فخاخ وألغام
قد يصبح تفجير أجهزة النداء واللاسلكي على دمويته”إنجازا” مسجلا باسم إسرائيل وجهاز استخباراتها الموساد، ويرجح أن تكون الرسائل المفخخة اختراعا إسرائيليا قبل عقود، واستعملت كلها ضد حركات المقاومة الفلسطينية والوطنية في لبنان وضد “الأعداء” المفترضين في كل مكان.
ففي سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي كانت لبنان ساحة مفتوحة للموساد، الذي أتقن استخدام سلاح الرسائل والطرود الملغومة، وتلقت القيادات في المنظمات الفلسطينية في بيروت آنذاك العشرات من تلك الرسائل والطرود البريدية بهدف تصفيتهم.
وفي 19 يوليو/تموز 1972 وصلت رسالة عبر البريد اللبناني إلى المفكر الفلسطيني الراحل أنيس صايغ في مكتبه بمركز الأبحاث الفلسطيني في شارع كولمباني في بيروت والذي كان مديرا له.
يقول الصايغ في مذكراته “أنيس صايغ عن أنيس صايغ”: “كنت في صباح 19 يوليو/تموز 1972 قد عدت من القاهرة. ووجدت على مكتبي حينما دخلته في الثامنة صباحا قبل أي موظف آخر رزمة من الرسائل وصلت في غيابي القصير. وجاء دور رسالة أثخن من زميلاتها فاعتقدت أنها تضم مقالة للمجلة. وبدأت بفض الرسالة وإذ بها تنفجر في وجهي. فأدركت أن الإرهاب الصهيوني قد أوقع بي”. أدى الانفجار إلى تضرر حاسة السمع لديه، ودخول شظايا في عينيه أثرت على نظره.
ورد اسم أنيس صايغ ضمن لائحة اغتيالات وضعها الموساد ضمت السياسيين والنشطاء والمثقفين الفلسطينيين، من بينهم علي حسن سلامة (اغتيل بسيارة مفخخة عام 1979) وأيضا الأديب والصحفي غسان كنفاني رئيس تحرير مجلة الهدف (الناطقة باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) وبسام أبو شريف، الذي خلفه في رئاسة تحريرها، وغيرهم.
كان الموساد قد استقر على الانتقام من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عقب عملية مطار اللد (مطار بن غوريون حاليا) في تل أبيب في 30 مايو/أيار 1972، والتي قُتل خلالها 26 إسرائيليا وجرح 80 آخرون ونفذتها الجبهة بالتعاون مع الجيش الأحمر الياباني. كما ضمت اللائحة لاحقا قادة وناشطين من منظمة أيلول الأسود الفلسطينية.
لم يتلق الراحل غسان كنفاني رسالة ملغومة بهدف اغتياله، لكن في الثامن من يوليو/تموز عام 1972، انفجرت قنبلة تزن 3 كيلوغرامات زرعت في سيارته من نوع “أوستن 1100” عندما كان يهم بتشغيلها بمنطقة الحازمية قرب بيروت، واستشهدت معه ابنة شقيقته “لميس نجم” ذات 17 ربيعا.
وهكذا اغتيل صاحب “عائد إلى حيفا” و”رجال تحت الشمس”، والذي وصفته رئيسة الوزراء الإسرائيلية وقتها غولدا مائير بكونه “أخطر على إسرائيل من كتيبة فدائيين”.
عادت الموساد إلى أسلوب الرسائل المفخخة بعد أسبوعين من اغتيال كنفاني، عندما وصل طرد مفخخ إلى مكتب مدير التحرير الجديد لمجلة الهدف بسام أبو شريف، وانفجر في وجهه بعد فتحه، فبَتر عددا من أصابع يديه وتسبب له في ضرر بالغ بسمعه وبصره، واحتاج بعدها إلى 6 عمليات جراحية.
كانت عشرات عمليات الاغتيال الأخرى بالرسائل الملغومة موجهة إلى قيادات فلسطينية قد أحبطت، وكشف لاحقا عن اختراق إسرائيلي لهيئة البريد والاتصالات اللبنانية عبر أحد عملاء الموساد.
ومنذ ستينيات القرن الماضي بدأ جهاز الموساد في استعمال الرسائل الملغومة -كسلاح اغتيال وتهديد على الأقل-، عندما انفجرت بعض هذه الرسائل بوجه عدد من العلماء الألمان الذي كانوا يتعاونون مع مصر في مشروع الصواريخ والتصنيع العسكري في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
انتقلت إسرائيل وأجهزتها الاستخباراتية لاحقا إلى وسائل وتقنيات أكثر تقدما، في ما تسميه الحرب الوقائية، لكن هذه العمليات، ومنها الأخيرة في لبنان كانت دموية ولا تأبه بسقوط المدنيين، بل يكون استهدافهم جزءا من أهدافها العسكرية والسياسية المخطط لها.