شنت الحكومة الأميركية حربا ضروسا ضد “تيك توك” منذ اللحظة الأولى لظهوره في عام 2017، وذلك لأن التطبيق مملوك لشركة “بايت دانس” الصينية، وهي حرب بدأت فصولها الأولى مع ولاية دونالد ترامب السابقة، والآن بعد تأييد قرار “المحكمة الدستورية العليا” يقع الأمر على عاتق ترامب مجددا لإنهاء هذه الحرب أو مدها.

وعلى غرار الحروب العالمية فإن حرب القوانين بين “تيك توك” والحكومة الأميركية قد تسقط العديد من الضحايا، وفي مقدمتهم ملايين الأميركيين الذين اتخذوا من التطبيق مصدرا للدخل ومنصة للتسويق لمشاريعهم الصغيرة في رحلة الوصول إلى النجاح المادي.

ومكّن تطبيق “تيك توك” في السنوات الماضية الملايين من تحقيق آلاف الدولارات شهريا، سواء كصناع محتوى أو أصحاب مشاريع صغيرة، وهو أمر تدركه إدارة “تيك توك” جيدا وتحاول الترويج له، معلنة أن حظر “تيك توك” يضر بالاقتصاد الأميركي، ولكن ما مدى صحة هذا الادعاء؟

أثر منفرد أخطر من الإجمالي

ويحظى تطبيق “تيك توك” بجماهيرية واسعة للغاية داخل الحدود الأميركية رغم سنوات من الدعاية المضادة له، إذ يملك وفق أحدث الإحصائيات أكثر من 170 مليون مستخدم أميركي مع أثر اقتصادي يتجاوز 20 مليار دولار سنويا كما قالت الشركة.

لكن، يصعب تحديد الأثر الاقتصادي المباشر لتطبيق “تيك توك” على الاقتصاد الأميركي بشكل عام، لكن تحديد هذا الأثر على الأفراد أكثر سهولة، وذلك لانتشار الحالات التي تمكنت من تحقيق آلاف الدولارات شهريا عبر التطبيق.

وترى إيلا ليفينغستون -وهي مدرّسة رياضيات سابقا وحاليا مالكة لمشروع “كاكاو أسانتي” الذي يصنع قطعا فنية من الشوكولاتة ويعمل فيه أكثر من 6 أشخاص إلى جانب ليفينغستون نفسها- أن حظر التطبيق يكلفها الكثير، إذ يجعلها تخسر 25 ألف دولار شهريا كانت تحققها من الدعاية والتسويق عبر التطبيق، إذ استطاعت بعد مراجعة إحدى المؤثرات في التطبيق من الوصول إلى هذا الدخل، مما دفعها إلى الاستقالة من وظيفتها النهارية.

جيفت أولواتويي -وهو صانع محتوى ألعاب عبر المنصة- يروي قصة مماثلة لقصة ليفينغستون، إذ استطاع أولواتويي البالغ من العمر 19 ربيعا توليد أكثر من 5 آلاف دولار شهريا من أرباح المنصة، فضلا عن عقود الدعاية المباشرة للشركات.

وربما كانت أزمة أولواتويي وليفينغستون أقل وطأة من تلك التي تحدث مع جيسيكا سيمون التي تملك مع زوجها شركة “مسيسيبي كاندلز”، إذ اضطرت الأخيرة للانتقال إلى مخزن تتخطى مساحته 195 مترا مربعا، لأن 95% من الطلبات التي ترد إلى شركتها تأتي من “تيك توك”، بحسب ما قالته في لقاء مع صحيفة “واشنطن نيوز”، وهو الأمر الذي يعني خسارتها جزءا كبيرا من أعمالها عقب حظر التطبيق.

خسائر مؤسسية أيضا

ربما كانت قصص الخسائر الفردية لصناع المحتوى وأصحاب المشاريع الناشئة بعد حظر “تيك توك” أكثر انتشارا من خسائر المؤسسات والشركات الكبيرة، ولكن هذا لا يعني غيابها أو كونها غير مؤثرة أيضا.

وتملك “تيك توك” أكثر من 7 آلاف موظف يعملون في الولايات المتحدة منذ عام 2023، وعند حظر التطبيق فإن هؤلاء يخسرون وظائفهم بشكل كامل لتحدث موجة تسريح ضخمة توازي موجات التسريح وسط “كوفيد-19″، فضلا عن الشركات الأميركية التي استثمرت في “بايت دانس” وساهمت في رفع تقييمها إلى 300 مليار دولار مؤخرا، إذ تستثمر “بلاك روك” و”جنرال أتلانتيك” و”مجموعة سسكويهانا الدولية” بشكل مكثف في التطبيق.

ورغم أن “بايت دانس” لم تكشف عن أرقام الاستثمار الفعلية في “تيك توك” الأميركي بمفرده فإنه السبب الرئيسي لاستثمار هذه الشركات في “بايت دانس”.

حجم اقتصاد “تيك توك” الأميركي

وفي مارس/آذار الماضي تعاونت إدارة “تيك توك” مع شركة “أكسفورد للاقتصاد” لإصدار تقرير يوضح أثر المنصة على الاقتصاد الأميركي بشكل مباشر.

ووفق هذا التقرير، فإن المنصة تساهم بأكثر من 24.2 مليار دولار سنويا في اقتصاد الولايات المتحدة، وهو رقم يصعب التأكد منه بعيدا عن هذا التقرير.

لكن من المتوقع ألا يكون هذا الرقم بعيدا عن الواقع، وذلك بالنظر إلى مصادر دخل المنصة والآلية التي تشارك بها في الاقتصاد الأميركي، إذ تساهم “تيك توك” عبر أكثر من مسار مختلف، بدءا من المبيعات المباشرة التي تتم من خلال متاجرها التي وصلت إلى 9.7 مليارات دولار في العام الماضي، مرورا بأرباح المشاهدات التي تقدمها للمستخدمين وحتى أرباح الإعلانات المباشرة التي تعرض في المنصة.

وبحسب تقرير المنصة السنوي لأرباح هذه الإعلانات فقط، فقد تخطت 8 مليارات دولار.

كما أن هناك جانبا آخر يجب النظر إليه، وهو الجانب الذي تحدث عنه إريك برينجولفسون رئيس مختبر الاقتصاد الرقمي بجامعة ستانفورد في دراسة مفصلة عن قيمة الترفيه المجاني الذي يقدمه “تيك توك” للمواطن الأميركي.

واعتمدت هذه الدراسة على معيار رئيسي، وهو تكلفة إقناع المواطن الأميركي بالتخلي عن المنصة طواعية والانتقال إلى المنصات الأخرى، وذلك من أجل تقدير تكلفة الترفيه الذي تقدمه المنصة للمستخدمين، إذ حددت الدراسة هذه التكلفة الإجمالية بأكثر من 73 مليار دولار في عام 2023.

سبب قوي لإعادة التطبيق

ما زالت الأسباب وراء عودة منصة “تيك توك” للعمل داخل الولايات المتحدة مجهولة حتى الآن رغم أن المنصة أوضحت أن لعودتها علاقة مباشرة بالرئيس الأميركي المنتخب حديثا دونالد ترامب، إذ يبدو أنه تدخل بشكل قوي ومؤثر من أجل إعادة التطبيق للعمل مجددا.

ومن الصعب تحديد أهداف ترامب من إعادة المنصة إلى العمل، ولكن من الملاحظ أنه في الآونة الأخيرة بدأ يستخدمها بكثافة في حملته الانتخابية، كما أنه قال بكل وضوح إن حفل التنصيب سيبث عبر “تيك توك” وستشارك منه مقاطع على المنصة.

ويدرك ترامب جيدا أثر منصة “تيك توك” الواضح في المجتمع الأميركي وكيف ساهمت في تغيير دخل العديد من الأفراد، فبينما قد لا يتأثر الاقتصاد بأكمله بسبب الحظر إلا أن الأثر سيكون واضحا للغاية على كل من يعتمد على المنصة للتسويق في مشروعه أو توليد الدخل.

يشار إلى أن منصة “تيك توك” في الوقت الحالي تولّد أكثر من 9.7 مليارات دولار سنويا من المبيعات المباشرة عبر خاصية المتاجر المتاحة بها، وذلك دون النظر إلى المبيعات التي تأتي بشكل غير مباشر عبر المتاجر الإلكترونية خارج المنصة أو حالات الإحالة إلى المنصة مباشرة، كما أن البيانات الأخيرة تشير إلى وجود اكثر من 7 ملايين مستخدم تجاري في “تيك توك” الولايات المتحدة.

ماذا يحدث الآن؟

صباح يوم الجمعة 17 يناير/كانون الثاني الجاري أقرت “المحكمة الدستورية العليا” حظر “تيك توك” بشكل ضبابي، إذ أتاحت للتطبيق العمل داخل أميركا لكن مع توقيع غرامات على أي شركة تتعاون معه، بدءا من متاجر الهواتف وحتى الخوادم التي تستخدمها المنصة، وهو الأمر الذي رفضته إدارة “تيك توك” تماما.

وصباح الأحد 19 يناير/كانون الثاني الجاري أوقفت إدارة “تيك توك” التطبيق تماما، مع وضع رسالة واضحة تتهم فيها الحكومة الأميركية بأنها السبب الرئيسي لاختفاء التطبيق وتوقفه عن العمل، ليخسر ملايين الأميركيين مصدر دخلهم الرئيسي.

وبعد ساعات أعادت الإدارة التطبيق للعمل بعد محادثة أجراها دونالد ترامب مع شي جين بينغ الرئيس الصيني والوعد بحل الأزمة والتوصل إلى حل مرضٍ للطرفين، وذلك وفق ما نشره ترامب نفسه عبر منصة “تروث سوشيال” التابعة له وبيان “تيك توك” في منصة “إكس”.

لذا، يمكن القول إن حظر “تيك توك” قد توقف لفترة مؤقتة حتى يتسلم ترامب المكتب البيضاوي، وعلى الأرجح سيقوم حينها بتمديد المهلة الممنوحة للتطبيق لتصل إلى 3 أشهر مقبلة، وبينما يبدو هذا حلا مؤقتا إلا أنه كان كافيا لإدارة “تيك توك” حتى تعيد التطبيق للعمل.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version