لم تكن الرسالة التي أصدرها، علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد الإيراني، علي خامنئي، قبل يومين بشأن طبيعة العلاقة الحالية مع النظام السوري عن عبث ودون مقدمات، وفي حين تخفي ورائها الكثير من “الانطباعات” تفتح بابا من الشك، كما يراها خبراء ومراقبون تحدث إليهم موقع “الحرة”.
اعتبر ولايتي أن الحكومة السورية، في إشارة للنظام، “ثورية ومعادية للصهيونية”، وقال إنها إحدى الحلقات الأساسية في “سلسلة المقاومة”، نافيا “المعلومات الكاذبة” التي تهدف إلى تدمير العلاقة بين إيران وسوريا، على حد وصفه.
وجاء حديثه بعد تقارير لوسائل إعلام تفيد بتراجع العلاقة بين طهران ودمشق لأسباب تتعلق بحالة التصعيد التي تشهدها المنطقة، فيما كانت الرسالة التي وجهها مشابهة إلى حد كبير مع تأكيدات سابقة لخامنئي تطرق إليها في مايو الماضي، بعد اجتماعه مع رئيس النظام، بشار الأسد، في إيران.
وجه خامنئي كلماته للأسد قبل خمسة أشهر كـ”رسائل التذكير” ووضع جزءا منها ضمن إطار أشبه بـ”التوجيهات”، وقبل أن يؤكد على “هوية المقاومة التي تتميز بها سوريا”، وأنه ينبغي الحفاظ عليها أخبر رئيس النظام السوري أن الأطراف التي تحاول إخراج سوريا من المعادلات الإقليمية “لن توفي بوعودها أبدا”، دون أن يسمها.
ويرتبط النظام السوري مع إيران منذ عقود بعلاقة وصفها رئيسه في مطلع أكتوبر الحالي بـ”الاستراتيجية”، وكان الدعم العسكري الذي قدمته طهران لدمشق بعد عام 2011 قد لعب دورا كبيرا في حفاظ الأسد على كرسي الحكم.
ورغم أن حدود هذه العلاقة ما تزال ضمن “نطاقها الاستراتيجي” وفقا لرواية طهران ودمشق يرى خبراء سوريون وعرب الصورة بخلاف ذلك، ويستندون على تداعيات الصراع الحاصل بين إيران وأذرعها من جهة وإسرائيل من جهة أخرى ومآلاته وآثاره في المرحلة المقبلة.
“مخاوف جدية من نوايا الأسد”
ومنذ هجوم السابع من أكتوبر الذي نفذته حماس ودفع إسرائيل لبدء حرب في غزة سرعان ما توسعت حدودها لتصل إلى لبنان الآن، تشهد المنطقة حالة عدم يقين إقليمية.
وتركت هذه الحالة أثرها على العلاقات داخل دول “محور المقاومة” وما بينهم وغيرهم من القوى الإقليمية والدولية، انطلاقا من المصالح والفرص والمخاطر التي يواجهها كل طرف.
ويعتقد الباحث السوري في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، أيمن الدسوقي، أن التصريحات الإيرانية بخصوص الأسد ونظامه تؤشر بـأن “لديها مخاوف جدية من نوايا الأسد إعادة تموضعه إقليميا”.
المحرك الأساسي لتلك المخاوف جاء بعد توسع نطاق العمليات العسكرية الإسرائيلية لتشمل لبنان وتزايد الضربات داخل سوريا.
وجاء أيضا بحسب حديث الدسوقي لموقع “الحرة” وسط خشية الأسد من أن تكون دمشق التالية في حال عدم إعادة تعريف علاقته بإيران و”محور المقاومة” بشكل جذري، لا سيما وأن إسرائيل جادة في تغيير موازين القوى إقليميا، في لحظة تعتبرها فرصة لن تتكرر في المدى المنظور.
ويضيف الباحث السوري: “مما سبق تعتبر التصريحات الإيرانية أيضا بمثابة رسائل للأسد لضبط حركته الإقليمية بما لا يخرج عن مصالح طهران الاستراتيجية أو الإضرار بها، وتذكيره بأنه جزء لا يتجزأ من هذا المحور الذي قراره بيد طهران”.
ويرى الخبير الجيوسياسي الأردني، عامر السبايلة، أن “التركيز الإيراني على العلاقة مع النظام السوري وأنه سلسلة من محور المقاومة يفتح بابا واسعا من الشك”.
ويعتبر في حديثه لموقع “الحرة” أن “التأكيدات الإيرانية التي تصدر تؤكد المؤكد غالبا، وتحمل في طياتها انطباعات مختلفة”.
ويتعرض حزب الله في لبنان، وهو أهم جبهة بالنسبة لإيران لحرب كبيرة، وبات معزولا عن الجغرافيا السورية بشكل واضح، جراء الاستهدافات ومحاولات التعطيل التي تقودها إسرائيل.
وفي حين أن سوريا دائما ما تضع نفسها وتؤكد عليها إيران كـ”جزء من المحور والمقاومة”، على حد تعبيرها لم يكن ذلك كفيلا بتحرك الأسد خلال الأشهر الماضية من أجل دعم حلفائه الذين ثبتوا له كرسي الحكم، على رأسهم حزب الله.
ولا تعرف ماهية موقف “الحياد” الذي يتخذه الأسد، وما إذا كان القرار نابعا منه أو من إيران أو من قوى إقليمية، سواء عربية أو دولية.
ويوضح السبايلة أن عدم تفعيل سوريا كساحة من “وحدة الساحات” وغياب الجغرافيا السورية عن “إسناد” حزب الله بشكل فعلي “يفسر أن السوريين يدركون على الأقل تبعات أي تحرك والانعكاسات التي قد يسفر عنها”.
ويعتقد أنه يوجد قرار سوري فعلي بـ”تحييد جغرافيا البلاد”، وأن القرار أيضا قد يكون صادرا من جانب “طرف لاعب آخر في سوريا”.
هل يبتعد الأسد عن إيران؟
لا ترتبط العلاقة بين إيران والنظام السوري بالشق العسكري والسياسي فحسب، وعلى مدى السنوات الماضية وصلت حدودها إلى حد التوغل في قطاعات اقتصادية أيضا.
ومن الجانب العسكري على الخصوص ما تزال الكثير من ميليشيات “الحرس الثوري” تنتشر في عموم المناطق السورية.
وتحاول هذه الميليشيات مع حزب الله، اللاعب على أرض البلاد أيضا، تمرير شحنات من الأسلحة والذخائر إلى لبنان، وهو ما تؤكده سلسلة الضربات الإسرائيلية، وآخرها، الخميس، على مدينة القصير بريف حمص.
ولطالما كانت العلاقة التي تربط إيران بالأسد محور تركيز دول غربية وعربية أيضا.
وفيما يتعلق بالعرب كانت الأضواء قد تسلطت أكثر على الخط الرابط بين طهران-دمشق بعدما أعادت عواصم عربية علاقاتها مع النظام السوري، بينها السعودية والإمارات والأردن.
ويوضح المستشار السابق في وزارة الخارجية السعودية، سالم اليامي، أن “موضوع إبعاد الأسد عن النفوذ الايراني أو تقليل الهيمنة الإيرانية على القرار السوري كان هدفا عربيا في مرحلة من المراحل”.
لكن “يبدو أن العرب لم يحققوا نجاحا كبيرا في هذا الميدان”، بحسب حديث اليامي لموقع “الحرة”.
وجاءت التطورات الإقليمية الجديدة لتعقد طبيعة العلاقات الإيرانية السورية الرسمية.
ويضيف اليامي أن “مرد التعقيد هو الدور الرئيس والداعم للنظام السوري في مواجهة عدة متغيرات نشأ بعضها مما يزيد عن عقد من الزمان”.
ومن المعتقد أن التأثير الدولي على أذرع إيران ونفوذها في المنطقة ستكون له آثار إيجابية على سوريا “إذا استطاع النظام الوقوف على قدميه دون داعمين إقليميين ودوليين”، وفقا للواقع الذي يراه اليامي.
وفي تعليقه على التأكيدات التي أطلقها مستشار المرشد الإيراني قبل أيام وما سبقها من رسائل أصدرها خامنئي بنفسه يوضح أن “الفهم العميق لموضوع المقاومة ولما يسمى بمحور المقاومة يعني بقاء النفوذ الإيراني”.
يقول المستشار السابق في الخارجية السعودية إن “إيران تعرف أنها خسرت بعض أذرعها عمليا، ومع ذلك تحاول الحفاظ على بقع نفوذ لها، والسؤال هنا هل تسمح الظروف الدولية والإقليمية لها بذلك؟”.
ومن ناحية أخرى يضيف أن “هناك من يعتقد أن تأمين العمق الإسرائيلي لن يتحقق إلا بإضعاف نفوذ إيران في سوريا تحديدا، وهذا يترتب عليه أمور قد تكون صعبة على إيران وسوريا والمنطقة”.
“في قلب لعبة خطرة”
نهج “النأي بالنفس” الذي يتخذه النظام السوري وتركيزه على عدم تقديم مسوغات قد تسفر عن عمليات استهداف يبدو أنه بات يشكل “مشكلة بالنسبة لإيران”، بحسب الخبير الأردني، عامر السبايلة.
ويشرح بالقول: “بلا سوريا فإن موضوع إنقاذ حزب الله والقدرة على نقل الأزمة لداخل إسرائيل سيخف كثيرا”.
لكن في المقابل قد ينعكس ما سبق على ساحة أخرى، إذ يشير السبايلة إلى أن إيران “ربما تلجأ لتفعيل الجبهة العراقية كون الجغرافيا السورية حيدت بشكل كبير”.
ويعتبر الباحث السوري، الدسوقي، أن “الأسد في موقف صعب”.
فمن جهة يخشى الانتقام الإسرائيلي في حال لم يتحرك، كما أنه متخوف مما يمكن لإيران أن تقوم به في حال اتخذ خطوات تراها تهديدا لها.
وعلى أساس ذلك يواصل النظام “اللعب على الطرفين من خلال التجاوب مرة مع المطالب الإقليمية والإسرائيلية بخصوص إيران وأذرعها، ومرة أخرى من خلال التفاعل مع الرسائل الإيرانية”، ويعتبر الدسوقي ذلك “لعبة خطرة تتضاءل هوامشها”.
ما حدود العلاقة؟
يجادل باحثون أن قرار الحياد والنأي بالنفس الذي اتبعه النظام السوري ورئيسه إزاء ما جرى في المنطقة خلال العام الماضي كان مدفوعا باعتبارات تتعلق به وبحلفائه.
ويشير آخرون إلى “عقبات” وخشية ارتبطت على نحو كبير بالعواقب التي قد تسفر عنها أي عملية انخراط، ولو على مستوى اتخاذ مواقف متشددة.
ومنذ عام 2012 زج “الحرس الثوري” الإيراني بالكثير من الميليشيات على أرض سوريا، وبعدما حققت طهران هدفها مع روسيا بتثبيت رئيس النظام السوري، بشار الأسد، على كرسي الحكم اتجهت بعد ذلك إلى التوغل في قطاعات اقتصادية واجتماعية.
كما حجزت لها دورا كبيرا في المشهد السياسي الخاص بالبلاد، وطالما كان المسؤولون فيها يحضرون الاجتماعات المتعلقة بالتنسيق على الأرض مع بقية القوى الفاعلة الأخرى، ويجرون المحادثات بالتوازي كـ”طرف ضامن”، وفق ما تؤكده محطات مسار “أستانة”.
لكن الظروف التي وضعت فيها إيران أول موطئ قدم لها في سوريا قبل 12 عاما تكاد تختلف بشكل جذري عن الوقت الحالي، رغم أن النظام السوري ما يزال يؤكد أن وجودها في البلاد “شرعي”.
ويوضح الباحث السوري، الدسوقي، أن “إعادة الأسد تعريف علاقته بشكل جذري مع طهران تتطلب عدة خطوات”.
الأولى: حصول الأسد على ضمانات إقليمية ودولية، يعتقد بأنه لا يراها متاحة راهنا.
وتذهب الثانية باتجاه حصوله على غطاء إقليمي/عربي لامتصاص الضغوط والتهديدات الإيرانية ما أمكنه، لكن هذا الأمر “متعذر في ظل ضعف تجاوب الأسد مع مطالب الدول العربية وتصلبه إزاء التطبيع مع تركيا”، وفق الباحث السوري.
أما الخطوة الثالثة فقد تكون باتجاه انتهاء حالة الحرب في سوريا وإنجاز حل سياسي يتيح للأسد الطلب من إيران وحلفائها الخروج من سوريا، واستقبال تمويلات دولية لإعادة الإعمار.
لكن ما سبق “ليس في الأفق المنظور في ظل تصلب الأسد فيما يتعلق بالحل السياسي”، ولذا يعتقد الدسوقي أن “العلاقة بين طهران والأسد ستبقى قلقة”.