منذ أشهر تتوقع مؤسسات عالمية أن يقدم البنك المركزي المصري على تعويم جديد للجنيه، لكن دون أن يحدث ذلك فعليا، رغم استمرار صعود سعر الدولار مقابل الجنيه في السوق الموازية. 

فالدولار بحسب السعر الرسمي الذي حدده البنك المركزي هو 31 جنيها تقريبا، وفي السوق الموازية يباع بحوالي 40 جنيها. 

ورغم أن القرض الذي حصلت عليه القاهرة نهاية 2022 من صندوق النقد الدولي بقيمة ثلاثة مليارات دولار كان مصحوبا بشروط من بينها خصخصة العديد من الشركات العامة والإبقاء على سعر صرف مرن للجنيه المصري حتى يعكس قيمته الحقيقية، فإن الأستاذ المساعد في الجامعة الأميركية، الباحث غير المقيم في مركز “كارنيغي” للشرق الأوسط، عمرو عادلي، يؤكد في حديثه مع موقع “الحرة” أن مصر لا تزال في إطار نظام “تعويم مُدار” لأن البنك المركزي هو من يتخذ قرار تعديل قيمة الجنيه، فضلا عن وجود قيود بالطبع على الاحتياطات الأجنبية والاستيراد”. 

وأقر رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، بالفعل في 17 مايو الماضي، أن الجنيه مقوم بالفعل بأقل من قيمته، آملا في أن زيادة الاستثمارات ستحل أزمة العملة الصعبة وتعيد الجنيه لقيمته الحقيقية. 

مدبولي: الدولة قادرة على سداد التزاماتها وتقليل الفجوة الدولارية

وكان آخر تقرير لغولدمان ساكس، وهي مؤسسة الخدمات الاستثمارية متعددة الجنسيات، يرى أن الجنيه المصري مقوم بنسبة 25 في المئة أقل من قيمته العادلة بسبب التخفيضات المتعددة لقيمة العملة التي نفذتها الحكومة المصرية على مدار العام الماضي.

رحلة انخفاض قيمة الجنيه المصري مقابل الدولار

وأعلن مستثمرون مثل سميح ساويرس، بعدم ضخ مزيد من الاستثمارات بسبب الضبابية التي تحيط بسعر الجنيه مقابل الدولار. 

فما الذي يحدد قيمة الجنيه الحقيقية؟ ولماذا لم تعلن الحكومة المصرية عن تعويم جديد؟ 

يرى الخبير المصرفي، طارق إسماعيل أن قيمة الجنيه العادلة تتحقق عندما يترك سعره حرا بناء على العرض والطلب ولا يكون هناك ضغط لتخفيضه حتى يكون هناك جذب للاستثمارات أو من خلال ضغط شعبي لرفع قيمته لإظهاره بقيمة أكبر من قيمته الحقيقية”. 

لكن عادلي قال، في حديثه مع موقع “الحرة”، إن هناك مدارس اقتصادية عديدة لتحديد القيمة العادلة للعملة”. 

وأوضح أنه “على سبيل المثال، هناك تقييم بناء على حساب معدلات التضخم وسلة عملاء الشركاء التجاريين مع الدولة، والميزان التجاري بينهم، لكن من الناحية الفعلية هذا لا يعكس القيمة الحقيقية لأن هناك عوامل أخرى تؤثر على قيمة العملة أهمها المضاربة على العملة والتي تجعل من الصعب تقييم الجنيه”.  

وأضاف: “لا يتوقف الأمر على العرض والطلب على العملة، وإنما المضاربة عليها والتوقعات المستقبلية لها، فضلا عن سياسة الدولة، والتضخم، والاحتياطي النقدي الأجنبي والتوقعات المستقبلية له، وكمية الاستثمار”. 

وبحسب تقرير لشبكة “سي أن بي سي”، فإن عاملين أساسيين يؤثران في تحديد قيمة الجنيه المصري بشكل كبير، وهما: الميزان التجاري للبلاد (الفرق بين صادرات البلد ووارداته من السلع)، والذي بلغ العجز به نحو 6.4 مليار دولار في الربع الثاني من العام المالي الحالي. بالإضافة إلى صافي الأصول الأجنبية (الفارق بين ما يملكه القطاع المصرفي من أصول بالعملات الأجنبية والالتزامات بالعملات الأجنبية تجاه غير المقيمين)، والتي بلغ العجز فيها نحو 280 مليار جنيه بنهاية فبراير 2023.

وشهد الجنيه المصري ارتفاعا نسبيا أمام الدولار في السوق الموازية خلال الأيام الماضية، إذ انخفض سعر الصرف من حدود 42 إلى حدود 38 جنيها للدولار الواحد. 

ويوضح عادلي أن “ارتفاع وانخفاض قيمة الدولار أمام الجنيه، له علاقة بعدم اليقين لأننا نعيش فترة فيها قيود كبيرة على الاستيراد وبالتالي هناك مشكلة في العرض والطلب، كما أن السعر غير الرسمي متقلب جدا بطبيعة الحال”، مؤكدا في الوقت ذاته أن “الأسعار المحددة في السوق الموازية لا تعكس العرض والطلب بقدر ما تعكس المضاربة على سعر العملة في المدى القصير”. 

ضغوط 

“تقع الحكومة المصرية تحت ضغط كبير لتوفير عملة صعبة لسداد الديون وتوفير مسلزمات المواطنين مثل شراء القمح”، بحسب إسماعيل. 

وفي إطار ذلك، أجلت الحكومة المصرية مدفوعات مشترياتها الكبيرة من القمح لشهور في بعض الحالات في الوقت الذي تعاني فيه من نقص في العملة الصعبة. 

ونقلت وكالة رويترز عن وزير التموين، الشهر الماضي، أن هناك “صعوبة في تأمين الدولار ولا نريد أن نزيد الضغط على البنك المركزي، وبالتالي نعمل على مراحل مع الموردين، ونشكرهم على تفهمهم”، وعزا أسباب نقص العملة الأجنبية إلى التداعيات الاقتصادية للحرب في أوكرانيا وجائحة كورونا. 

وأحدثت حرب أوكرانيا صدمة واسعة للاقتصاد المصري ودفعت المستثمرين إلى سحب مليارات الدولارات. وهوى الجنيه المصري وارتفع معدل التضخم.

وقال إسماعيل: “جزء من المستثمرين يخشى من عدم استقرار الجنيه فيعلنون عدم ضخ مزيد من الاستثمارات أو يهددون بسحب استثماراتهم، وهناك آخرون يضغطون من أجل ترك سعر الصرف هكذا لفترة حتى يحصلون على أكبر قدر من المكاسب عبر شراء شركات في مصر بأقل من قيمتها الحقيقية في ظل احتياج الدولة لعملة صعبة في الوقت الحالي”. 

وذكرت تقارير صحفية محلية، في مارس الماضي، أن شركة الأصباغ الوطنية الإماراتية، ستسدد كامل قيمة صفقة الاستحواذ على شركة البويات والصناعة الكيماوية “باكين”، بالجنيه المصري وليس الدولار، وهو ما أثار تساؤلات حول سبب عدم بيعها بالعملة الأجنبية في ظل شح الدولار. 

يؤكد عدلي أنه لا يعلم تفاصيل هذه الصفقات، ولماذا تم بيعها بالجنيه. وحول ما إذا كان بيع شركات بالجنيه المصري من الممكن أن يرفع قيمته، أجاب عادلي بالنفي “لأن الهدف من بيع أصول الدولة هو الحصول على الدولار حتى تتمكن الحكومة من استيراد مستلزماتها”.  

تعويم قريب؟ 

يستبعد إسماعيل أن تقوم الحكومة بتعويم قريب “لأنهم بالفعل عندما قيموا الجنيه خفضوه لقيمة أقل من قيمته الحقيقية حينها وكانت القيمة مغرية جدا للمستثمرين، والحكومة ترى أنها لو قامت بتعويمه مجددا فإن المشكلة حينها أن الأصول ستقيم بشكل بخس من وجهة نظر الحكومة”. 

ويرى عادلي أن الحكومة المصرية لا تريد أن تقدم على تعويم جديد بسبب التضخم شديد الارتفاع، وأي تخفيض جديد في قيمة الجنيه، فهذا يعني ارتفاع جديد في أسعار السلع والخدمات، وبالتالي، فإن الدولة تأمل في أن تتمكن من إدخال استثمارات أجنبية يمكن أن تساهم في استقرار الجنيه مع تحسين وضع الموازين التجارية الخارجية، لكن في نفس الوقت فإن المستثمرين الأجانب لا يريدون أن يستثمروا أموالا إلا بعد حصول تخفيض آخر لقيمة الجنيه بما يعكس ما يعتبر قيمة عادلة له”. 

وذكر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الشهر الماضي أن التضخم السنوي لأسعار المستهلكين في المدن تباطأ إلى 30.6 بالمئة في أبريل من 32.7 بالمئة في مارس، بينما تراجع التضخم الأساسي إلى 38.6 بالمئة من 39.5 بالمئة.

وبحسب وكالة بلومبيرغ، فإن التوقعات تشير إلى أن البنك المركزي سيؤجل خطوة التعويم المرتقبة إلى ما بعد انتهاء السنة المالية الحالية في يونيو 2023، لاحتواء عجز الميزانية.

ويرى مركز “حلول للسياسات البديلة”، التابع للجامعة الأميركية في القاهرة، أنه “مع استمرار تخفيض قيمة الجنيه المصري على مدار السنوات الأخيرة وارتفاع التضخم، الذي يحاول البنك المركزي أن يكبحه برفع أسعار الفائدة، تنكمش السوق ويزداد العجز الكلي”. 

أزمة الجنيه المصري

وأضاف أن “مصر تلجأ في هذه الحالة إلى تعويض انخفاض النمو وزيادة العجز بالاقتراض، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة فوائد الديون بالدولار وزيادة الطلب عليه، فتنخفض قيمة الجنيه أمامه”. 

يشير المركز إلى أنه “طالما يتم استبدال القروض بقروض وسداد القروض بقروض أخرى، سيستمر انهيار قيمة العملة المحلية، ما يحول دون الخروج من هذه الحلقة المفرغة”. 

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version