يعتقد فريق من الباحثين من جامعة “أتينو دي مانيلا” الفلبينية أن الشعوب القديمة في منطقة جنوب شرق آسيا قد بنوا قوارب متطورة وأتقنوا الملاحة البحرية منذ عشرات الآلاف من السنين، وغزوا المحيط قبل آلاف السنين من المستكشف البرتغالي فرناندو ماجلان، وهذا يتحدى الرأي التقليدي القائل إن التقدم التكنولوجي الكبير خلال العصر الحجري القديم كان مقتصراً على أوروبا وأفريقيا.

وبحسب الدراسة، التي نشرت في دورية “جورنال أوف أركيولوجيكال ساينس” أجرى الباحثون تحليلات مجهرية للأدوات الحجرية المستخرجة من مواقع في الفلبين وإندونيسيا وتيمور الشرقية، بعضها يعود تاريخه إلى ما يقرب من 40 ألف عام.

تدقيق علمي

استخدم الباحثون طريقة “تحليل الاستخدام-التلف” لاستنتاج وظائف الأدوات الحجرية المستخرجة، وتتضمن هذه التقنية فحص أسطح وحواف الأدوات تحت تكبير عالٍ لتحديد أنماط التآكل الناتجة عن أنشطة معينة.

وفي هذه الدراسة، تم إيلاء اهتمام خاص للتآكل الذي يشير إلى التعامل مع النباتات، وبشكل خاص عمليات التشقيق والتلميع التي تقترن مع استخراج الألياف، التي تستخدم بدورها في صناعة الحبال والشباك والروابط الأساسية لبناء القوارب وعمليات صيد الأسماك التي تجري في البحر المفتوح.

وتتضمن الأدلة الإضافية من المواقع الأثرية في الفلبين وتيمور الشرقية بقايا أنواع أسماك أعماق البحار مثل التونة وأسماك القرش، مما يشير إلى أن المجتمعات القديمة كانت تشارك في صيد الأسماك بالبحر المفتوح، الأمر الذي يتطلب ليس فقط قوارب قوية ولكن أيضًا معرفة بالبيئات البحرية وأنماط هجرة الأسماك.

وبحسب الدراسة، فقد كشف الباحثون عن وجود أدوات صيد مثل الخطافات وأوزان الشبكة. وما يدعم وجود ممارسات بحرية متقدمة، ظن العلماء من قبل أنها لم تظهر إلا بعد آلاف السنين في أوروبا وأفريقيا.

View of the underwater robot Victor 6000

بحارة مهرة

تشير هذه النتائج التي توصل إليها الباحثون إلى أن الهجرات في تلك المناطق خلال عصور ما قبل التاريخ كانت منفذة بمهارة، ومن المرجح أن البحارة القدماء قاموا ببناء قوارب متطورة باستخدام مواد مركبة مربوطة بحبال نباتية.

كما أن رحلاتهم البحرية لم تكن عبارة عن انجرافات عشوائية على طوافات بسيطة، بل كانت رحلات مخططة من قبل ملاحين مجهزين بالتكنولوجيا اللازمة والمعرفة البيئية لعبور مسافات شاسعة من المحيط.

وقد ركز الباحثون على المواقع الأثرية الساحلية في جميع أنحاء الفلبين وإندونيسيا وتيمور الشرقية، والتي يعود تاريخ بعضها إلى ما يقرب من 40 ألف سنة، وتم اختيار هذه المواقع بناءً على الاكتشافات السابقة للأدوات الحجرية وبقايا الحيوانات التي تشير إلى السكن البشري والأنشطة البحرية.

إعادة بناء الماضي

وللتحقق من صحة التفسيرات التي توصلوا إليها، قام الباحثون ببناء نفس الأدوات الحجرية باستخدام تقنيات النحت التقليدية واستخدموا هذه النسخ في معالجة العديد من النباتات المحلية المعروفة بخصائصها الليفية، ومن خلال مقارنة أنماط التآكل والبقايا على الأدوات التجريبية بتلك الموجودة على العينات الأثرية، أمكن للفريق استنتاج الوظائف الأصلية للأدوات القديمة بشكل أكثر دقة.

كما تضمنت الدراسة بيانات إثنوغرافية من مجتمعات أصلية معاصرة في جزر جنوبي شرق آسيا مازالت تمارس تقنيات بناء القوارب التقليدية ومعالجة النباتات. وقد وفرت ملاحظات هذه المجتمعات رؤى للعلماء حول أنواع النباتات المستخدمة في بناء المركبات المائية والطرق المستخدمة في معالجة هذه المواد.

وإلى جانب ذلك، تعاون الباحثون مع خبراء في الهندسة المعمارية البحرية، بهدف تصميم واختبار نماذج مصغرة للمركبات البحرية المحتملة التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ استنادًا إلى البيانات الأثرية والإثنوغرافية التي تم جمعها.

وقد سمح هذا التعاون بين التخصصات المختلفة بفهم أكثر شمولاً للجوانب التكنولوجية والهندسية للرحلات البحرية المبكرة في المنطقة.

وبناءً على البيانات التي تم جمعها، بدأ الفريق مشروع المركبات البحرية الطويلة المدى بالبحر المفتوح، والذي تضمن بناء واختبار نسخ طبق الأصل من القوارب القديمة باستخدام المواد والتقنيات المستنتجة من الدراسة.

ومن خلال هذه المنهجية المتعددة الأوجه، تقدم الدراسة أدلة عميقة على أن سكان تلك المناطق طوروا تقنيات أكثر تقدما مما ظن العلماء، تعتمد على النباتات، مما مكنهم من بناء سفن مائية متقدمة، وقد سهلت هذه الابتكارات الملاحة الماهرة عبر مسافات محيطية شاسعة، مما يساهم بشكل كبير في فهم العلماء للهجرة البشرية المبكرة والتكيف البحري في جزر جنوب شرق آسيا.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version