 13 أبريل 2020، إثر مواجهة مع قوات الأمن، التي تؤكد أن الحويطي أطلق النار عليها، في حين يؤكد نشطاء حقوقيون أنه لم يكن يحمل سلاحاً.

مقتل الحويطي، لفت الأنظار إلى مطالب قبيلة الحويطات، خصوصاً وأنه لقي متابعة كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، بعد نشره شريط فيديو قبيل مقتله على منصة إكس، تويتر سابقاً، قال فيه إنه باقٍ في منزله في انتظار قدوم قوات الأمن، حتى لو كلفه ذلك حياته.

رفض عبد الرحيم الحويطي مغادرة منزله، لم يكن حالة منعزلة حسب العنزي، بل هو جزء من موقف عام لقبيلته، التي رفض بعض نشطائها ترحيلهم من أراضيهم، قصد تنفيذ مشروع نيوم، خصوصاً وأن آلية تقديم التعويضات المقترحة، والمبالغ المرفقة بها، لم تكن واضحة المعالم.

قطع مع الماضي لكن بأسلوب قديم

ممثلو قبيلة الحويطات، دعوا عبر ممثليهم منظمة الأمم المتحدة للتحقيق في محنتهم، واصفين ما تفعله السلطات السعودية، بأنه يرقى إلى إبادة شعب أصلي. ويؤكد الناشط السعودي المقيم في لندن، يحيى عسيري، أن السلطات السعودية لا تريد أن تستوعب أن مراعاة حقوق الإنسان وإشراك أبناء القبيلة “أولى من البنيان”، وأنها لا تزال تعمل بمبادئ من القرون الوسطى، ولا تتجاوب مع أبناء القبيلة.

العسيري، وهو مؤسس منظمة “القسط” وعضو مؤسس في حزب التجمع السعودي، يؤكد أن المشروع كان مفاجئاً لأفراد القبيلة، الذين لم يتم إرضاؤهم، إذ لم يتسلم بعض أفرادها إلا 17 ألف ريال سعودي، في حين كانت التعويضات المعلنة تتجاوز 620 ألف ريال.

التعويضات المالية، التي أثارت الجدل هي الأخرى، والتي يتم تسليمها مقابل مغادرة أفراد القبيلة لمنازلهم وأراضيهم، تأتي في سياق يتعارض مع العرف القبلي، والنظام الذي كان معمولاً به في المملكة سابقاً، الخاص بامتلاك أبناء القبائل للأراضي المتوارثة، حسب العنزي، في إشارة إلى التحول الاجتماعي الذي بدأ في السنوات الأخيرة.

من جهته نفى الدكتور محبوب أن هناك إجماعاً لدى قبيلة الحويطات على رفض مغادرة أراضيهم قصد بناء مشروع نيوم، وأن الأمر يقتصر على عدد محدود منهم، وأن السلطات فتحت الأبواب أمام كبار شيوخ القبائل. وأن الجانب الأكبر من أفراد قبيلة الحويطات، يوجدون في الأردن وإسرائيل، وأن عددهم في السعودية لا يتجاوز 20 ألف شخص يقطن أغلبهم في تبوك. أما الأرقام الرسمية فتشير إلى ترحيل نحو 6 آلاف شخص.

ووسط تصاعد الجدل حول غياب استشارة السكان قبل البدء في تنفيذ المشروع، يصف عسيري رد فعل السلطات بأنه استمرار للنظام السياسي في السعودية، الذي يصفه بأنه نظام “رجل الخيمة”، الذي يأتي له الجميع سواء للتظلم أو إبداء الرأي. لكن ارتفاع عدد السكان بشكل كبير في العقود الأخيرة، جعل ذلك النموذج غير فعال في مواجهة متطلبات المجتمع الحالية وتوجب الآن اعتماد نظام “حضاري” جديد، حسب العسيري.

قوانين قديمة بمصطلحات فضفاضة

يشير العقيد السعودي المنشق، العنزي، إلى المصطلحات الفضفاضة التي يعتمدها القانون السعودي، التي تقدم أي معارضة لقرارات الحكومة على أنها “نشاطات إرهابية”، تتم مواجهتها بالقوة. ويضيف أن قاتل عبد الرحيم الحويطي، هو عسكري ضابط برتبة عقيد، وهو يشعر بالخشية من أعمال انتقامية، في حال حدوث تغيير سياسي، وأن هناك تذمراً في صفوف رجال الأمن من هذا الوضع.

لكن الدكتور محبوب يرى أنه لا يوجد أفق لأي تغيير سياسي، وأن السلطات السعودية تقبل التعددية، ولا تقوم بقمع أفراد القبيلة، رغم كون القانون السعودي يمنع التجمعات والاحتجاجات. ويضيف محبوب بأن المملكة ضحية حملة تضعها دائما “تحت المجهر”، في ما يتعلق بحقوق الإنسان.

لكن الاحتجاجات المتعلقة بأوامر الترحيل لا تقتصر على قبيلة الحويطات، إذ تمت إزالة مبانٍ في مناطق واسعة لصالح مشروع وسط مدينة جدة، وتشير بعض التقارير إلى إجلاء أكثر من مليون شخص، بسبب ذلك المشروع.

ويشير العسيري إلى أن عدداً كبيراً من سكان جدة الفقراء، الذين تم إجلاؤهم طبقاً “لقرارات متسرعة”، مقابل مبالغ زهيدة، ما حولهم إلى “مشردين يسكنون تحت الجسور”، وهو أمر غير مسبوق في جدة.

ويرد الدكتور محبوب على ذلك بالقول إن قرار إجلاء سكان الأحياء الشعبية الفقيرة في جدة، كان الدافع لتفيذها تفاقم ظاهرة الهجرة غير الشرعية، التي تقف وراءها جماعة الحوثي في اليمن، ما جعل تلك المناطق تتحول إلى بؤر توتر أمني، وأن المشروع سيقوم بإعادة إحياء تلك المناطق. ويؤكد الدكتور محبوب أن معيار مبالغ التعويضات التي تم تسليمها، كان يعتمد على مبدأ “التثمين العقاري”، وأن الحكومة بذلت جهدا ضخما في مشاريع الإسكان، منذ 2016.

يتفق عسيري مع الدكتور محبوب حول حقيقة وجود عدد كبير من الأشخاص الذين لا يملكون وثائق إقامة قانونية في الأحياء التي تمت إزالتها، ويضيف أن نسبة هامة منهم تعود أصولهم إلى دولة بورما، كان الملك الراحل فيصل قد قبل دخولهم إلى بلاده.

إلا أن عسيري يستدرك بالقول إنه كان من الأفضل إدخال نظم عصرية بخصوص المهاجرين، عوض العودة إلى نفس القوانين القديمة، التي قد تتعارض أحياناً مع المتطلبات الحديثة. لذلك فإن المشاريع الكبرى التي بدأت بتنفيذها الجكومة السعودية، ورغم كونها تحمل تجديداً عمرانياً وتقنياً، إلا أنه يتم تنفيذها بأسلوب قديم.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version