أصبحت “أسود قصر النيل” حديث العديد من المصريين طيلة الأيام الفائتة عقب نشر صورٍ لها بعد الانتهاء من عمليات صيانة أجريت لها مؤخرا، في هذه الصور ظهرت الأسود لامعة بدرجة غير معتادة بشكلٍ أثار حفيظة البعض واتهموا القائمين على الصيانة بإفساد التماثيل.

تقع مسؤولية العناية بهذه الأسود وباقي التماثيل الكبرى بالقاهرة على عاتق محافظة القاهرة التي تجري عليها عمليات صيانة دورية لحمايتها من التلف، في أغلب الأحيان تُسنِد المحافظة هذه الأعمال إلى وزارة الآثار التي عادة ما تنتهي بهدوء وهو ما لم يحدث هذه المرة.

بجانب موجة الانتقادات التي انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أعربت نقابة التشكيليين عن إدانتها للأخطاء التي شابت أعمال الصيانة، معتبرة أنها أفقدت التماثيل قيمتها الفنية وطمست لونها الأصلي.

سباع الخديوي إسماعيل

في عهد الخديوي اسماعيل أظهر شغفا كبيرا ببناء التماثيل، لذا عهد لكبار نحاتي أوروبا بصُنع عدة تماثيل لأفراد عائلته كجدِّه محمد علي وعمه إبراهيم باشا لإقامتها في ميادين القاهرة. كذلك فإنه عقب الانتهاء من بناء كوبري قصر النيل تقرر تزيين مدخليه بأربع تماثيل برونزية من الأسود نُحتت في إيطاليا على يدي النحات الفرنسي هنري جاكمار، وُضع اثنان عند كل مدخل.

سريعا أصبحت هذه الأسود حديث المصريين حتى أن صاحبها الخديوي اسماعيل اشتهر بلقب “أبو السباع” في إشارة غير مباشرة للتماثيل التي عُرفت قديما بالسباع، حسبما روت ميسون صقر في كتابها “مقهى ريش: عينٌ على مصر”.

بمرور الزمن باتت التماثيل الأربعة من أشهر معالم القاهرة وشاع استخدامها في روايات كبار الأدباء كأيقونة لا خلاف على شُهرتها بين المصريين.

كتب يوسف السباعي في مجموعته القصصية “صور طبق الأصل” على لسان أحد أبطاله “جلسنا أمام الصينية كأننا أسدا قصر النيل والوابور بجوارنا يئزُّ”، فيما سرد أحمد رائف في كتابه “سراديب الشيطان”، قائلاً “سُحب الشاهد إلى غرفة رئيس المحكمة ودار بينهما حوار لا يعرفه أحد، حتى أسدا قصر النيل لم يشهدا هذا اللقاء”.

وفي 2011 أصدر الكاتب زين عبدالهادي روايته “أسود قصر النيل” التي احتفى فيها بثورة يناير وانتقد سنوات حُكم الرئيس الراحل حسني مبارك.

لهذا كان طبيعيا أن يثير أي تغيّر في ملامح التماثيل جدلا كبيرا بين المصريين ويخلق موجات كبيرة من التساؤل حول جودة عملية الصيانة التي تعرضت لها.

“ذقن توت غنخ آمون”؟

“أنا عمري ما شفت تمثال بيلمع كدا في أي حتة في العالم، التمثال مكانش كدا”، بهذه الكلمات بدأ صالح لمعي أستاذ العمارة الإسلامية والترميم والذي أشرف على عمليات ترميم الجامع الأزهر بالقاهرة والمسجد النبوي بالسعودية والمسجد الأقصى بالقدس ومشاريع أخرى في شتى أنحاء الوطن العربي حديثه لموقع “الحرة”.

انتقد لمعي بشدة عملية صيانة التمثال، مؤكدا أنها لم تُراعِ الأصول العلمية المتعارف عليها منذ الخطوة الأولى لها.

ويشير إلى أنه قبل تنفيذ مثل هذه المهمة كان يجب إقامة “صوان” حول التمثال لحمايته من التراب وعوادم السيارات وغيرها من المؤثرات التي تلتصق بسطح التمثال خلال العمل، مضيفا أن “هذا مؤشر أن مَن نفذ عملية الصيانة لا يعرف أصول الترميم جيدا”.

ورفض لمعي فكرة الاطمئنان إلى أن إشراف أساتذة ترميم في كليات الآثار على المشاريع يضمن خلوها من الأخطاء، قائلا “ليس كل أستاذ آثار في الجامعة مبدع، حينما وقعت المشكلة في ذقن توت غنخ آمون، فإن سببها كان شخصا مفترض أنه يمتلك خبرة في عملية الترميم، لكنه استخدم مادة الإيبوكسي للصق ذقنه المكسورة، ما تسبب بمشكلة لم ينجح في حلها إلا خبير ألماني أتى خصيصا من الخارج لعلاجها”.

 

 

ذات الأمر أكده أستاذ الترميم بكلية الآثار جامعة القاهرة سابقا حجاجي إبراهيم الذي كان أحد أوائل الأساتذة الذين درّسوا علوم الترميم في مصر، حين جزم من واقع خبراته بأن كثيرا من القواعد العلمية لم تُراعَ في عملية الصيانة، بعدما استخدم القائمون عليها بعض التقنيات المختلفة وهذا “أمر معيب جدا” على حد وصفه.

وفق حجاجي فإن بعض الأثريين الذين حاولوا تبرير ما جرى للتماثيل يجب أن “يُسجنوا بسبب كلامهم غير العلمي”.

فيما اعترف لمعي بوجود مشكلة ليست بالقليلة في فن الترميم بمصر، مبررا ذلك بأنه “بعض المرممين ليسوا خريجي كلية علوم، ولم يدرسوا الكثير من تركيبات المواد الكيميائية التي يستخدمونها في أعمالهم، كما أن الطلبة عندنا لا يتدربون عمليا خلال الدراسة، فضلا عن أن معامل الترميم في الجامعات لا تملك أجهزة حديثة كافية”.

وأكد إبراهيم في حديثه أن أكبر تجليات هذه المشكلات هي أن بعض المواقع الأثرية تُترك مهملة بسبب العجز عن ترميمها حتى تفسد تماما ويُصبح إصلاحها مستحيلا، موقف يحاول بعض مسؤولي الآثار النجاة منه بعدها عبر شطب الموقع من سجلات الآثار حتى لا يُلاحقوا بتُهم الإهمال مثلما جرى سابقا في “حمام قنا العثماني” على سبيل المثال.

وأضاف أستاذ الترميم أنه مفترض قبل تنفيذ هذه العمليات أن تُؤخذ عينة من “الأوساخ” المتعلقة بالتمثال وتحليل مكوناتها لتحديد أنسب طريقة للتعامل معها، موضحا أن البرونز (المادة التي صُنع منها التمثال) له مواد معينة يجب أن تُستعمل لتنظيفه.

وفي ختام حديثه لـ”الحرة” دعا لمعي إلى العمل على زيادة ثقافة المرممين المصريين وصقل خبراتهم عبر المزيد من التدريبات وحضور المؤتمرات الدولية للاطلاع على آخر المستجدات في هذا المجال.

ماذا جرى في المحاولات السابقة؟

قادت المهندسة شادية أحمد مصطفى مدير عام صيانة وترميم الآثار الإسلامية والقبطية سابقا بوزارة الآثار عملية ترميم ناجحة لتماثيل قصر النيل خلال عاميْ 2006-2007 ثم عملية صيانة لها من عام 2012 إلى 2013.

اعتبرت المهندسة شادية في حديثها لـ”الحرة” أن هذه التماثيل هي تراث حضاري شاهد على الكثير من أزمنة مصر، لذا فإنها سواء كانت مسجلة أو غير مسجلة كأثر فهي رمز قومي مهم، بجانب ذلك فإنها تملك قيمة فنية كبرى لأنها طراز نادر غير مكرر في مصر.

ذكرت المهندسة شادية أنها خلال عملية الترميم التي قامت بها عالجت العديد من المشاكل التي مرّت بها التماثيل جراء عمليات الترميم الخاطئة التي تعرضت لها سابقا وجرّاء عوامل التعرية كالمطر والأتربة والحرارة والعوادم التي أضرت بها على مدار سنوات، كُل هذه المشكلات جرى علاجها بأسلوب علمي وهو ما وصفته مدير عام الآثار بـ”الإنجاز”.

في 2016 قررت محافظة القاهرة إجراء عمليات صيانة لهذه التماثيل فأسندت لإحدى الشركات الخاصة المهمة بينما أوكلت وزارة الآثار إلى المهندسة شادية الإشراف على هذه العمليات.

لم تراع الشركة الأساليب العلمية في عمليات الصيانة واستخدمت “مواد محظورة” أدت لظهور “تأثيرات سلبية” على التماثيل.

نفس الشركة قادت من قبل عملية ترميم سابقة للتماثيل في 1997 استعانت خلالها بأدوات حادة كـ”الصاروخ” و”سكاكين المعجون”، حينها هاجمتها الصحافة واتهمتها بأنها “دمرت” التماثيل.

بعدها بخمس سنوات جرت أعمال صيانة جديدة للتماثيل بواسطة وزارة الآثار هذه المرة، حيث شهدت مشكلات جديدة منها أزمة “اللمعة” المثارة حاليا، لكن وقتها لم يلتفت لها أحد.

في ذلك الوقت نفس الأعمال طالت تمثال الفريق عبدالمنعم رياض بعدما دُهن باللون الأخضر وتمثال الزعيم الوطني سعد زغلول الذي دُهن باللون الأسود.

في حديثها لـ”الحرة” اعتبرت المهندسة شادية جميع هذه الإجراءات أخطاء كبرى وقع فيها المرممون.

وتوضح أن “هذه التماثيل صُنعت من نفس سبيكة البرونز التي صُنعت منها تماثيل الأسود فكان من المفترض ألا تُدهن بالأساس وإنما تُعالج بشكل جيد حتى يزدهر لونها الطبيعي وهو اللون البني”.

لذا دعت مديرة الآثار السابقة إلى ضرورة عدم إسناد مثل هذه المشاريع إلا إلى أفضل الكوادر التي تملك خبرات كبيرة فيها.

وتابع: “إذا منحت هذا المشروع لشخص لم يعمل في تجربة شبيهة من قبل فسيُجرب فيه العديد من الأشياء ويرتكب أخطاء كثيرة، كون الإنسان أخصائي ترميم هذا ليس كافيا، يجب أن يقود عدة مشاريع على أرض الواقع ويحقق فيها نتائج طيبة”.

وبحسب المهندسة شادية فإن أغلب أصحاب الخبرات في مجال الترميم خرجوا من وزارة الآثار على التقاعد، وأن بعض قيادات الصف الثاني الموجودين حاليا يحتاجون إلى المزيد من الخبرة ليكونوا قادرين على قيادة مثل هذه المهام بالكفاءة السابقة.

وتلفت إلى أن مصر لديها مشكلة في أعمال الترميم للمواد التخصصية كالسجاد والمعادن وغيرها، ضاربةً المثل بالنسيج بأنه لا يوجد في مصر شخص بكفاءة الدكتورة داليا عبد العال مدير الترميم في المتحف المصري الكبير حاليا.

واعتبرت أن الحل الأمثل لعلاج هذه الأزمة هو أن إدارة الترميم في وزارة الآثار يجب أن تضم إدارات متخصصة لكل نوع؛ للأخشاب والمعادن والنسيج وغيرها، وهو أمر مُطبّق جزئيا، ولكن على المخطوطات فقط، لذا تُطالب المهندسة شادية بتعميمه على باقي المجالات.

كذلك طالبت مديرة الآثار السابقة بإعادة العمل بنظام الاستشاريين الخارجيين والاستعانة بالخبرات السابقة بنظام التعاقد، وهو نظام توقفت الوزارة عن العمل به مكتفية بما لديها من كوادر، وأن يسبق إعداد أي مشروع وضع خطة لكيفية تنفيذه وعرضها على متخصصين من ذوي الخبرة لإقرارها من عدمه.

أيضا شددت على ضرورة إعداد ملف تقييم بعد انتهاء كل مشروع بجميع تفاصيل العمل يكون متاحا عرضه على أي مهندس سيُقدم على تجربة مشابهة في المستقبل للاستفادة مما فعله السابقون، كذلك يجب أن يُلزم القائمون على كل مشروع جديد بالرجوع إلى الدراسات السابقة عنه والعمليات التي جرت عليه ووضع خطتهم الجديدة على أساسها.

“البارالويد” هي السبب

عارَض الباحث المتخصص في ترميم الآثار وائل جمال هذه الآراء مؤكدا أن عملية الصيانة التي جرت مؤخرا “سليمة 100%”، معتبرا أنها لا تقل جودة عن العمليات التي جرت سابقا.

وأكد أن فريق المرممين الذين عملوا على المشروع اتبعوا جميع الخطوات الصحيحة بعدما استخدموا وسائل بسيطة لتنظيف سطح التماثيل من الأتربة بعدها تبدأ عملية “العزل” للسطح الخارجي. 
وأوضح أن فريق المرممين قام بعمليات التنظيف الميكانيكي ثم تبعوها بعمليات التنظيف الكيميائي ثم استخدموا مادة “البارالويد B72 ” المذاب فى الأسيتون بنسبة بسيطة فى عملية عزل للسطح عن البيئة الخارجية وعوامل التلف المختلفة التي يتواجد بها.

وكشف جمال أن هناك آراء لمتخصصين آخرين في مسألة الشمع تنصح باستعمال الشمع بدلا من البارالويد، لكنه لم يكن سيلائم التماثيل الموضوعة في بيئة مكشوفة تجعلها عُرضة لجذب كميات كبيرة من الغبار والعوادم، كل هذا سيلتصق بالشمع -حال استخدامه- وسيكوّن طبقة إضافية عليه ستخلق عامل تلف جديد للتماثيل.

وبحسب جمال فإن طبقة البارالويد الموضوعة على التمثال كانت سببا في “اللمعة” التي أثارت الجدل خاصة مع عدسات الكاميرات التي أظهرتها بشكلٍ داكن غير حقيقي للتمثال، مؤكدا أنها ستختفي خلال أسابيع وينتهي الأمر.

واعتبر المتخصص في الترميم أن أغلب مَن علّقوا على الموضوع -ومن ضمنهم المتخصصين- لم يشاهدوا التماثيل على الطبيعة وإنما اكتفوا بالصور التي انتشرت عبر السوشيال ميديا، موضحا أنه زار التماثيل بنفسه وشخّص عملية الترميم عن قُرب وتأكد من سلامتها.

وانتقد جمال موقف نقابة التشكيليين من المشروع بدعوى أنهم متخصصين في “النحت” وليس في “الترميم”، وبالتالي لا يملكون خبرة لتقييم هذه العمليات ولا التعليق عليها.

وحينما حاول موقع “الحرة” التواصل مع طارق الكومي نقيب نقابة التشكيليين للرد على هذه الاعتراضات وعدد آخر من الأسئلة فإنه رفض التعليق عليها.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version