يقولون إن الخاسر في معارك “عض الأصابع” هو مَن يصرخ أولا، وقد كثفت إسرائيل وحزب الله وتيرة عض أصابع كلٍّ منهما للآخر، وإن بدرجات متفاوتة.

وفي مناورته الأخيرة، قرر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في منتصف سبتمبر/أيلول 2024 إضافة هدف جديد لأهداف الحرب التي يطاردها مثل السراب منذ أحد عشر شهرا بحثا عن النصر، وهو “إعادة المستوطنين إلى بيوتهم في الشمال”، وذلك بعد سابقة إخلاء ما لا يقل عن 60 ألف إسرائيلي من المناطق الحدودية مع لبنان خوفا من أن يتكرر معهم ما حدث لسكان مستوطنات غلاف غزة صبيحة طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

اقرأ أيضا

list of 2 items

list 1 of 2

هذه الأسلحة ستكون أشد فتكا من الأسلحة النووية والعالم يتسابق لامتلاكها

list 2 of 2

أجهزة نداء حزب الله هل كانت عبوات ناسفة متحركة؟

end of list

ولتحقيق هذا الهدف، شحذ نتنياهو أسلحته، وفعَّل خططه التي جهَّز لها الموساد منذ سنوات، وباغت الجميع بسلسلة هجمات غير مسبوقة، بدأت في 17 سبتمبر/أيلول بتفجير نحو 3000 جهاز بيجر في وقت متزامن في أجساد عناصر حزب الله وآخرين من المواطنين اللبنانيين كما أعلن حزب الله، سواء في المنازل والشوارع والأسواق وغيرها من الأماكن.

عبر الشاشة التفاعلية.. لماذا يستخدم "البيجر" حتى الآن؟

ولم يكد يستفيق الحزب من الصدمة إلا وتلاها في اليوم التالي تفجير مئات أجهزة اللاسلكي طراز “إيكوم اليابانية” في المئات من عناصر الحزب، لتصل المحصلة إلى نحو 40 قتيلا وثلاثة آلاف مصاب، العديد منهم بإصابات تعجيزية، ضمن هجوم متفرد من حيث طريقة تنفيذه ودمويته وخطورته، وهو ما أقرَّ به حسن نصر الله أمين عام حزب الله قائلا: “لا شك أننا تعرضنا لضربة كبيرة غير مسبوقة على المستويين الأمني والإنساني”.

توجس الكثيرون من أن تلك الهجمات المباغتة تمهد لعملية برية موسعة في الجنوب اللبناني تستغل لحظة الارتباك التي يمر بها الحزب، سواء من جهة القلق من عمق الخرق الأمني أو من جهة ترتيب الصفوف وتعويض هذا العدد الكبير من الضحايا، الذين سقطوا بين قتيل ومصاب في لحظة واحدة ضمن نطاق جغرافي واسع يمتد من لبنان وصولا إلى سوريا.

ولكن جاءت ثالثة الأثافي عبر غارة عنيفة استهدفت مبنى سكنيا في الضاحية الجنوبية ببيروت اجتمع أسفله تحت الأرض قادة عسكريون بالحزب، في لقاء موسع تحول إلى بركة من الدماء والأشلاء مع سقوط نحو 60 قتيلا ومفقودا، فضلا عن عشرات الجرحى.

ليؤكد الحزب أن من بين الضحايا إبراهيم عقيل معاون أمين عام حزب الله لشؤون العمليات، فضلا عن أحمد وهبي مسؤول وحدة التدريب المركزية بالحزب وقائد قوة الرضوان سابقا، ونحو 20 شخصا من مساعديهم ومرافقيهم، في ضربة أمنية لم يتعرض الحزب لمثلها منذ تأسس في عام 1982.

أهداف نتنياهو.. ودعم أميركا

تشير المعلومات المتواترة منذ هجمات البيجر واللاسلكي إلى أن إسرائيل أعدّت العدة لهذه الهجمة منذ سنوات طويلة، قدَّرها مسؤولون لشبكة “إيه بي سي نيوز” الأميركية بـ15 عاما كاملة، اخترقت إسرائيل خلالها سلاسل توريد معدات الاتصال الخاصة بالحزب اللبناني، وهو ما يدفعنا للتساؤل حول “سر التوقيت” أو لماذا اختارت إسرائيل الضغط على “الزر الأحمر” الآن.

في هذا السياق، أشار مئير بن شابات رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي السابق، قبل بدء التصعيد الأخير، إلى ضرورة تفكيك حلقة النار التي أقامتها طهران حول إسرائيل، مما يتطلب تقويض قدرات حزب الله في جنوب لبنان، وإجباره على الانسحاب إلى شمال نهر الليطاني.

بدأ التصعيد مع إعلان جيش الاحتلال نقل مركز ثقل عملياته من غزة إلى الجبهة الشمالية، وهو ما تواكب مع تحريك الفرقة 98 بالجيش من غزة نحو حدود لبنان للتلويح بقرب تنفيذ عملية برية موسعة في الجنوب اللبناني.

وبالتزامن، زادت القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية من وتيرة عض أصابع حزب الله بهدف تغيير معادلات القتال السائدة منذ بدء الحرب، فهي تريد إعادة المستوطنين إلى منازلهم، والتخلص من عار إقامة منطقة أمنية في الشمال للمرة الأولى منذ تأسيس إسرائيل، وتريد فرض كلفة كبيرة على حزب الله تجبره على فك ربطه ملف جبهة لبنان بوقف الحرب في غزة، وذلك لإضعاف موقف المقاومة في غزة وإيجاد أجواء تتيح ممارسة المزيد من الضغوط عليها لقبول صفقة وقف إطلاق نار بشروط إسرائيلية.

ومن جهته، عزز نتنياهو بتلك الهجمات من شعبيته ورصيده في مواجهة أصوات المعارضة التي تتهمه بالتخلي عن سكان الشمال، والتعايش مع هجمات حزب الله.

ولكن رغم تكثيف جيش الاحتلال هجماته على لبنان، فإنه ما زال يعمل ضمن معادلة التصعيد دون الحرب الشاملة، فهو لم يستهدف بعد البنى التحتية المدنية في لبنان، ولم يحاول اغتيال أيٍّ من قادة حزب الله السياسيين والدينيين، وكرَّس هجماته ضد البنى العسكرية والمقاتلين، مما أدى إلى وقوع خسائر في المدنيين ومنشآتهم لكن بالتبعية وليس كمُستهدف أول، ما يعني أن الاحتلال لم يتخذ بعد قرار خوض حرب شاملة على الجبهة الشمالية، على الأقل حتى اللحظة.

غير أن نتنياهو لم يكن ليذهب إلى هذا المدى من التصعيد بدون غطاء الدعم الأميركي. فرغم أن واشنطن تصرح برفضها حدوث حرب في لبنان، وتدعو للتفاوض بين الجانبين، ويكاد مبعوث بايدن إلى لبنان آموس هوكشتاين يقيم بالمنطقة، فما إن يغادرها إلا ويعود لها سريعا كل بضعة أسابيع، فإن الدعم العسكري الأميركي لم ينقطع.

فقبل أيام من التصعيد الإسرائيلي على جبهة لبنان، زار قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال مايكل كوريلا إسرائيل، واجتمع في مقر القيادة الشمالية لجيش الاحتلال في مدينة صفد مع كبار القادة لبحث تجهيزاتهم لتوسيع نطاق القتال في لبنان.

وعقب تفجيرات أجهزة البيجر واللاسلكيات، أعلن البنتاغون أن مجموعة حاملة الطائرات “ترومان” ستُبحر لشرق البحر المتوسط، أي بالقرب من سواحل لبنان. فيما يتواصل سريان الجسر الجوي والبحري الأميركي بالذخائر والأسلحة إلى موانئ إسرائيل ومطاراتها. هذا الدعم المفتوح يُغري نتنياهو بأنه مهما فعل فسيجد واشنطن في ظهره لتُقيله من عثراته، وهو وضع يقود المنطقة نحو الحرب الشاملة التي تدّعي واشنطن أنها لا تريدها.

حزب الله يعاير الرد

في مواجهة تلك الضربات المتتالية والمؤلمة والمفاجئة التي تعرض لها حزب الله، عضّ أمين عام الحزب حسن نصر الله على جراحه، وظهر سريعا في كلمة مصورة بعد التفجيرات المتتالية في لبنان، ليُقِرَّ بخطورة ما حدث، لكنه سعى لإحباط الأهداف السياسية الإسرائيلية الكامنة خلف تلك الهجمات، وعلى رأسها الفصل بين لبنان وغزة.

فشدد على أن جبهة لبنان ستظل مرتبطة بجبهة غزة مهما كانت الخسائر والتضحيات، ثم تحدى نصر الله نتنياهو وغالانت علنا بأنهما لن يستطيعا إعادة السكان إلى بيوتهم في الشمال ما لم تتوقف الحرب مع غزة.

ورغم اغتيال إبراهيم عقيل ورفاقه، والقصف الإسرائيلي المكثف على الجنوب اللبناني لتدمير منصات صواريخ الحزب ومقدراته العسكرية، فإن الحزب نفَّذ صبيحة 22 سبتمبر/أيلول الجاري هجماته الصاروخية الأوسع مدى، حيث بلغت صواريخه تخوم حيفا، كما استخدم طُرزا جديدة من الصواريخ مثل فادي 1 و2، التي يبلغ مدى الأول منها 70 كيلومترا، والثاني 105 كيلومترات.

لكن تصعيد حزب الله لا يزال هو الآخر تحت سقف الحرب الشاملة، فهو لم يستخدم بعد صواريخه الدقيقة طويلة المدى، ولم يقصف تل أبيب، وركزت هجماته على مقرات وقواعد عسكرية، وبالتحديد قاعدة ومطار رامات ديفيد والمجمعات الصناعية التابعة لشركة رفائيل للصناعات العسكرية، ووضع مئات الآلاف من الإسرائيليين تحت النار لإثبات أن عودة السكان إلى الشمال ما زالت بعيدة المنال، بل وأن دائرة المتضررين من القتال ستتسع بعكس مراد نتنياهو وجيشه وحكومته.

لقد أدرك حزب الله أن سياسة ضبط النفس والردود المحدودة على كسر قواعد الاشتباك، مثلما حدث عقب اغتيال الشيخ صالح العاروري في بيروت ثم اغتيال القائد العسكري للحزب فؤاد شكر، شجعت تل أبيب على التمادي، وأيقن أن الخوف من التصعيد نحو الحرب الشاملة يعني فقدان زمام المبادرة، وترك الاحتلال ليحدد وتيرة المعركة وأبعادها.

صورة بالبزة العسكرية لصالح العاروري نائب رئيس المكتب السياسي لحماس الذي اغتاله جيش الاحتلال الإسرائيلي في على الضاحية الجنوبية لبيروت يوم 2 يناير/كانون الثاني. (الصحافة الفلسطينية)

ولكن ما زال الحزب يخشى من اندلاع حرب واسعة تتضرر فيها حاضنته الاجتماعية، وتتعرض فيها البنية التحتية بلبنان للدمار، ويتلقى فيها الحزب ضربات موجعة قد تُغري أطرافا داخلية مناوئة بممارسة مزيد من الضغوط عليه، مما يعني فقدان المكتسبات التي راكمها طوال أربعة عقود.

ماذا ننتظر؟

إن الجنون يُواجَه بالجنون، وقد اختار نتنياهو المُضي في سياسة حافة الهاوية بهدف فرض واقع جديد يضع فيه حزب الله بين المطرقة والسندان، فإما أن يتلقى الحزب الضربات المتتالية المؤلمة لإجباره على تغيير مواقفه لقبول المطالب الإسرائيلية السالف ذكرها، وإما أن يختار التصعيد الذي ربما سيُقابَل بحملة برية إسرائيلية موسعة تصل إلى حدود نهر الليطاني، وربما تصل حسب مطالب بعض الصقور في تل أبيب إلى بيروت مجددا، ليعيد التاريخ نفسه لكن بصورة درامية بعد أربعين سنة من مشاهد رُسمت بالدم في ذاكرة العالم.

لكن على العكس من موقف بعض قيادات جيش الاحتلال العسكريين، وفي مقدمتهم أوري غوردين قائد المنطقة الشمالية، ممن يطالبون بشن عملية عسكرية برية تغير الأوضاع ميدانيا، يحذر العديد من المخططين الإستراتيجيين الإسرائيليين مثل تامير هايمن رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية السابق “أمان” من أن سيناريو العملية البرية سيجلب تحديات وعقبات أكثر من تلك التي سيحلها.

لقد تعرض جيش الاحتلال لإنهاك على مدار قرابة عام من القتال في غزة، وجنود الاحتياط يعانون من فقدان وظائفهم ومن مشكلات أسرية تؤثر على صحتهم النفسية وحياتهم الاجتماعية، فيما الأطراف الإقليمية والدولية غير متحمسة لحرب في لبنان قد تشعل المنطقة.

كما أن الأفكار الداعية لتدشين منطقة عازلة أمنية في الجنوب اللبناني ستُحوِّل الجنوب إلى بؤرة استنزاف عميقة لن تجلب الأمن والاستقرار لا لسكان الشمال ولا لجيش الاحتلال، فضلا عن أن كلفة القتال البري في جنوب لبنان يُتوقَّع أن تكون أكبر من القتال في غزة، نظرا لامتلاك حزب الله أسلحة متطورة غير متوافرة في غزة، ووجود أنفاق وبنية عسكرية تتيح لعناصره شن هجمات دامية ضد جنود الاحتلال.

صواريخ كاتيوشا في عرض عسكري سابق لحزب الله اللبناني (الصحافة اللبنانية)

وأخيرا، إن لبنان ليس محاصرا بريا مثل غزة، فلديه حدود برية متصلة تمتد إلى سوريا والعراق وإيران، ولن تقف طهران على الأرجح متفرجة على أي عملية عسكرية إسرائيلية برية تسعى لتدمير مقدرات حزب الله في الجنوب.

وسترسل طهران مستشاريها العسكريين إلى لبنان مثلما فعلت عقب الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، وستحشد الجماعات الموالية من تخوم أفغانستان وباكستان مثل “زينبيون” و”فاطميون”، وصولا إلى الجماعات العراقية والحوثيين من اليمن لشد أزر حزب الله ومساندته، مما يعني تحول المنطقة إلى قطعة مشتعلة من القتال والهجمات التي قد يصعب السيطرة على وتيرتها وحجمها.

لكن ذلك لا يعني أن الحرب الشاملة خيار مستبعد تماما. إن حكومة نتنياهو الحالية تتصرف وفق منطق مختلف عن الحكومات السابقة في عهود أمثال بن غوريون ورابين وبيريز وباراك، فالشعور بالتهديد الوجودي إثر طوفان الأقصى يجعلها تُمعن في المجازر يمنة ويسرة، ووجود تيار قومي ديني يتبنى أفكار التهجير القسري للفلسطينيين من غزة والضفة، وتغيير الواقع في المسجد الأقصى، ويدعو لشن حرب على إيران لتدمير المنشآت النووية وصولا إلى العمل على تغيير نظام الحكم فيها، يعني أن ديناميكية الأحداث يصعب التحكم أو حتى التنبؤ بها، وأن الأطراف التي تحرص على تجنب الحرب الشاملة مثل واشنطن وطهران قد تجد نفسها أمام أمر واقع يُجبرها على تجرع السم والمُضي فيما لا تريده.

فحزب الله لم يسعَ لقصف تخوم حيفا طيلة عشرة شهور من القتال، لكنه اضطر إلى ذلك في محاولة لكبح جماح الاندفاعة الإسرائيلية، التي يبدو أنها ماضية في طريقها محاولةً دهس أعدائها كافة، وهي مغامرة خطيرة قد تجد إسرائيل نفسها في نهايتها غارقة في دوامة من جبهات الاستنزاف التي تثخن جراحها بدلا من أن تضمدها.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version