تلخص صحيفة بوليتيكو -في تحليل لها- العلاقة المعقدة حاليا بين إيلون ماسك وأوروبا بأن القارة العجوز تمشي على البيض في علاقتها معه، فهي قلقة من دعمه الصريح لليمين المتطرف وإمكانية التأثير في انتخابات ألمانيا وبولندا ورومانيا والتشيك وأيرلندا، وفي الوقت نفسه تخشى من التصدي له لعلاقته بالرئيس الأميركي دونالد ترامب، ولاعتمادها القوي على شركاته في مجالات الاتصالات والذكاء الاصطناعي.
ففي حملة مثيرة بدأها تزامنا مع إعادة انتخاب ترامب نوفمبر/تشرين الثاني 2024، شن ذراع أغنى رجل في العالم -مالك شركتي “سبيس إكس” للاتصالات الفضائية و”تسلا” للسيارات الكهربائية ومنصة إكس- إيلون ماسك حملة هجوم منسق على قادة عدد من الدول الأوروبية، فوصف رئيس وزراء بريطانيا بـ”الحقير” ومستشار ألمانيا بـ”الأحمق” وأعلن دعمه لأحزاب اليمين المتطرف الأوروبي ونيته التبرع بأمواله لحملاتها الانتخابية.
حاول قادة أوروبا في البداية تجاهل استفزازات ماسك، لكن تماديه واتساع دائرة تلك الاستفزازات أخرجهم عن صمتهم، فقد أعلن زعماء الدول الأوروبية الثلاث الكبرى: كير ستارمر من بريطانيا وأولاف شولتس من ألمانيا وإيمانويل ماكرون من فرنسا إدانتهم تدخلات ماسك، ووصفه الأخير بأنه زعيم “حركة رجعية دولية جديدة”.
وفي تصريح للشبكة الأوروبية “أوراكتيف” ضمن تقرير نشرته في التاسع من الشهر الجاري، قال أستاذ العلوم السياسية في جامعة أمستردام كلايس دي فريس إن قلق الزعماء الأوروبيين مبرر، مضيفا أن هذا النوع من التدخل غير مألوف بالنسبة لأوروبا، خصوصا أن ماسك يمزج بين أمرين مؤثرين: فلديه مشروع سياسي ويمتلك واحدة من أكبر شبكات الاتصالات العالمية، وبالتالي فهو يمثل قوة فعّالة، حسب قوله.
وحسب تقرير شبكة أوراكتيف، فقد دعت كتل برلمانية إلى جلسة عاجلة في البرلمان الأوروبي خلال الدورة العامة المقبلة في ستراسبورغ، لمناقشة منشورات ماسك الأخيرة وإذا ما كانت تنتهك قانون الخدمات الرقمية الأوروبي.
وقالت رئيسة المجموعة الليبرالية في البرلمان الأوروبي فاليري هاير إن أوروبا لا يمكن أن تظل عمياء عن إصرار إيلون ماسك على التدخل في الشؤون الديمقراطية للاتحاد الأوروبي.
كما اعتبر رئيس كتلة الاشتراكيين والديمقراطيين غارسيا بيريز أن “الأخطار الجديدة التي تهدد ديمقراطية أوروبا مخاطر قوية، إن لم تكن أكثر قوة من الأسلحة: الأخبار الكاذبة، وخطاب الكراهية، وإساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي”.
توقعات بتأثير ماسك في انتخابات ألمانيا
أورد تقرير في غارديان البريطانية للصحفي ديبورا كول أن الحكومة الألمانية تتهم ماسك بمحاولة التدخل في الحملة الانتخابية للبلاد من خلال التأييد المتكرر لحزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني المتطرف.
جاء ذلك بعدما قام ماسك ببث مشترك مع زعيمة الحزب أليس فايديل، التي كانت من أوائل السياسيين خارج أميركا الذين رحبوا بفوز ترامب في الانتخابات، كما ظهرت مجموعة من قادة حزبها مع ترامب في منتجعه الخاص في مارا لاغو يوم الانتخابات الأميركية الأخيرة، وهم يهتفون بالتأييد له.
وقد أعلن ماسك صراحة خلال البث المشترك مع فايديل دعمه لحزب البديل من أجل ألمانيا، ودعوته للناخبين الألمان لانتخاب مرشحيه في انتخابات فبراير/شباط المقبل، وهو الحزب الذي تصنفه السلطات الألمانية بأنه حزب متطرف.
وفي السياق ذاته، نشر ماسك سيلا من التغريدات على منصته إكس، كما نشر مقالا في صحيفة “فيلت أم سونتاغ” الألمانية الواسعة الانتشار، وزعم في كل ذلك أن ألمانيا تتأرجح على شفا الانهيار الاقتصادي والثقافي، معتبرا أن “حزب البديل من أجل ألمانيا وحده القادر على إنقاذها”.
وفي سعيه إلى نفي التطرف عن حزب البديل، استشهد ماسك بوجود شريكة لرئيسته فايدل من نفس الجنس من سريلانكا، معلقا “هل تبدو هذه لك مثل هتلر؟”.
وحسب تقرير غارديان، فقد أثارت حملة ماسك لحزب البديل غضب مختلف الأطياف السياسية الألمانية خارج اليمين، واتهمته بالتدخل المزعج في أكبر اقتصاد في أوروبا عبر سعيه لتوجيه بوصلة الديمقراطية في ألمانيا.
وأظهرت نتائج استطلاع للرأي في ألمانيا نشرت بعد إعلان ماسك دعمه لحزب البديل تقدمه بنقطتين في الاستطلاعات، إذ حصل على تأييد 21.5% بدلا من 19% في استطلاعات جرت قبل أيام قليلة، وحل في المرتبة الثانية بعد حزب الاتحاد المسيحي الذي حصل على 31%، في حين جاء حزب المستشار أولاف شولتس (الاشتراكي الديمقراطي) في المرتبة الثالثة بنسبة تأييد بلغت 15.5%.
كيف استفز ماسك أوروبا؟
في تقرير للشبكة الإخبارية الأوروبية “أوراكتيف” تحت عنوان “إستراتيجية إيلون ماسك للتأثير على أوروبا”، اعتبر الباحث السياسي نيك أليبور أنه من الواضح أن الملياردير الأميركي يسعى إلى بناء قاعدة قوة سياسية في أوروبا على غرار حملته الناجحة لمساعدة دونالد ترامب على استعادة رئاسة الولايات المتحدة.
وتتمثل إستراتيجية ماسك في التحدث باستفزاز ودفع المرشحين من اليمين المتطرف إلى الإدلاء بتصريحات استفزازية عدوانية، معتمدا بشكل خاص على شهرته وقوته المالية.
وقال أليبور إن القصة بدأت بتغريدة في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 للملياردير ماسك، هذا نصها “واو، ألمانيا تتحمل جزءا كبيرا من تكاليف الاتحاد الأوروبي!”، وكان هدف التغريدة إثارة غضب الشعب الألماني على حاكميه بسبب ما تنفقه بلادهم على غيرهم من الأوروبيين باعتبارها أكبر مساهم مالي في الاتحاد الأوروبي.
وحسب أليبور لم يكتف ماسك بذلك، بل بدأ حملة مكثفة لدعم أحزاب اليمين الأوروبي المتطرف المؤيد لروسيا والمعادي للهجرة في ألمانيا وبريطانيا وكافة أوروبا.
وأعاد الملياردير الأميركي إحياء فضيحة اعتداء جنسي على أطفال بريطانيين قبل 10 سنوات لتشويه سمعة رئيس الوزراء كير ستارمر، الذي كان آنذاك مدعيا عاما لبريطانيا. واعتبر ماسك أنه “يجب على أميركا تحرير شعب بريطانيا من حكومته الاستبدادية”.
وفي إيطاليا، أثار ماسك ضجة عندما هاجم علنا القضاة الذين حكموا ضد خطة رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني لمعالجة طلبات اللجوء في مراكز مغلقة في شمال ألبانيا، وكتب على موقع إكس أنه ينبغي عزلهم، ولم يخف دعمه لرئيسة الوزراء الإيطالية اليمينية جورجيا ميلوني.
ونقل تقرير أوراكتيف عن أستاذ العلوم السياسية بجامعة ترير الألمانية أوفه جون أن حملة ماسك ستترك بصماتها في أوروبا على أي حال، ومن شأنها على الأقل أن تساعد على إضفاء الشرعية على حزب البديل من أجل ألمانيا، وهو هدف سعى الحزب كثيرا لتحقيقه.
كيف التصدي لمن يمسك بأذن ترامب؟
في تقرير لمجلة بوليتيكو بعنوان “ماسك يحول اهتمامه إلى أوروبا”، أورد الصحفي ديريك روبرتسون أن أشهر رجل أعمال في العالم ومستشار الإدارة الأميركية القادمة إيلون ماسك يولي وجهه الآن شطر أوروبا، وهو ما يشكل تحديا فعليا للأوروبيين وقد يتسبب في فوضى.
وتناول روبرتسون الخيارات المتاحة أمام أوروبا للتصدي لتدخلات ماسك، معتبرا أن الأوروبيين قد تكون لديهم الترسانة القانونية الكافية للحد من الجرائم الرقمية ومنع المنصات من السعي للقيام بحملة لصالح أي حزب أو مرشح، لكن منصة إكس ليست مجرد منصة تقنية مارقة، فمالكها الآن يمسك أذن رئيس الولايات المتحدة القادم في وقت يكاد ينخرم فيه التحالف بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة من جهة والولايات المتحدة الأميركية من جهة أخرى.
ويعتبر الصحفي روبرتسون أن علاقة ماسك الوثيقة بترامب تعني أن الدول الأوروبية ستحتاج إلى التعامل بحذر معه، على الرغم من الأدوات التنظيمية المتاحة لها ظاهريا.
وقال مسؤول بريطاني -لم يكشف عن هويته لصحيفة بوليتيكو- إنه “في حين أن ماسك شخصية خطيرة، فإنه ليس من مصلحة أحد أن يكون عدوا له، ولا ينبغي للحكومات إلا أن تسعى لإيجاد صيغة للتعامل معه”.
ونقل التقرير عن أستاذ الذكاء الاصطناعي والسياسة السيبرانية في معهد ميركاتوس ماثيو ميتلستيدت قوله: “إذا أغضب الاتحاد الأوروبي ’الصديق الأول‘ لترامب، فقد يضعف الأوروبيون قدرتهم على الحفاظ على علاقات تجارية إيجابية مع أميركا على مدى السنوات الأربع المقبلة، حيث يهدد ترامب بالفعل بفرض رسوم جمركية باهظة على أوروبا وستكون له سلطة كبيرة على آفاق التجارة المستقبلية، سواء الرقمية أو العادية”.
ووفقا لميتلستيدت، فإن طموحات ماسك التجارية الواسعة النطاق قد تكون مثل سيف ذي حدين بالنسبة لأوروبا، فطموح ماسك الطويل الأمد في جعل إكس “تطبيقا لكل التعاملات: للمدفوعات والاتصالات وغيرها، قد تمنح أوروبا موطئ قدم تنظيميا أكبر، خصوصا بعد أن أدى تكامل منصة إكس مع شركة ماسك للذكاء الاصطناعي إلى خلق مزيد من الفرص يمكن للاتحاد الأوروبي الاستفادة منها”.
أوروبا بحاجة لماسك
وحسب تقرير بوليتيكو، ليس الخوف من عداوة ترامب وحده هو ما يدفع أوروبا للتساهل مع ماسك، بل حاجتها في حقيقة الأمر إلى الخدمات والتقنيات التي توفرها شركاته، لذا تجد أوروبا نفسها في موقف حرج بين السعي لإلزام شركات ماسك بمعاييرها التنظيمية والحرص على عدم إزعاج الوحش.
وليس “الوحش” في هذه الحالة مجرد منصة للتواصل (إكس)، بل يتعلق الأمر بخدمات كبرى في مجال الاتصالات تقدمها شبكة ستارلينك للأقمار الصناعية التابعة للشركة العملاقة المتخصصة في التقنيات الفضائية “سبيس إكس” المملوكة لماسك، التي تعتمد عليها أوكرانيا حاليا في مجال الاتصالات في حربها مع روسيا.
وتبذل أوروبا جهودا كبيرة لتطوير منافس لشركة ستارلينك لتقليل اعتماد القارة على شركة ماسك، لكن الأقمار الصناعية الـ290 التي تخطط أوروبا لإطلاقها ستظل شيئا زهيدا مقارنة بأكثر من 7 آلاف قمر صناعي أطلقتها سبيس إكس منذ عام 2018.
وفي السياق نفسه، انتهى الأمر بفرنسا التي كانت أحد أشد منتقدي ستارلينك في أوروبا إلى اللجوء إلى خدماتها في أعقاب كارثة طبيعية.
فحسب تقرير بوليتيكو، فإن شركة الاتصالات الفرنسية العملاقة أورانج اضطرت إلى اللجوء إلى أقمار ستارلينك الصناعية لتوفير الإنترنت بعد العواصف الساحقة في جزيرة مايوت الشهر الماضي، وبررت الحكومة الإقليمية في مايوت قرار اللجوء لشركة ماسك بأنه استجابة طارئة لنقص الاتصالات في الجزيرة المنكوبة.
أوروبا ليست على قلب رجل واحد
يبدو أن الدول الأوروبية ليست متحدة في التصدي لتدخلات ماسك، بل إن هناك من يحث الخطى لإقامة علاقات أوثق معه، فقد كشفت وكالة بلومبيرغ أن إيطاليا تجري محادثات مع شركة سبيس إكس المملوكة لماكس للحصول على نظام اتصالات آمن بقيمة 1.5 مليار يورو للاستخدام الحكومي، على الرغم من أن إيطاليا شريكة في البرنامج الأوروبي للحد من استخدام الأقمار الصناعية الأجنبية داخل الاتحاد الأوروبي.
وفي السياق ذاته، قامت رئيسة وزرائها جورجيا ميلوني برحلة مفاجئة إلى منتجع الرئيس الأميركي ترامب في مارا لاغو في الخامس من يناير/كانون الثاني الجاري.
وحسب تقرير بوليتيكو، فإن رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، التي يُشار إليها باعتبارها واحدة من “بيادق ترامب” المحتملة في أوروبا، قد اجتمعت مع الرئيس الأميركي لمدة 90 دقيقة في منتجعه في فلوريدا، ونقل عن ترامب أنه وصفها بأنها “امرأة رائعة”.
ويقول التقرير إن محادثات ميلوني وترامب قد تكون تناولت الحرب في أوكرانيا والتعريفات الجمركية الأميركية المحتملة على الشركات الأوروبية وقضايا الشرق الأوسط، لكن اهتمام ميلوني كان منصبا على إيجاد حل سريع لاحتجاز الشرطة الإيرانية للصحفية الإيطالية سيسيليا سالا في طهران في ديسمبر/كانون الأول الماضي.
هل يحذو الأوروبيون حذو البرازيل؟
ويبرز في الأفق -حسب تقرير بوليتيكو- نموذج مريح للأوروبيين الذين يشعرون بالقلق إزاء الاستفزاز السياسي المتزايد لماسك، ففي العام الماضي أمرت المحكمة العليا في البرازيل شركة إكس بحظر مجموعة من المغردين اعتبرتهم مسؤولين عن نشر معلومات كاذبة.
حاول ماسك المراوغة، واصفا رئيس المحكمة العليا في ذلك البلد ألكسندر دي مورايس بأنه “دكتاتور شرير يتنكر في هيئة قاض” ودعا إلى سجنه مثلما فعل مع رئيس الوزراء البريطاني ستارمر، لكن ماسك في نهاية المطاف رضخ لمطالب المحكمة البرازيلية، بفعل خوفه من فقدان الاستفادة من السوق البرازيلية التي تعتبر من أسرع الأسواق الرقمية نموا في العالم.
ورغم أن ماسك هذا العام -بعد وصول صديقه إلى البيت البيض واختياره عضوا في القيادة الأميركية الجديدة- يختلف عن ماسك الذي قهرته المحكمة البرازيلية العام الماضي، فإن محللين يرون أنه في ما يتعلق بالتعامل مع تدخلات ماسك غير المتوقعة والمستفزة في كثير من الأحيان، فإن جزرة الوصول إلى السوق ستظل أكثر فعالية من عصا القوانين الأوروبية.