مقدمة للترجمة

يحاول علماء الآثار والأنثروبولوجيا حل لغز طالما أرق كثيرًا منهم، يتعلق بحضارة تريبيليا التي نشأت قبل أكثر من ستة آلاف سنة شرقي أوروبا، لكنها فنيت فجأةً، ولم تترك وراءها أيّ آثار بشرية يمكن دراسة حمضها النووي. في هذه المادة المترجمة من نيوساينتست، يحاول فريق من العلماء معرفة أسباب فناء تلك الحضارة الصغيرة، وخلالها نتعلم بعضا من أساليب تفكير علماء الآثار والأنثروبولوجيا المعاصرين.

 

نص الترجمة

قبل حوالي 6200 عام تقريبًا، قرر المزارعون الذين يعيشون في ضواحي شرق أوروبا -المعروفة الآن بأوكرانيا- القيام بأمرٍ عصي على التفسير. إذ خلَّف هؤلاء وراءهم قراهم التي بنوها في العصر الحجري الحديث نازحين إلى الغابات والسهوب ذات الكثافة السكانية المنخفضة. وهناك في تلك المنطقة التي يُقارب حجمها حجم بلجيكا تقريبًا وتقع بين مدينتي كييف وأوديسا اليوم، تجمّعوا في مستوطنات جديدة زاد حجمها على حجم مستوطناتهم القديمة بـ20 ضعفًا.

تعود هذه الثقافة الغامضة، المعروفة باسم “كوكوتيني-تريبيليا”، إلى زمن يسبق أقدم المدن المعروفة في بلاد ما بين النهرين (ميزوبوتاميا). استمرتْ هذه الحضارة المشوبة بالغموض مدة 800 عام، لكنها انهارت فيما بعد بطريقة غامضة بقدر الغموض الذي بدأت به. والغريب أن أصحاب هذه الحضارة لم يتركوا وراءهم سوى القليل جدًّا من الأدلة المادية على وجودهم في المنطقة، كما لم يعثر الباحثون على أي بقايا بشرية يمكن أن يعوّل عليها. وتعليقًا على ذلك، يقول أليكسي نيكيتين، عالم الحفريات القديمة بجامعة جراند فالي ستيت بولاية ميتشيغان الأمريكية: “لم يتركوا وراءهم خنصرًا واحدًا ولا سِنًّا يمكن أن نهتدي بهما”ً.

أثار هذا النقص المحيّر في الأدلة جدلًا واسعًا بين العلماء حول ما يُسميه نيكيتين “عصور الظلام” لحقبة ما قبل التاريخ الأوروبي. وعن ذلك يقول: “تخيَّل أنك إذا تحدثت إلى خمسة علماء آثار متخصصين في ثقافة تريبيليا، ستتلقى منهم خمسة آراء مختلفة!”. ورغم ذلك، لم يقلل نقص البيانات حول هذه الحضارة الغامضة من اهتمام الباحثين بها، بل على النقيض من ذلك.

ففي السنوات الأخيرة، بذلت مشاريع بحثية جهودًا لتكوين فكرة عما كانت عليه “المدن الأولية” لثقافة تريبيليا. فعلى الرغم من تغلغل خلافات مستعصية بين العلماء حول تفسير هذه الحضارة، فإن ما يتبدى الآن هو صورة لمحاولة مبكرة وفريدة من نوعها للتحضر. ومن يعلم؟ فقد تكون هذه المحاولة مفتاحًا لفهم كيف تطورت أوروبا الحديثة من العصر الحجري، وقد تساهم أيضا في تسليط الضوء على بزوغ الحضارة البشرية عامّةً.

تعتبر أوروك وتل براك، اللتان نشأتا في بلاد ما بين النهرين في أوائل الألفية الرابعة قبل الميلاد، أول مدينتين في العالم. وتشير الحفريات في هاتين المدينتين إلى زيادة في الكثافة السكانية وتأسيس نظام اجتماعي هرمي جديد، وهما سمتان تعتبران جزءًا أساسيًّا من تعريف المدينة. وقد تطلب نمو عدد السكان أن يجتمع الغرباء معًا في مساحة مشتركة ومحاولة التعايش في ظل ما جادت به الحياة بمذاقاتٍ جديدة. وتأكيدًا على ذلك، تقول مونيكا سميث، عالمة الأنثروبولوجيا بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، ومؤلفة كتاب “المدن: أول 6000 عام”: “أعتقد أن هذه الفترة كانت العتبة النفسية الحقيقية للتمدّن. لكن المشكلة أن مستوطنات تريبيليا العملاقة لا تستوفي هذين المعيارين، لذا يبقى السؤال الأهم هنا: إن لم تستوفِ هذه الحضارة الشروط الكافية فكيف سيتسنى لنا فهمها؟”.

اهتدى علماء الآثار الأوكرانيون إلى المدن الضخمة لهذه الحضارة منذ أكثر من قرن من الزمان، ومع ذلك لم تبدأ عمليات التنقيب الممنهجة إلا بعد الحرب العالمية الثانية، كما لم تحظَ هذه المستوطنات بالاهتمام الدولي إلا في العقد الماضي. لكن اليوم، ومن بين عدة آلاف من المستوطنات التريبيليانية المعروفة، توجد نحو 15 مستوطنة “موغلة في الضخامة” باعتبار أنها تمتد على أكثر من كيلومتر مربع، وأكبرها تالجانكي التي يزيد حجمها على ثلاثة أضعاف هذا الحجم؛ مما يجعلها أكبر قليلًا من الحي المالي في لندن، وأكبر من أوروك خلال معظم الألفية الرابعة قبل الميلاد.

ورغم ضخامة مواقعها، لم تكن هذه الحضارة مكتظة بالسكان كما قد يخيِّل إلى بعض الناس، إذ كانت منظمة بصورة دائرية، بمنازل مبنية من شبكة من الأغصان المجدولة المُغطاة بمادة لزجة كالطين، تصطف على الطرق الدائرية التي تحيط بمساحة مركزية واسعة. انطوتْ أكبر هذه المدن على عدة آلاف من المنازل بما يصل إلى 15,000 نسمة، مقارنة بما لا يزيد على بضع مئات من الأشخاص في القرى التقليدية للعصر الحجري الحديث. وقد تأجج نقاش حادّ حول هذه الأعداد، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى أنه ليس من الواضح ما إذا كانت هذه المواقع مأهولة كلها على مدار العام أم لا، وهو ما يثير تساؤلًا آخر: ما الغرض من هذه الأماكن إذن إن لم تكن مأهولة بالسكان؟

 

لا تشبه المدن الأولى التي ظهرت بعد عدة قرون

تشير وجهة النظر التقليدية حول سبب وجود تلك المدن الضخمة في حضارة تريبيليا إلى أن هذه المواقع شُيّدتْ استجابة للضغط السكاني المتزايد، وهو ما أدلى به ميخايلو فيديكو من جامعة بوريس جريتشينكو في كييف بأوكرانيا. يرى فيديكو أن السبب الذي ربما ساهم في تيسير نزوح سكان حضارة التريبيليان، هو ظهور أدوات متطورة كالزلاجات التي تجرّها الثيران أو الحيوانات الأخرى، إذ أتاحتْ هذه الزلاجات نقل الطعام والموارد الأخرى على مسافات تصل إلى عشرات الكيلومترات أو أكثر من القرى القائمة أو الحقول النائية إلى المواقع الجديدة. ويضيف فيديكو أنه لم تكن ثمة طرق ليشقوا سبيلهم عبرها، بل كانت جميع المناطق هناك امتدادات من غابات وأودية نهرية.

من ناحية أخرى، يعتقد يوهانس مولر من جامعة كيل في ألمانيا أن هذه المواقع كانت ببساطة قرى موغلة في الضخامة، وبزغ الاختلاف بينها في الحجم فقط وليس في التصميم، بمعنى أن هذه المواقع لم تكن تختلف جذريًّا عن القرى الصغرى في تصميمها، بل كانت أكبر منها بكثير من حيث الحجم فقط. ويرى مولر أن تصميم المنازل على هيئة دائرة متحدة المركز لم يكن بالأمر الجديد، بل كان موجودًا منذ 4800 عام قبل الميلاد في مستوطنات أقدم تضم في كنفها ما لا يزيد على 50 منزلًا.

لكن على النقيض من ذلك، يعارض جون تشابمان وبيسيركا غايدارسكا من جامعة دورهام في المملكة المتحدة هذه الفكرة بشدة، وعن ذلك يقول تشابمان: “إن وجهة النظر هذه أشبه بأن نشير إلى حاملة الطائرات باعتبارها يختًا موغلًا في الضخامة”. ويرى تشابمان أن تلك المواقع الضخمة تختلف تمامًا عن القرى الصغيرة من حيث الطبيعة والتعقيد.

بالنسبة لوجهة نظر تشابمان وغايدارسكا حول طبيعة المدن الضخمة في حضارة تريبيليا، فهما يريان أن ذلك كان بمثابة تجربة أشعلتْ فتيل النظام الاجتماعي، وأن ظهور المدن الضخمة في ذلك الوقت يعكس هذا التحول الأيديولوجي. كان كل موقع مُقسمًّا إلى أرباع تنتشر من المركز على هيئة شطيرة دائرية، وكانت هذه الأرباع مقسمَّة إلى أحياء تضم عددًا قليلًا من المنازل. هذا التصميم العام أُسّس منذ البداية، ثم اكتسب الهيكل الداخلي لهذه الأحياء بنية داخلية فيما بعد مع انتقال الناس إليها تدريجيًّا، وغالبًا ما كانت تضم تلك الأحياء مقرًّا رئيسيًّا رابضا في موقع إستراتيجي على الطريق الدائري الخارجي.

كان لكل حي بيت كبير مخصص لخدماته، إضافة إلى بيت كبير جدًّا للاجتماعات يخدم الموقع كله ويقع بالقرب من المركز باتجاه الشرق. وترى غايدارسكا أن هذه التقسيمات الهيكلية ربما ساعدت على احتواء النزاعات، وأن بيوت التجمع هذه قد تكون الأماكن التي تُتَّخذ فيها القرارات ومن ثَمّ توصَل إلى السكان في وقت كان يسبق اختراع الكتابة، ويضيف تشابمان أن المجتمع كان متساويًا إلى حد كبير، من دون فرق واضح بين الطبقات الاجتماعية أو الأفراد المتميزين بالثروة أو السلطة. فالمدن الضخمة في حضارة تريبيليا لا تُظهِر أدلة على وجود طبقات اجتماعية عليا أو ممتلكات فاخرة تميز بعض الأفراد عن غيرهم.

 

لِمَ يتجمعون؟

ترى غايدارسكا وتشابمان أننا في حاجة إلى إعادة التفكير فيما نعنيه بالمدينة؛ لأن هذه المدن الضخمة تُظهر نوعًا مختلفًا من التنظيم الاجتماعي والحضري لا يتماشى مع التعريف التقليدي المستند إلى النماذج الهرمية والسلطوية، في حين أن هناك من لا يذهب بعيدًا إلى هذا الحد، إذ تصف مونيكا سميث، عالمة الأنثروبولوجيا بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، هذه المدن الضخمة بأنها “مستوطنات جماعية”، وتشير إلى أنه يمكننا التفكير فيها بوصفها مرحلة انتقالية نحو المدن أتاحتْ للسكان في القرى الصغيرة فرصة تجربة شيء أكبر وأكثر تنوعًا لأول مرة في حياتهم.

تعتقد سميث أن هذه المدن الضخمة ربما تشابهت في بعض السمات مع موقع غوبكلي تبه في تركيا الآن، وهو مجمع مبانٍ يبلغ عمره على الأقل 10,000 عام، ويبدو أنه كان مكانًا يتجمع فيه الناس بصورة دورية لممارسة الطقوس. وتفترض سميث أن هذه المراكز التي كانت تُستخدم لأغراض ممارسة الطقوس هي التي بدأت تغرس في نفوس السكان فكرة تقبل الغرباء والتعامل معهم، والحاجة إلى الوثوق بهم.

تُعدُّ هذه إحدى عدة فرضيات تستكشفها غايدارسكا وتشابمان في كتابهما الجديد “التحضر المبكر في أوروبا”، إذ يقولان إن المواقع الضخمة ربما طُوعتْ لأغراض طقوسية بحتة، حيث كان يديرها مجموعة من “الأوصياء” الذين يستقبلون الناس خلال أربعة أو خمسة أشهر من السنة، وأحيانًا على مدى شهر واحد. وتشير فكرة بديلة إلى وجود عشائر مختلفة تتولّى إحداها مسؤولية توفير احتياجات الموقع وإرشاد الزوار في الطقوس مدة عام، ثم تخلفها عشيرة أخرى في العام التالي.

موقع غوبكلي تبه في تركيا الآن، وهو مجمع مبانٍ يبلغ عمره على الأقل 10,000 عام (ويكيبيديا)

وعلى النقيض من ذلك، يعتقد يوهانس مولر من جامعة كيل في ألمانيا وزملاؤه الألمان أن المواقع الضخمة لحضارة تريبيليا كانت مأهولة كلها على مدار العام، لكن من الصعب للغاية تفسير الأدلة، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى أن سكان هذه الحضارة كانوا يحرقون منازلهم بصورة دورية ومخطط لها، وليس بطريقة عشوائية كما قد يعتقد البعض. وربما كان ذلك طقسًا لتطهير المكان قبل مغادرتهم. فمثًلا في موقع نيبيليفكا حيث يعمل تشابمان وغايدارسكا، أُحرِق ثلثا المنازل البالغ عددها 1500 منزل على مدى 200 عام من وجود الموقع.

المشكلة أن تقنيات التأريخ لا توفر الدقة المطلوبة لتحديد نسبة المنازل التي كانت مأهولة بالسكان في الوقت ذاته قبل حرقها. ومع ذلك، لم تؤثر الأنشطة التي كانت تجري في المواقع الضخمة لحضارة تريبيليا كثيرًا في البيئة المحيطة، وهو ما يتضح من تحليل حبوب اللقاح والفحم في الرواسب الموجودة حول المواقع، التي تعطي فكرة عن الزراعة وإدارة الغابات في المنطقة. لكن لا يزال السبب في أن الأنشطة لم تؤثر كثيرًا في البيئة المحيطة غامضًا. تُرى هل حدث ذلك لأن الناس كانوا يزورون هذه المدن في بعض المواسم فحسب؟! أم أن الموارد (مثل الغذاء والخشب) كانت تُجلَب من مناطق أخرى بدلًا من الاعتماد على الموارد المحلية؟!

 

فرضيات مختلفة

تشير فرضية أخرى حول سبب ظهور تلك المدن الضخمة إلى أن سكان حضارة تريبيليا تجمعوا معًا للدفاع عن أنفسهم ضد تهديد خارجي. إلا أنه في هذا السياق، يختلف علماء الآثار مرة أخرى. فعادةً ما تكون المواقع محاطة بخندق، مثل خندق موقع نيبليفكا الذي كان طوله 5 كيلومترات وعرضه 1.5 متر وعمقه 0.8 متر، وكما هو واضح كان الخندق ضيقًا وعميقًا بحيث يمكن للبالغين القفز فوقه، مما يجعل البعض يعتقد أنه لم يكن دفاعيًّا.

ومع ذلك، يقول ميخايلو فيديكو من جامعة بوريس جريتشينكو في كييف بأوكرانيا إن الخندق كان يحتوي على سياج (سور مصنوع من أعمدة خشبية) ولكنه قد تآكل بمرور الوقت. بعبارة أخرى، يرى فيديكو أنه على الرغم من أن الخندق نفسه قد لا يكون عميقًا أو عريضًا بما يكفي ليكون حاجزًا قويًّا ضد المتسللين، فإن وجود سياج خشبي فوقه كان من شأنه تعزيز الدفاعات. حتى بدون دفاعات مادية قوية مثل السياج، فإن الكثافة السكانية العالية قد تضيف طبقة من الأمان لقدرتها على مقاومة الهجمات بصورة جماعية.

وكذلك يفضل عالم الحفريات أليكسي نيكيتين الفرضية الدفاعية. ويرى هو وديفيد أنتوني، عالم الأنثروبولوجيا في كلية هارتويك في نيويورك، أن ظهور هذه المدن الضخمة كان ردًّا على صراعات إقليمية أوسع. وفي الجنوب، كانت الأراضي المعروفة الآن برومانيا وبلغاريا معقل أقدم الثقافات الزراعية في أوروبا. وبحلول عام 4600 قبل الميلاد، امتلكت المجتمعات البلقانية صناعة نحاسية مزدهرة وكانت غنية غناءً فاحشًا. وأقرب مثال على ثرائهم هو قبر متخمّ بالذهب والنحاس لرجل رفيع المستوى اكتُشف في مقبرة بمدينة فارنا ببلغاريا.

وفي حوالي عام 4200 قبل الميلاد، نزح السكان من تلك المستوطنات الزراعية، والمثير للانتباه هو ما وجده علماء الآثار من علامات على العنف قبل ارتحالهم مباشرة. يفترض نيكيتين وأنتوني أن الناجين من هذه الأحداث فروا شمالًا إلى أقاربهم البعيدين من سكان حضارة تريبيليا، وأن المواقع الضخمة، التي نشأت في الوقت ذاته تقريبًا، أُسست لاستيعابهم. وعن ذلك يقول نيكيتين: “أعتقد أن هذه المواقع كانت مخيمات للاجئين”.

إذا كانت هناك مذبحة بالفعل، فالعامل المسؤول عن تأجيجها لا يزال مبهمًا. تُرى هل كان العنف الذي انبثق بين المزارعين ناجمًا عن تأثير التقلبات المناخية في المحاصيل؟ أم أن البدو الرُّحّل من السهوب الشمالية والشرقية أصبحوا أشد عدوانية عندما تراجعت تلك المجتمعات الزراعية وتضاءل إنتاجها من النحاس؟ تشير الأدلة إلى أن النحاس البلقاني وُجد في أعماق السهوب؛ مما يعني أن المجموعتين كانتا تتاجران عدة قرون في ذلك الوقت. ومع ذلك، تشير تحليلات أُجريت على أفراد من مقبرة فارنا وغيرها من المقابر البلقانية إلى أنه لم يكن هناك تزاوج بين المجموعتين فيما عدا استثناءات نادرة.

وأيًّا كان السبب وراء هذه المذبحة، يبدو أن مزارعي حضارة تريبيليا قد نجوا على الأقل في البداية، واستمروا في التفاعل مع سكان السهوب القريبين، والدليل على ذلك هو نوع الفخار الذي كان يستعمله سكان السهوب المعروف بـكوكوتني- سي، الذي كان يظهر في كل طبقة من طبقات المواقع الضخمة إلى أن هجرها السكان. تأكيدًا على ذلك، يقول نيكيتين: “تمكن سكان تريبيليا من التعايش بسلام مع سكان السهوب المجاورين لهم، إلا أنهم لم يتزاوجوا مع جيرانهم”.

وبحسب نيكيتين فإن السبب وراء ذلك يعود إلى اختلاف وجهات نظرهم اختلافًا جذريًّا. فمثلًا كان سكان السهوب يقدِّرون البراعة الفردية، ويتجلى ذلك في استخدامهم للنحاس البلقاني المرغوب فيه لتزيين أجساد زعمائهم الموتى، في حين يتجلى جوهر ثقافة تريبيليا في المساواة، وهو ما يتضح من مواقعهم الكبيرة المتحدة المركز والمتشابهة.

وكما هو متوقع، فإن فكرة مخيم اللاجئين لا تروق للجميع. فمثلًا تقول غايدارسكا: “لا يمكن أن تمر بأزمة تقض مضجعك مدة 800 سنة من دون أن تصَّح عزيمتك على حلها”. كما تساءل آخرون كيف يمكن لمجموعات صغيرة نسبيا من البدو، رغم ميلها إلى الحرب، أن تدمر مستوطنات زراعية غنية ومكتظة بالسكان في منطقة البلقان؟ يشير عالم الحفريات نيكيتين إلى أن الفكرة تتخللها نقاط ضعف، من أهمها أن بناء المواقع الضخمة بسرعة لاستيعاب المهاجرين، كان سيتطلب استثمارات كبيرة للغاية في العمالة. ومع ذلك، فهو يرى أن فرضية مخيمات اللاجئين يمكن أن تفسِّر غياب الرفات البشرية، إذ يقول: “إذا كانت هذه مخيمات مؤقتة، فمن المحتمل أن الوافدين لم يبقوا فيها فترة طويلة ووافتهم المنيّة في مكان آخر”.

 

ما الذي حصل؟

في حوالي عام 3400 قبل الميلاد، هجر السكان جميع هذه المدن الضخمة رغم استمرار سكان تريبيليا في العيش في مواقع أصغر وأكثر تباعدًا. يعتقد عالم الأنثروبولوجيا ديفيد أنتوني أن السلام الذي تفاوض عليه المزارعون مع سكان السهوب قد تردَّى في النهاية. لكن التحليل الجيني يكشف أنه بعد انهيار المدن الكبرى، بدأ سكان المجموعتين في التزاوج. وبحسب مختبر الحمض النووي التابع لمختبر ديفيد رايش في جامعة هارفارد، فإن هناك نظرية مثيرة للانتباه تقول إن نسل هذا التزاوج كان هم شعوب اليمنايا. وإذا كان الأمر كذلك، فقد نحتاج إلى إعادة صياغة قصة هؤلاء الرعاة، الذين يُعتَقد أنهم جاؤوا من السهوب منذ حوالي 5000 عام، وساهموا في تغيير سكان أوروبا وراثيًّا ولغويًّا وثقافيًّا.

لكن ما لا نفطن له هو أن شعوب اليمنايا التي صورها التاريخ باعتبارها شعبًا قاتلًا ربما كانت في الأساس جزءًا من المزارعين الأوروبيين، وربما يكون ذلك قد ساعدهم على الاندماج والتكيف مع المجتمعات الجديدة من دون الحاجة إلى اللجوء إلى العنف. ومع ذلك، تبقى المسألة مفتوحة للنقاش. ويرى نيكيتين أن شعب اليمنايا ربما جاء بعد فترة عنف جالبًا معه أيديولوجية جديدة شكلتها الحياة في السهوب، ويضيف قائلًا: “تخيل معي أنه في خضم هذا اليأس، تشكَّلت فكرة عن نظام جديد”.

على الجانب الآخر، يعتقد آخرون أنه ليست هناك حاجة إلى استدعاء قوى خارجية لتفسير هجر السكان لهذه المدن. يقول مولر، الذي أجرى عمليات تنقيب في موقع رئيسي يُدعى  ميدانتسكي، إنه بحلول عام 3700 قبل الميلاد، اختفت مباني التجمعات في تلك الأحياء، ولم يبق منها سوى أكبر مبنى مخصص للتجمعات.

يرى مولر أن السبب في انهيار هذه الحضارة ربما يتمحور حول اقتصار القرارات على فئة قليلة من الناس، وهو ما أفضى إلى تآكل الروابط الاجتماعية التي كانت تجمع السكان. وكذلك تعتقد غايدارسكا وتشابمان أن المشكلة كانت داخلية، مشيرين إلى أنه مع توسع موقع ميدانتسكي، تغيرت المساحة التي كانت تؤدي دورًا هامًّا في جمع الناس وتسهيل التفاعل بينهم، واستُبدلت بأدوار أخرى، وهو ما أثر سلبًا في التواصل داخل المجتمع. ومع ذلك، يرى مولر أن تلك المدن فقدت ببساطة مكانتها أو هيبتها بعد تعرضها لأفكار سكان السهوب من خلال التجارة. فما إن تعرض سكانها لهذه الأفكار حتى بدؤوا التشكيك في أفكارهم ومعتقداتهم.

يتفق معظم الباحثين المتخصصين في حضارة تريبيليا على أن التدهور البيئي لم يكن سببًا في نزوح السكان من هذه المدن. وفي ذلك يقول مولر: “إن سعة التحمل البيئي في هذه المنطقة لم تُستنفد قط”. بمعنى أن المنطقة كانت قادرة على دعم السكان من دون أن تُستهلَك كلّيًّا أو تُصاب بتدهور بيئي. كما يرفض الباحثون فكرة اقترحها عالم الأحياء الدقيقة نيكولاس راسكوفان من معهد باستور في باريس عام 2018، تفترض أن الطاعون قد انتشر في المدن الضخمة ومن ثَمّ تغلغل شمالًا وغربًا حتى وصل إلى مقبرة سويدية عام 2900 قبل الميلاد.

لكن غايدارسكا تشكك في هذه الفرضية باعتبار أنه من المفترض العثور على بقايا ضحايا الطاعون إذا كانت هذه الفرضية صحيحة. كما أن هذه المدن الكبرى كانت قد اختفت منذ 500 عام على الأقل، وهو ما يؤكد استحالة انتشار الطاعون من هناك، لأن هذا الفاصل الزمني هائل حتى بالنسبة لمرض بطيء الحركة على غرار الطاعون.

بحلول الوقت الذي ظهرت فيه شعوب اليمنايا في أوروبا، كُتبت النهاية وأُسدل الستار على حضارة تريبيليا التي اعتُبرت تجربة حضارية فريدة ربما كانت الأولى من نوعها، وفي أقصى الجنوب والشرق، كانت مدن مثل مصر وبلاد الرافدين مزدهرة ومبنية على نموذج مختلف جذريًّا وما زالت تتطور، ومنذ ذلك الحين، واصلت الحضارة سعيها متلمسةً طريقها نحو مسار جديد.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version