برلين- ألقت تهديدات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بسحب الضمانات الأمنية الأميركية للاتحاد الأوروبي بظلالها على العلاقات بين ضفتي الأطلسي، فالبعض يرى أن واشنطن لم تعد العمود الفقري لحلف شمال الأطلسي “الناتو”، الذي ضمن أمن القارة العجوز ودوله الأعضاء لما يقرب من 8 عقود.
وقد ازدادت المخاوف الأوروبية بعد انتقاد ترامب اللاذع للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وتهديده بعدم ضمان الدفاع عن حلفاء الناتو ما لم يدفعوا مقابل تلك الحماية، مما دفع قادة أوروبا إلى التفكير بجدية في مستقبلهم الأمني، خاصة بعد تصريحات وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث الذي قال “لا يمكننا الافتراض أن الوجود الأميركي في أوروبا سيستمر إلى الأبد”.
ويرى بعض الخبراء أن تهديدات ترامب قد تكون مجرد تكتيك سياسي لدفع الأوروبيين إلى زيادة إنفاقهم الدفاعي، لكنهم يحذرون من أن هذه التصريحات يجب أن تؤخذ على محمل الجد، حتى وإن كانت مجرد مناورة.
ويُذكر أن فكرة انسحاب الولايات المتحدة من الناتو طرحها ترامب خلال ولايته الأولى، مما أثار قلقا كبيرا في أوروبا، خاصة مع استمرار هذا التهديد حتى اليوم، ورغم تأكيد الكونغرس أن أي انسحاب من الحلف يتطلب موافقة ثلثي أعضائه، فإن ذلك لم يبدد تماما المخاوف الأوروبية.
مخاوف
يحذر الدكتور هينينغ ريكه، رئيس مركز الكفاءة للرؤية الإستراتيجية الحكومي، أن هذا النهج قد يؤدي إلى إضعاف التأثير الرادع لحلف شمال الأطلسي، مما قد يشجّع على شن هجمات ضد الحلفاء.
وأضاف ريكه، في حديثه للجزيرة نت، أن على الأوروبيين الاستثمار في قدراتهم الدفاعية بشكل أكبر، مشددا على أن هذا لا ينبغي أن يقتصر على شراء الدبابات والطائرات والسفن فقط، بل يجب أن يشمل أيضا تعزيز قدرات القيادة والاستطلاع الإستراتيجية، والدفاع الجوي والصاروخي، والخدمات اللوجيستية البرية والجوية، والذخيرة.
وأكد أن على الأوروبيين التحرك بسرعة لشراء الأسلحة من الأسواق العالمية، والعمل على تطوير صناعات دفاعية أوروبية مستقلة، بعيدا عن المصالح الوطنية الضيقة.
كما دعا ألمانيا إلى توسيع دورها كمركز لوجيستي في أوروبا، مشيرا إلى أن تعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية لن يكون مفيدا لأوروبا فحسب، بل سيسهم أيضا في تقوية “الناتو”، مما قد يدفع الولايات المتحدة إلى البقاء ملتزمة بالحلف وفقا لمصالحها الإستراتيجية.
ويحذر الدكتور ريكه من أن انسحاب القوات الأميركية سيضعف الالتزام الأميركي بحماية أوروبا داخل إطار “الناتو”، موضحا أن وجود القوات الأميركية في أوروبا يمثل عنصرا عمليا للردع والدفاع، كما أنه بمثابة تعهد أميركي صريح بحماية الأمن عبر الأطلسي.
وأضاف أن نشر قوات تابعة لدولة عضو في “الناتو” على أراضي دولة أخرى يبعث برسالة واضحة مفادها أن “أي هجوم على أحد شركاء التحالف سيُعتبر هجوما على الحلف بأكمله”.
القوة ضمان للسلام
أكد وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس أن التهديد المستمر الذي تمثله روسيا يستوجب من الحلفاء تكثيف الجهود لتعزيز قدراتهم الدفاعية، وقال “علينا أن نستثمر بشكل أكبر وأسرع في دفاعاتنا”.
وشدد الوزير الألماني على أن ذلك يتطلب زيادة الإنفاق العسكري، داعيا إلى تحديث نظام كبح الديون في ألمانيا لضمان استثمارات طويلة الأمد في مجال الأمن، كما أشار إلى إمكانية تعديل معايير “ماستريخت”، التي تحد من ديون الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، بحيث يسمح ذلك بزيادة الإنفاق الدفاعي.
وفي ظل تصاعد التهديدات الأمنية، بدأت أوروبا بمناقشة ضرورة إنشاء منظومة ردع نووي مستقلة، وفي هذا السياق، أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في مقابلة صحفية، أنه إذا كانت أوروبا تسعى إلى تحقيق “استقلالية دفاعية أكبر”، فعليها أن تبدأ مناقشة مسألة الردع النووي، وأضاف “أنا مستعد لفتح النقاش إذا كان ذلك سيساعد في بناء قوة عسكرية أوروبية مشتركة”.
أما رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، فقد شدد على ضرورة بناء “تحالف من الدول الراغبة في تعزيز القدرات الدفاعية لأوروبا”، وأشار إلى أن أوروبا يجب أن تستعد لتعويض “أي فشل محتمل للولايات المتحدة” في دعمها ضد تهديدات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
ويرى الدكتور هينينغ ريكه أن فرنسا وبريطانيا تلعبان دورا محوريا في الأمن الأوروبي، إذ إنهما دولتان نوويتان وحليفتان رئيسيتان للناتو، وكانتا من بين أبرز داعمي أوكرانيا منذ بداية الغزو الروسي، وأضاف أن البلدين هما أيضا ضامنان لأمن أوكرانيا بموجب مذكرة بودابست لعام 1994، التي تخلت بموجبها أوكرانيا عن أسلحتها النووية لصالح روسيا مقابل ضمانات أمنية.
ألمانيا والسلاح النووي
أثار العقيد الألماني المتقاعد وعضو البرلمان الألماني عن حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني، هانس-روديغر لوكاسن، جدلا حول مسألة امتلاك ألمانيا الأسلحة النووية، وذكر أن هذه المطالبات ليست جديدة، فقد سبق أن دعا وزير الدفاع الأسبق فرانس جوزيف شتراوس، إلى ضرورة امتلاك ألمانيا قدرات نووية مستقلة.
وقال لوكاسن “الدولة التي تمتلك ترسانتها النووية الخاصة لا تحمي أراضيها فحسب، بل تضمن أيضا سيادتها وأمنها”، وأشار إلى أن تطوير وشراء الأسلحة النووية يجب أن يتم بالتنسيق مع فرنسا وبريطانيا، لكنه أكد في الوقت ذاته أن هذا المسار سيكون مكلفا ومعقدا من الناحية التقنية.
وأضاف متسائلا “ما الثمن الذي يمكن أن ندفعه من أجل تحقيق الاستقلالية الإستراتيجية والسيادة الوطنية؟”، مشددا على أن الأسلحة النووية هي أدوات ردع سياسي، صُممت لتُمتلك دون أن تُستخدم أبدا.
لكن في المقابل، يذكّر الدكتور هينينغ ريكه بأن تخلي ألمانيا عن الأسلحة النووية موثق منذ عام 1954 بموجب معاهدات باريس، كما أكدت ذلك مجددا بانضمامها إلى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية عام 1970، ثم عند إعادة توحيد البلاد عام 1990.
وقد شدد رئيس الاتحاد المسيحي الديمقراطي فريدريش ميرتس على أن هذا الموقف لا لبس فيه، وأن ألمانيا ملتزمة بالبقاء دولة غير نووية.
وفي حين يسعى الأوروبيون إلى تعزيز قدراتهم الدفاعية، تتصاعد التساؤلات حول مدى قدرتهم على تحقيق الاستقلال العسكري دون الدعم الأميركي، ويثير التوتر المتزايد بين أوروبا والولايات المتحدة في ظل تهديدات ترامب مخاوف حقيقية بشأن مستقبل الأمن الأوروبي.