خلال انتخابات الرئاسة الأميركية عام 2016، شكل فوز دونالد ترامب ضد منافسته، وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون، مفاجأة للكثير من المراقبين، خصوصاً وأنه فاز بأصوات ولايات تعتبر تقليدياً معقلاً للديمقراطيين. 

إلا أن خبراء الانتخابات والحياة السياسية الأميركية يرون أن النتائج التي حصل عليها ترامب تخضع لنمط منسجم مع الخصوصيات المحلية الأميركية. فهل يتكرر ذلك في انتخابات هذه السنة؟

يظن غير العارفين بالشأن الأميركي، أن نتيجة الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقبلة، ستحددها عملية احتساب الأصوات الشعبية الممنوحة لكل من المرشح الجمهوري، الرئيس السابق دونالد ترامب، والمرشحة الديمقراطية، نائبة الرئيس كاملا هاريس، أو المرشحين للكونغرس في مجلسي النواب والشيوخ، لكن العملية الانتخابية ليست بتلك البساطة.

الحسابات المعقدة التي تحدد نتائج الانتخابات في الولايات المتحدة، سواء لانتخاب الرئيس أو أعضاء الكونغرس في مجلسي النواب والشيوخ، تبدأ قبل عملية الاقتراع، وحتى قبل بداية الانتخابات نفسها، إذ ينفرد النظام الانتخابي الأميركي بقواعد غير مألوفة خارج أميركا.

الناخبون يختارون نوابهم أم النواب يختارون ناخبيهم؟

في الولايات المتحدة تنتخب كل ولاية عدداً معيناً من النواب، يتم تحديده بناء على عدد سكان كل ولاية. لذلك فكلما زاد عدد السكان في الولاية، زاد عدد النواب الذين يمثلونها في الكونغرس. وكل نائب يمثل دائرة انتخابية واحدة في الولاية نفسها.

الهدف من ذلك هو أن يتم انتخاب مجموعة من النواب يحملون توجهات متنوعة، يمثلون المواقف السياسية للسكان في كل دائرة انتخابية، لكن كيف يتم تحديد المجال الجغرافي لتلك الدائرة، خصوصاً في ظل تداخل سكاني كبير، ليس من الناحية السياسية فقط، بل كذلك من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والعرقية؟

بالعودة إلى الانتخابات الرئاسية، تزداد أهمية تحديد الدوائر الانتخابية في الولايات التي تعرف بالمتأرجحة، خصوصاً عندما يكون الفارق بين المرشحين ضئيلاً، مثل ما هو الحال في انتخابات هذه السنة، التي تتميز كذلك باستقطاب سياسي ثنائي حاد، بين الجمهوريين والديمقراطيين.

إحدى القواعد غير المألوفة في النظام الانتخابي الأميركي تتمثل في التغيير الدوري لحدود الدوائر الانتخابية، حسب ما تشير إليه نتائج الإحصاء الرسمي للسكان، الذي يتم تنظيمه مرة كل 10 سنوات. لكن هذا التغيير يتم طبقاً لقرار السلطات المحلية لكل ولاية، وليس الحكومة الفدرالية في العاصمة واشنطن.

طبقاً للدستور الأميركي، يتعين على السلطات المحلية في كل ولاية إعادة رسم حدود كل مقاطعة، طبقاً لنتائج الإحصاء الرسمي للسكان. وكل مقاطعة تمثل دائرة انتخابية واحدة، يتم اعتمادها في كل الانتخابات الرئاسية وانتخابات الكونغرس بمجلسيه، وكذلك انتخابات مجلس نواب الولاية.

“السلمندر” الذي حدد نتائج الانتخابات!

لكن بما أن الانتخابات الأميركية تتم وفق نظام فدرالي يعتمد مبدأ اللامركزية، تنفرد كل ولاية بنظامها الخاص، الذي تحدده وتسهر على تطبيقه السلطات المحلية المنتخبة. لذلك توجد طرق مختلفة لإعادة رسم حدود الدوائر الانتخابية. عدد من الولايات تقوم بذلك عبر التصويت في مجالس النواب المحلية. فيما تطبق ولايات أخرى نظاماً هجيناً يعطي الحاكم حق النقض ما يمنحه سلطة أكبر.

منذ تأسيس الولايات المتحدة، تخضع إعادة رسم حدود الدوائر الانتخابية للحسابات السياسية، ولمن يسيطر على مجالس النواب المحلية أو منصب الحاكم. إذ في 1812، استخدم حاكم ماساتشوستس، إلبريدج جيري، نفوذه لتغيير حدود الدوائر الانتخابية، قصد ضمان الفوز في انتخابات مجلس الشيوخ.

طبقاً لنصائح مساعديه، اعتمد جيري خارطة حدود مختلفة عن خارطة المقاطعات التي تعتمد التقسيم الجغرافي لولاية ماساتشوستس، بل شملت تحويراً يضمن وجود تغطية المناطق التي يصوت أغلب سكانها لصالح حزبه في دائرة موحدة، ما يضمن له الفوز بها.

جيري، وهو من الآباء المؤسسين وأحد الموقعين على وثيقة الاستقلال، ارتبط اسمه بممارسة تغيير حدود الدوائر الانتخابية قصد الحصول على مكاسب سياسية. إذ لاحظ أحد العاملين في صحيفة “بوسطن غازيت” أن حدود إحدى الدوائر، التي اعتمدها جيري عام 1812، لا تتبع أي تقسيم جغرافي، بل اتخذت شكلاً يشبه “السلمندر”، فقام بدمج الاسمين، وبذلك وُلد مصطلح “جيريماندرينغ”.

سعي نحو “التمثيل الأفضل” لكل السكان

عقب الحرب الأهلية الأميركية، صادق الكونغرس على 3 تعديلات للدستور، عرفت بمصطلح “تعديلات إعادة البناء”، بين سنتي 1865 و1870. وهي التعديل 13 الذي ألغى العبودية، والتعديل 14 الذي حدد حقوق المواطنين ومساواتهم أمام القانون، والتعديل 15 الذي يمنع أي تمييز بخصوص حق المواطنين في الانتخاب.

يملك الكونغرس سلطة تطبيق التعديل 15، عبر سن القوانين التي تضمن تنفيذه. ومن أبرزها قانون حقوق التصويت، الذي صدر عام 1965، والذي يهدف لأن تضمن خرائط الدوائر الانتخابية تمثيل المواطنين بمختلف توجهاتهم في كل ولاية.

برزت عدة انتقادات لممارسة الفاعلين السياسيين للـ “جيريماندرينغ”، خصوصاً وأن تقسيم الدوائر الانتخابية المتميز بالتجانس السياسي، أجبر نواب كل حزب على التشبث بمواقف سياسية راديكالية للحفاظ على مقاعدهم، عوضاً عن التوصل إلى تسويات توافقية، ما جعل الحياة السياسية الأميركية تعاني من استقطاب ثنائي حاد.

لذلك تعتمد بعض الولايات الأميركية على لجان مستقلة للقيام بتحديد الدوائر الانتخابية. إذ أعطى الدستور سلطة رسم حدود المقاطعات لمجالس النواب المحلية، التي يمكنها تفويض لجان غير متحزبة لتنفيذ ذلك. لكن احتدام الصراع السياسي جعل اللجوء إلى السلطة القضائية أمراً لا مفر منه.

ميشيغان وبنسلفانيا.. مفتاح لمعرفة نتائج الانتخابات؟

المحكمة العليا الأميركية، قضت عام 2019، بأن صلاحية النظر في القضايا المتعلقة بممارسة الجيريماندرينغ، لا تعود للمحاكم الفدرالية، وأن النظر فيها يعود حصرياً للسلطات القضائية في كل ولاية. وهو ما حدث قبل سنة من ذلك في ولاية بنسلفانيا، إذ أصدرت المحكمة العليا في الولاية رأياً قانونياً، يلغي الحدود الإدارية التي رسمت للمقاطعة السابعة في الولاية التي تضم مدينة فيلادلفيا.

المحكمة العليا لولاية بنسلفانيا استندت لكون تلك الحدود، التي رسمها المشرعون الجمهوريون عام 2011، تعطيهم الأفضلية بطريقة مبالغ فيها، عبر إدماج مناطق طائفة الأميش المحافظة التي تبعد 50 ميلاً عن المدينة، واستبعاد مناطق أقرب لها تصوت تقليدياً للديمقراطيين.

واصلت منظمات المجتمع المدني جهودها لتغيير طريقة رسم حدود الدوائر الانتخابية. إذ تقول كاتي فايهي، من منظمة “ذي بيبول”، أنها تسعى لجعل ممارسة الجيريماندرينغ غير مشروعة قانونياً، وقادت حملة ضخمة في ولاية ميشغان، لتغيير القوانين المحلية قصد منع تلك الممارسة.

يكتسي عمل نشطاء مثل كاتي أهمية كبرى في التأثير على نتائج الانتخابات المقبلة. فولاية ميشغان هي من الولايات المتأرجحة، وكان الفارق في أصوات المرشحين للرئاسة ضئيلاً جداً خلال الانتخابات السابقة. كما تتميز ميشيغان بأنها موطن لنحو 300 ألف أميركي من أصل عربي، ما يجعلها الولاية التي لديها أعلى نسبة من العرب الأميركيين. ويجعل أصواتهم حاسمة في تحديد نتائج الانتخابات المقبلة.

تطور الموقف السياسي لولاية ميشيغان قد يكون مثالا يعكس السياسة الأميركية إلى حد بعيد. فهي كانت ضمن ما عُرف بالجدار الأزرق، أي مجموعة الولايات التي تصوت تقليدياً وبصفة منتظمة ومستمرة للحزب الديمقراطي، منذ بداية التسعينات.

لكن ذلك الجدار انهار في انتخابات نوفمبر 2016 على يد دونالد ترامب. إذ صوتت ميشغان حينها لصالح الجمهوريين، وتحولت إلى اللون الأحمر بدل الأزرق. لكن ذلك لم يكن مفاجئاً للخبراء بكواليس السياسة المحلية في الولاية، الذين يرجعون ذلك إلى العمل طويل المدى الذي قام به الجمهوريون خلال السنوات القليلة التي سبقت الانتخابات.

ظاهرة “بالواثر” وتحطيم “الجدار الأزرق”

بدأ عمل الجمهوريين على تحويل ولاية ميشغان إلى معسكرهم، عبر استغلال حالة عدم الرضا التي سادت عقب الأزمة المالية سنة 2008. تركز عمل الجمهوريين على مشروع أطلقوا عليه “الخارطة الحمراء”، وهدفه توظيف سيطرتهم على دوائر معينة للسيطرة على مجلسي النواب والشيوخ للولاية بالإضافة إلى منصب الحاكم، في مرحلة أولى.

ثم انتقل الجمهوريون إلى مرحلة ثانية لاحقاً، تشمل تثمين ذلك النجاح عبر إعادة رسم حدود الدوائر الانتخابية، في سنة 2011، طبقاً للمعطيات الجديدة للإحصاء الرسمي للسكان آنذاك. ما مكنهم من الحصول على الأغلبية النسبية في مقاعد مجلس النواب المحلي، رغم عدم حصولهم على الأغلبية في الأصوات في الاقتراع العام.

وتكرر المشهد لكن بطريقة مغايرة في الانتخابات الرئاسية الموالية، عندما كسر ترامب الجدار الأزرق وفاز بأصوات ولاية ميشيغان في المجمع الانتخابي. لكن الأمر لم يقتصر على الفوز في ولايات تصوت تقليدياً للديمقراطيين، بل كسر كذلك قاعدة “بالواثر”.

وقاعدة “بالواثر” في الانتخابات الأميركية تشير إلى نمط أو مناطق جغرافية محددة تتميز بقدرتها العالية على التنبؤ بنتائج الانتخابات.

قاعدة “بالواثر” كانت حاضرة بقوة في ولاية ميشيغان، في مقاطعات مثل ديترويت وماكومب، التي كانت دائماً نتائج الانتخابات فيها متقاربة مع المعدل الوطني. ما يجعل تتبع استطلاعات الرأي فيها مؤشراً على النتائج المرتقبة خلال الانتخابات.

استمر ذلك إلى حد دخول ترامب سباق الرئاسة، حين تحولت مقاطعات ديمقراطية بأكملها للتصويت له، مثل مقاطعة ماكومب، في حين امتنع عدد كبير من الناخبين من الأميركيين من أصل أفريقي عن التصويت، في مقاطعة ديترويت المجاورة، والتي طالما كانت نتائجها تعطي الأغلبية الساحقة للديمقراطيين.

ثم ما لبث المشهد السياسي أن انقلب في ميشيغان مرة أخرى، خلال الانتخابات النصفية في 2018، ليس بسبب التقسيم الإداري للدوائر الانتخابية، بل للاستقطاب السياسي الحاد، حول عدد من القضايا المثيرة للجدل، مثل الحق في الإجهاض، الذي أثار حملة واسعة للنساء البيض، للتصويت ضد الجمهوريين وزعيمهم ترامب.

لكن عام 2018 شهد حدثاً مفصلياً آخر، تمثل في تصويت الناخبين في ميشيغان لإحداث لجنة مستقلة لإعادة رسم حدود الدوائر الانتخابية، لتباشر عملها طبقاً لنتائج الإحصاء الرسمي للسكان لعام 2020. وكان من اللافت فوز الديمقراطيين الساحق مرة أخرى بالأغلبية في مجلسي النواب والشيوخ للولاية، بالإضافة إلى منصب الحاكم.

نتائج الانتخابات في 2022، لا تعني بقاء ميشيغان زرقاء، أو سيطرة دائمة للديمقراطيين هناك. خصوصاً أن الأحداث في الشرق الأوسط قد ألقت بضلالها على سكان الولاية، خصوصاً من العرب الأميركيين، الذين طالما كانوا ملتزمين بالتصويت للحزب الديمقراطي.

لكن مع بداية الحرب في غزة، سعى عدد منهم إلى دعم حركة تدعو إلى عدم الالتزام بالتصويت للرئيس بايدن عندما أعلن ترشحه للرئاسة، ولم يؤثر انسحابه من السباق لصالح نائبته كامالا هاريس في موقفهم من السياسة الشرق أوسطية للإدارة.

فهل يعني ذلك أن العرب الأميركيين بإمكانهم إحداث تطور درامي في الخارطة السياسية للولاية والولايات المتحدة، مثلما كان الحال للأميركيين البيض العاملين في القطاع الصناعي عام 2016؟ وهل يتم كسر قاعدة “بالواثر” مرة أخرى أم سيكون تصويت مقاطعات بعينها في ميشيغان مؤشراً على نتائج الانتخابات التي ستجري الثلاثاء المقبل؟

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version