بين أروقة المتاحف، حيث ترقد المومياوات بهدوء، تختبئ قصص قديمة لم تُحك بعد عن الحضارة المصرية القديمة، فهذه الجثامين المحنطة، التي صمدت لآلاف السنين، تثير في نفوس الزوار أمنيات بأن تنطق وتفشي أسرار تلك الحضارة العريقة.
لكن ما قد لا يخطر على البال هو أن رائحة تلك الأجساد القديمة قد تكون المفتاح لكشف المزيد حول أحد أهم ابتكارات المصريين القدماء، ألا وهو تقاليد التحنيط، وهذا ما كشفته دراسة جديدة، حيث استخدم الباحثون أدوات علمية مكنتهم من تحديد بصمة روائح المومياوات، مما فتح أمامهم نوافذ جديدة لفهم ممارسات التحنيط المصرية القديمة.
وخلال الدراسة التي أجراها باحثون من جامعة لندن البريطانية وجامعة ليوبليانا بسلوفينيا، وعُرضت مؤخرا في المؤتمر الدولي السابع حول “الكيمياء من أجل التراث الثقافي” بسلوفينيا، في “مجلة الجمعية الكيميائية الأميركية”، حدد الباحثون 3 فئات للروائح المنبعثة من المومياوات المصرية القديمة، وهي “خشبية”، “حارة”، و”حلوة”، مما مكنهم من كشف أسرار جديدة حول الممارسات الجنائزية القديمة وتطور المواد المستخدمة في التحنيط عبر آلاف السنين.
ورائحة المومياوات كانت محط اهتمام كبير بين الخبراء والجمهور على حد سواء، لكن لم يُجر من قبل دراسة علمية تجمع بين التحليل الكيميائي والإدراك الحسي لهذه الروائح، و”هذا هو الملمح المميز في هذه الدراسة التي توثق لاستخدام أدوات جديدة لفهم التحنيط القديم بشكل أعمق”، كما يقول الأستاذ الفخري في التراث المستدام بجامعة لندن البروفيسور ماتيجا سترليتش في تصريحات خاصة لـ”الجزيرة نت”.
منهجية مختلفة.. وأدوات جديدة
وعلى مدى أكثر من 3 آلاف عام، كان التحنيط جزءا رئيسيا من الممارسات الجنائزية المصرية القديمة، حيث يهدف إلى الحفاظ على الجسد لضمان الانتقال الناجح للروح إلى الحياة الآخرة، وقد تضمنت هذه العملية استخدام زيوت، بلسم، شمع، وراتنجات للحفاظ على الأعضاء والجسد، وتطورت تقنياتها بمرور الزمن وفقا للعصور المختلفة والمكانة الاجتماعية للأفراد.
وتُظهر الدراسة الجديدة، التي قامت بتحليل 9 مومياوات مصرية قديمة باستخدام منهجية غير متداخلة، تفاصيل دقيقة حول المواد المستخدمة في التحنيط وكيف تطورت هذه المواد عبر الزمن.
ومن خلال جهاز “كروماتوغرافيا الغاز”، تمكن الباحثون من قياس المركبات الكيميائية المنبعثة من المومياوات وتحديد مصدرها، كما تم استخدام مجموعة من الأشخاص المدربين لاستنشاق الروائح ووصفها بناء على الجودة والكثافة ودرجة الجاذبية.
و”كروماتوغرافيا الغاز”، هي أداة تحليلية تستخدم لفصل وتحديد المواد الكيميائية المتطايرة، وتعتمد على تمرير عينة من الغاز أو المركبات المتطايرة عبر عمود محشو بمادة ثابتة، حيث يتم فصل المكونات بناء على اختلاف درجات ذوبانها أو تفاعلها مع المادة الثابتة، ويُعد هذا الجهاز من الأدوات الحيوية في المختبرات الكيميائية والصناعية.
أما الشم البشري المدرب، فهو منهجية تستخدم لتحديد وتمييز الروائح من قبل أشخاص مدربين تدريبا خاصا لتقييم الروائح بشكل موضوعي ودقيق، حيث يتم تدريب هؤلاء الأفراد على تمييز الروائح المختلفة بناء على معايير معينة مثل الشدة والجودة والمكونات العطرية.
ويُستعان بهؤلاء في صناعة العطور، لتعديل المنتجات العطرية واختبار جودتها، وكذلك لتقييم الروائح والنكهات في المواد الغذائية، وتحليل الروائح المتعلقة بالتلوث البيئي، مثل تحديد مصادر الروائح الكريهة في الهواء أو المياه، وتحديد الروائح التي قد تكون مرتبطة بالأمراض أو الأدوية، وهذا المجال يتطور أيضا للكشف عن الروائح التي قد تدل على مشاكل صحية مثل أمراض الجهاز التنفسي أو الأمراض المزمنة.
![بعثة آثار مصرية تعثر على عشرات المومياوات لقطط وحيوانات أخرى في موقع على حافة هرم سقارة بالقاهرة](https://emiratevoice.com/wp-content/uploads/2025/02/85f0c19d-18dc-4ca3-a02d-5e11d3f2cd6f.jpeg)
مزيج من الماضي والحاضر
وبذلك، أضافت الدراسة الجديدة استخداما خامسا في “علم الآثار”، وهو تحليل الروائح المنبعثة من المومياوات أو الأشياء القديمة. ويوضح سترليتش أنه، بفضل تقنيات التحليل الكيميائي والشم البشري المدرب، تم تصنيف الروائح المنبعثة من المومياوات إلى 4 فئات رئيسية، وهي:
- أولا: المواد الأصلية للتحنيط وما تحلل منها، مثل حمض الخليك (نتيجة ثانوية لعمليات التحلل الطبيعية لبعض المواد النباتية المستخدمة في التحنيط)، والبينين (مركب عضوي ينتمي إلى فئة من المواد الكيميائية المعروفة باسم التربينات التي توجد في أشجار الصنوبر).
- ثانيا: الزيوت النباتية المستخدمة في حفظ المومياوات، مثل الليمونين والقرفة.
- ثالثا: المبيدات الصناعية المستخدمة لاحقا في عمليات الحفظ الحديثة.
- رابعا: الروائح الناتجة عن التحلل الميكروبي، مثل الأوكتانول والهيبتانون.
ويقول سترليتش: “تم اكتشاف أن الروائح تتباين بناء على المكان الذي تُحفظ فيه المومياوات، حيث أظهرت تلك المحفوظة في صناديق العرض في المتاحف روائح أكثر تعقيدا وتنوعا، مقارنة بالمومياوات المخزنة بعيدا عن أعين الجمهور، وفي كلا البيئتين، وُصفت الروائح بكونها خشبية بنسبة 78%، حارة بنسبة 67%، وحلوة بنسبة 56%”.
أما الروائح “الخشبية”، فهي تلك التي تشبه رائحة الخشب الطبيعي أو المواد النباتية التي تأتي من الأشجار والنباتات، في حين أن “الحارة” هي الروائح الناتجة عن استخدام التوابل أو النباتات العطرية، وأخيرا، تشير “الحلوة” إلى الروائح المرتبطة بالزهور والفواكه والعسل والمكونات الحلوة بشكل عام.
وعن كيفية التمييز بين الروائح الطبيعية للمومياوات والمواد المستخدمة لحفظها في المتاحف، يقول: “كان هذا بالفعل تحديا صعبا، حيث تحتوي بعض المواد الحديثة المستخدمة كمبيدات حشرية طبيعية على نفس المركبات الكيميائية التي كانت تُستخدم في مواد التحنيط القديمة، ومع ذلك، نظرا لأنه ليس جميع الجثامين المحنطة تُعامل بانتظام بهذه المبيدات، كان من الممكن التمييز، وساعدنا على ذلك أساليب التحليل الكيميائي المتقدمة للغاية، بالإضافة إلى التحليل الحسي باستخدام فريق شم مدرب”.
إعادة بناء الروائح
وبناء على هذه النتائج، قد تتمكن المتاحف في المستقبل من إنشاء “خرائط روائح” تمنح الزوار تجربة شاملة تنقلهم عبر الزمن إلى مصر القديمة.
ويقول سترليتش: “نحن نعمل حاليا على إعادة بناء الروائح الأصلية للمومياوات، مما سيمكن الزوار من استنشاق الروائح التي رافقت الأجساد المحنطة منذ آلاف السنين”.
وحول ما إذا كانت الروائح يمكن أن توفر معلومات إضافية عن الحالة الصحية أو الوضع الاجتماعي للأفراد المحنطين، يضيف: “نعتقد أنه من الممكن من حيث المبدأ، ولكننا لسنا في هذه المرحلة من البحث بعد، ونظرا لتنوع ممارسات التحنيط وتنوع حالات حفظ الجثامين المحنطة، سنحتاج إلى إجراء المزيد من الأبحاث للإجابة على هذا السؤال بيقين، ولكن بحثنا قد قدم بالفعل إشارة إلى أن هذا قد يكون ممكنا”.
ويبدي سترليتش سعادته بردود الفعل الإيجابية التي تلقاها على البحث، مشيرًا إلى أنه: “تم الاتصال بنا من قبل متاحف أخرى تأمل في إجراء أبحاث مشابهة معنا، ونتمنى أن نتمكن من المشاركة في المستقبل القريب، فقد كانت دراستنا هي الأولى من نوعها على عدد كبير من الجثامين المحنطة في المتحف المصري، ونظرا لأن أسلوبنا التحليلي غير المدمر قد قدم الكثير من المعلومات القيمة، نأمل أن يتم تطبيقه بشكل أوسع في المستقبل”.
4 أسباب لردود الفعل الإيجابية
ويتفق المشرف على معمل الكروماتوغرافي بالمركز القومي للبحوث في مصر، الدكتور محمد إبراهيم، مع ما ذهب إليه سترليتش من أن “الأسلوب التحليلي غير المدمر” هو أحد عناصر القوة الكبيرة في هذا البحث.
وسبق لإبراهيم المشاركة في دراسة نشرت في دورية “نيتشر” أجرت تحليلا لمجموعة من الأواني التي كانت تحتوي على مواد التحنيط، واستطاعوا توصيف بعض الزيوت العطرية وزيوت حيوانية ونباتية وصمغ و”لبان دكر”.
ويقول إبراهيم في تصريحات خاصة لـ “الجزيرة نت”: “لكن المختلف في الدراسة الجديدة أنها لم تقتصر على التوصل إلى مواد جديدة، بل استخدمت تقنية مختلفة تماما، لا تسبب أي ضرر للمادة الأثرية، وهي تحليل الرائحة، مما يمنح الخبراء أدوات جديدة لفهم التحنيط القديم بشكل أعمق”.
ويبدي الكاتب في علم المصريات، بسام الشماع، هو الآخر سعادته بأن الدراسة أثبتت إمكانية إجراء أبحاث على الجثامين المحنطة (وهو الاسم الذي يفضل استخدامه) دون أخذ عينات منها أو تدمير لفائفها، وهو مطلب طالما نادى به في حملات أطلقها خلال الـ10 سنوات الماضية.
ومع ذلك، كان الشماع حريصا في تصريحات خاصة لـ”الجزيرة نت” على التقاط 3 أسباب أخرى تجعله متحمسا لهذه الدراسة، أولها: أنها تثبت كفاءة المحنط المصري، وأنه لم يكن مجرد شخص يعرف خطوات التحنيط، بل كان “كيميائيا” قادرا على استخدام المقادير بعناية، مما جعل الجثامين المحنطة في حالة جيدة سمحت للباحثين باستخراج معلومات من رائحتها.
أما السبب الثاني، فيتمثل في أنها تأكيد على ممارسة المصري القديم للاستيراد، وعلى وجود علاقات تجارية مع شعوب أخرى، حيث كانت بعض مواد التحنيط المنتجة للروائح التي رصدتها الدراسة مستوردة من خارج مصر.
أما السبب الثالث، فهو إثباتها أن الروائح المنبعثة من الجثامين المحنطة 3 أنواع، هي خشبية، حارة، وحلوة، وهي أنواع توجد بالعطور الحديثة، مما يؤكد أن المصريين القدماء سبقوا عصرهم في مجال صناعة العطور.