“الخوف يمنعني من الكلام، من دون أن يلغي رفضي لهذه الحرب التي لا تخدم سوى مصالح إيران، ولم تجلب للبنان سوى الموت والدمار والخراب”، بهذه الكلمات يعبّر حسن، أحد أبناء الطائفة الشيعية في لبنان، عن عجزه عن التعبير عن رأيه في الحرب الدائرة بين لبنان وإسرائيل.
ويضيف حسن أنه يشعر بالقلق من أن يصبح الضحية الجديدة في لائحة الأشخاص الذين تعرضوا لأنواع مختلفة من التهديد والعنف، لمجرد أنهم أعلنوا معارضتهم لسياسات حزب الله.
ومنذ اندلاع المعارك على جبهة جنوب لبنان، يعيش حسن ولبنانيون آخرون في حالة من التوتر الداخلي، حيث يجدون أنفسهم عالقين بين رفضهم للحرب من جهة، والخوف من العواقب التي قد تترتب على التعبير عن هذا الرفض من جهة أخرى، ويقول حسن لموقع “الحرة” أن “الخطر أصبح يحاصرنا من كل الاتجاهات: من الغارات الجوية، ومن عناصر ومؤيدي حزب الله وحركة أمل الذين يتربصون بكل من يتجرأ على المجاهرة برأيه الذي لا يتوافق معهم”.
ويضيف “نعيش في ترهيب دائم. خسرت وعائلتي منزلنا في جنوب لبنان، وبيتنا في الضاحية الجنوبية مهدد بالدمار. ومع ذلك، يمنع علينا أن نعبّر عن مشاعرنا أو عن خسارتنا لجنى عمرنا. إذا لم نعلن أن ذلك فداء لحزب الله والمقاومة، نكون عملاء. كما يجب على الإنسان أن يكتم حزنه في حال فقد عزيزاً، إذ عليه أن يعلن أن ذلك فداء للمقاومة. لا بل باتت العائلات التي تفقد أحبائها تتلقى التهاني، حيث أصبحنا نسمع ‘هنئيا’ بدلاً من ‘ألهمك الله الصبر’. فأي تكبر على الجراح هذا؟ وأين هي مشاعر الإنسان في كل ذلك؟”
هذه الحالة من الخوف بين أبناء الطائفة الشيعية، تبرز الأثر العميق الذي خلّفته الحرب، ليس فقط على الجبهة العسكرية، ولكن أيضاً في المجتمع اللبناني الذي يعاني من تزايد الضغوطات على حريات الأفراد في التعبير عن آرائهم، لتضاف إلى الضغوطات التي يعيشها اللبنانيون، لاسيما “الشيعة” الذين اضطر عدد كبير منهم للنزوح نتيجة القصف، وسط معاناة اجتماعية واقتصادية ونقص في الخدمات الأساسية.
وتصاعدت حملات قمع حرية التعبير وإسكات الأصوات المعارضة بشكل ملحوظ منذ فتح حزب الله جبهة جنوب لبنان في أكتوبر 2023، وفقاً لما تؤكده الباحثة والصحفية في مركز سكايز، وداد جربوع، وتوضح أن هذا التصعيد “جاء في ظل انقسام اللبنانيين بين مؤيد ومعارض للحرب الدائرة”، معتبرة أن “هذه الحملات تبدو جزءاً من محاولة لفرض سردية واحدة تتماشى مع رؤية حزب الله وحلفائه الداعمين لجبهة غزة”.
صدمة الواقع
منى هي الأخرى تعارض الحرب بشدة، مشيرة إلى أنها من صور جنوب لبنان، “المدينة العريقة التي كانت رمزاً للتآلف بين سكانها، قبل أن تفرّق بينهم الأجندات والأحزاب المتضاربة”، وتضيف أن “الحرب الأخيرة عمّقت جراح المدينة وغيّرت ملامحها تحت وطأة القصف المكثف”.
وتقول منى في حديث لموقع “الحرة”: “في عام 2000، عندما تحرر الجنوب، نجح حزب الله في إقناع شريحة واسعة من أبناء الطائفة الشيعية بأن وجوده ضروري لحماية لبنان، ولكن بعد حرب 2006 والحرب الأخيرة التي زَجّ بها البلد، بات واضحاً أن هدفه لم يعد حماية الوطن، بل أن سياساته هي التي تجلب له الخراب”.
وتشير إلى أنها فقدت منزلها ومنزل جدها، وتعرضت منازل عدد من جيرانها للتدمير بسبب الحرب، وتقول “لا نعرف الأسباب الحقيقية لهذه الخسائر، أو ما يسميه الحزب ومؤيدوه بالتضحيات.”
“الشيعة، كمعظم اللبنانيين، لم يكونوا راضين عن تورط لبنان في حرب مع إسرائيل”، كما يؤكد الصحفي علي الأمين، ويشرح أن “أبناء المناطق الجنوبية، وخاصة تلك الحدودية مع إسرائيل، كانوا يدركون تماماً أن أي حرب ستترك تأثيرات مباشرة عليهم، سواء من حيث التدمير أو التهجير أو غيرها من الأضرار، وفي ذات الوقت كانوا مؤمنين بأن حزب الله لن يخوض حرباً مع إسرائيل، وأن سلاحه كان دفاعياً وظيفته حمايتهم من أي اعتداء، وذلك كما كان يروج الحزب. ومن هذا المنطلق، استثمر البعض منهم مليارات الدولارات في بناء منازل ومشاريع اقتصادية في تلك المناطق. لكن الواقع اليوم أثبت أن تلك التوقعات كانت خاطئة”.
ويعتقد الأمين أن الفجوة بين خطاب حزب الله والمزاج الشيعي العام “قد اتسعت بعد موجة النزوح والتدمير، حيث يشعر معظم الشيعة الذين نزحوا بخسائر كبيرة وقلق وجودي، خاصة فيما يتعلق بإمكانية عودتهم إلى بلداتهم فضلا عن تعويض خسائرهم البشرية والمادية”.
وتلفت منى إلى أنها تخشى التعبير عن معارضتها للحرب، خاصة في مكان عملها كي لا تخسر وظيفتها، كما أنها لا تتجرأ على كتابة موقفها على وسائل التواصل الاجتماعي، قائلة “أخاف أن أكتب ما أشعر به، فهناك دائماً من يترصد لإلحاق الأذى بالمعارضين للحزب وعائلاتهم شخصياً ومهنياً، رغم أنني أرفض احتلال أي شبر من وطني، لذلك أكتفي بمنشورات تمجد السلام وحب الوطن”.
وتعبّر عن شعورها بمرارة قائلة “أشعر أن صوتي مخنوق، وأنني أعيش في غربة داخل مجتمعي ووطني”.
قمع متعدد الأبعاد
كذلك يعارض حيدر ما يحدث في لبنان، “من الحرب إلى غياب الدولة وسيطرة حزب الله على قرار السلم والحرب”، ومع ذلك، يشعر بعدم القدرة على التعبير عن رأيه بحرية.
ويقول حيدر لموقع “الحرة” “أولاً وقبل كل شيء، عليّ أن أراعي أن لي أقارب وأصدقاء قتلوا أو أصيبوا في هذه الحرب. بالإضافة إلى ذلك، فإن المعارضين الذين يعبّرون عن آرائهم يتعرضون لضغوط وتهديدات من حزب الله وحركة أمل ومناصريهما. لهذا السبب، أُفضّل عدم الإفصاح عن قناعاتي في الوقت الحالي، خاصة في ظل استمرار إراقة الدماء. فضلاً عن أنني أواجه ضغوطات عائلية واجتماعية”.
ويضيف حيدر أنه في إحدى المرات، قرر التعبير عن رأيه أمام عائلته بعد أن وصل إلى مرحلة كبيرة من التوتر من كل ما يدور حوله، إلا أن الرد الذي تلقاه زاد الضغط عليه، إذ قال “كان الجواب الذي سمعته أن كل الخسائر هي فداء لحزب الله وأمينه العام السابق حسن نصر الله، لذلك قررت عدم الإقدام على هذه الخطوة مرة أخرى قبل انتهاء الحرب”.
تتعدد أساليب مواجهة اعتراضات الصحفيين، الناشطين، وحتى المواطنين العاديين من قبل مناصري تلك الأحزاب أو جيوشهم الإلكترونية بحسب جربوع، وأبرزها “التحريض، التخوين، والاتهام بالعمالة، نشر خطاب الكراهية، الاعتداءات الجسدية التهديد بالقتل، وحتى التهديد بالاغتصاب في حالة الناشطات والصحفيات”.
كما يتم “استغلال وسائل التواصل الاجتماعي لنشر الأخبار الكاذبة بهدف تشويه سمعة المعارضين. ومن الأمثلة على ذلك، الادعاء باعتقال ناشطين وصحفيين بتهم العمالة”.
وتشير جربوع إلى أن الصحفي نبيل مملوك “تعرض لاعتداءات متكررة بالضرب والتهديد بسبب موقفه الرافض للحرب والدمار الذي تخلّفه”، موضحة أن “حملة تشويه طالت مملوك، حيث روّجت مزاعم كاذبة بأنه يزوّد الجيش الإسرائيلي بمعلومات عن مواقع إطلاق الصواريخ في مدينة صور، وأن الأجهزة الأمنية اعتقلته في محاولة واضحة للتحريض عليه وقمع حقه في التعبير”.
وتشدد على أن “مملوك ليس حالة فردية، حيث يواجه العديد من الناشطين والصحفيين مصيراً مشابهاً، ومن بينهم مريم مجدولين لحام، رامي نعيم، وعامر حلاوي، وغيرهم”.
سياسة قديمة متجددة
“سياسة الترهيب التي يتبعها حزب الله، ليست جديدة” كما يقول الأمين، لكنها “ازدادت وضوحاً في ظل الحرب، بهدف توجيه رسالة إلى المجتمع الشيعي بأن الاعتراض على الحرب أو سياساته له كلفة باهظة، والمطلوب هو الصمت والالتزام بقواعد السلوك التي يحددها الحزب، وترديد ما يريده من بروباغاندا”.
في المقابل، برزت كما يقول الأمين “أصوات كثيرة على المستوى الفردي والشخصي لاسيما في بعض مجتمعات النزوح، حيث نلمس حالة تمايز وتنامي الاعتراض، الذي يتخذ أشكالاً متعددة مثل الاعتراض على الأوضاع السيئة التي يعيشونها، أو الحديث عن تخلي إيران عنهم وعن حزب الله”.
ويلفت الأمين إلى أن “حالات الاعتراض قد لا تظهر بشكل علني في الوقت الراهن، نظراً لهيمنة أجواء الحرب وقرقعة السلاح التي تخمد أصوات المعترضين على الحزب. بالإضافة إلى ذلك، فإن موارد الإغاثة، حتى تلك المقدّمة من الدولة، تدار عبر حزب الله وحركة أمل، إلى جانب أمل البعض في أن يتولى حزب الله عملية إعادة الإعمار مستقبلاً”.
ولم تقتصر سياسة الترهيب على فترة الحرب الجارية فحسب، بل امتدت، وفقاً لما تقوله جربوع، إلى تهديدات تطال المعارضين بالعقاب بعد انتهائها، وتشير إلى أن “هذه التهديدات تأتي بأسلوب يعيد إلى الأذهان ممارسات سابقة، مثل (قبل وبعد السحسوح)، حيث يتم الاعتداء جسدياً على المعارضين، وإجبارهم على تسجيل اعتذارات مصوّرة تتراجع عن مواقفهم المناهضة”.
وتؤكد جربوع أن المطلوب اليوم هو “محاسبة المعتدين على الناشطين والصحفيين والمواطنين المعارضين، وكشف هوية المسؤولين عن ذلك أمام الرأي العام لتبيان ما إذا كان هناك أي تورط لجهة حزبية في هذه الاعتداءات، خاصة أن بعض الأحزاب التي توجه إليها أصابع الاتهام تقوم بنفي علاقتها بتلك الانتهاكات”.