على مدى الشهرين الماضيين، وضعت إسرائيل المناطق الصناعية في سوريا على قائمة ضرباتها، الهادفة لقطع طرق إمداد حزب الله بالسلاح. وفي حين كان آخرها تلك الواقعة بمدينة تدمر في البادية السورية، حصلت قبل ذلك سلسلة استهدافات متكررة ومشابهة، وطالت هذا النوع من المنشآت في كل من القصير وحسياء وسط البلاد.
فما السر وراء تركز الضربات الإسرائيلية على المناطق الصناعية في سوريا أو كما تعرف محلياً بـ”الصنايعية”؟ وما الذي يجري فيها؟ وما موقعها على الخريطة السورية، والخارطة التي تسير بموجبها إسرائيل، بهدف قطع “الأوكسجين” عن جماعة حزب الله على حد تعبير رئيس وزرائها، بنيامين نتانياهو؟
وتضم المنطقة الصناعية في تدمر، وهي إحدى الأهداف التي ضربها الجيش الإسرائيلي، الأربعاء، محالاً لصيانة السيارات ومصانع لإنتاج معدات البناء، بالإضافة إلى ورشات مختصة في تدبيل قطع معينة لآلات المصانع، وفقا لحديث الصحفي السوري، محمد حسن العايد لموقع “الحرة”.
أما المنطقة الصناعية في حسياء بمحافظة حمص، فهي من أكبر المناطق المنتجة على صعيد قطاع الصناعة في سوريا، وتضم معمل “سابا” الإيراني-السوري لتصنيع السيارات الذي تعرض لضربتين إسرائيليتين في وقتين مختلفين، وأعلن مسؤول سوري إغلاقه قبل ثلاثة أيام.
علاوة على ذلك، كانت القصير الحدودية مع لبنان تعرضت منذ أكتوبر الماضي لعدة ضربات، طالت ثلاثة منها المنطقة الصناعية الموجودة فيها، ما أسفر عن تدمير مستودعات ومقتل قادة وعناصر من حزب الله، بحسب مراقبين تحدثوا لموقع “الحرة” وتقارير لـ”المرصد السوري لحقوق الإنسان”.
تأتي الضربات الإسرائيلية المتلاحقة على مناطق متفرقة من سوريا في وقت يقول المسؤولون في تل أبيب إنهم يسعون لقطع طرق إمداد الأسلحة عن حزب الله، والعابرة من سوريا عن طريق البر.
وفي مؤتمر صحفي مساء الأربعاء، أكد الناطق باسم الخارجية الأميركية، ماثيو ميلر، أن “توريد الأسلحة عبر سوريا إلى لبنان، كان مصدرا كبيرا لزعزعة الاستقرار في لبنان والمنطقة”، وأضاف: “وهو الأمر الذي نركز عليه بشدة”.
وتقع تدمر في منطقة صحراوية وسط البادية السورية، وتتصل من جهة الشرق مع مناطق تشهد نفوذاً كبيراً لميليشيات إيران التي تنتشر داخل المدينة أيضاً. ومنذ تاريخ السيطرة عليها من جانب الروس وقوات النظام السوري لم يسمح إلا لدفعة واحدة من سكانها بالعودة.
وكذلك الأمر بالنسبة للقصير التي ما يزال سكانها يقطنون خارجها، منذ تاريخ السيطرة عليها من قبل حزب الله وقوات النظام السوري، بعد عام 2012. كما تحظى هذه المنطقة بموقع جغرافي هام بالنسبة للجماعة اللبنانية المدعومة من إيران، كونها تحاذي الحدود مع لبنان مباشرة.
مدينة حسياء الواقعة على الأوتوستراد الدولي، الذي يربط حمص بدمشق، تعتبر مفتوحة أيضاً من جهة الشرق، وصولاً إلى البادية الصحراوية مترامية الأطراف، ومن الجهة الغربية تتصل مع جبال القلمون، والواصلة أيضاً إلى الأراضي اللبنانية.
لماذا المناطق الصناعية بالتحديد؟
يعود تاريخ الضربات الإسرائيلية في سوريا إلى ما قبل محطة أكتوبر 2023، وفي الفترة التي سبقت هذه المحطة كان الجيش الإسرائيلي يستهدف مواقعاً عدة في البلاد، ولم تقتصر على بقعة جغرافية دون غيرها.
وكان الغرض من وراء تلك الاستهدافات “التعامل مع أخطار لحظية، والتعاطي مع التغيرات التي كانت طرأت على صعيد إعادة التموضع الإيراني”، وفق قول الباحث السوري في مركز “حرمون للدراسات المعاصرة”، نوار شعبان.
لم تتغير استراتيجية إسرائيل كثيرا بعد محطة السابع من أكتوبر، دون أن يشمل ذلك الزخم والمسار المتصاعد الذي بدأت تسلكه ضرباتها.
ويعتقد شعبان في حديثه لموقع “الحرة”، أن التغير الوحيد الذي يمكن ملاحظته، يكمن في كون القوة الاستخباراتية الإسرائيلية، أصبحت تدرك أن مخزون السلاح في المستودعات بسوريا، بدأ يتحرك باتجاه حزب الله.. وبالتالي يجب استهدافه”.
في القصير وحدها، استهدفت إسرائيل خلال الشهرين الماضيين 13 مستودعاً داخل منطقتها الصناعية، أو (الصنايعية)، كما يشرح الباحث السوري.
ويقول إن الحالة التي شهدتها هذه المنطقة المحاذية لحدود لبنان، تنسحب أيضاً على حسياء وتدمر، مشيراً إلى أن “هذه المناطق الصناعية عبارة عن ورشات ومستودعات، ويتم تخزين الأسلحة فيها منذ سنوات”.
ويعتبر المحلل العسكري، العقيد السابق في الجيش السوري إسماعيل أيوب، أن “المناطق الصناعية التي يتم استهدافها بمثابة محطات على خط إمداد السلاح لحزب الله”.
على مدى السنوات الماضية، كانت إيران وميليشياتها في سوريا تركز على الطريق المار من البوكمال الحدودية مع العراق، وتشعباتها الأخرى المارة من تدمر والواصلة إلى القصير بحمص وبدمشق.
ويضيف أيوب لموقع “الحرة”، أن المناطق الصناعية تقع على هذه الطرق، وأنها تضم معامل وصناعات “مزدوجة القيمة المدنية والعسكرية”.
وتنتج المعامل والورشات الواقعة في هذه المناطق (الصناعية) أنابيب وصفائح، ويعتقد المحلل العسكري أن “هذه الأعمال يمكن استخدامها في صناعة متممات الصواريخ، سواء التي تنتج على الأرض السورية أو في جنوب لبنان”.
“بنك أهداف”
وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أعلن في كلمة له الأسبوع الماضي عن تدمير ما بين 70 إلى 80 بالمئة من قدرات حزب الله الصاروخية.
وجاء ذلك في وقت كانت تتالى التصريحات الإسرائيلية، المتعلقة بضرورة قطع طرق إمداد الجماعة اللبنانية بالأسلحة القادمة من البوابة السورية.
ولا يُعرف على وجه الدقة ما تبقى لحزب الله من مخزون يتعلق بالصواريخ وبقية الأسلحة والذخائر.
ومع ذلك تشير جميع تعليقات المراقبين والخبراء العسكريين، في تقارير سابقة لموقع “الحرة”، إلى أن الجماعة اللبنانية المدعومة من إيران باتت تعاني من شح كبير في الموارد العسكرية.
ويوضح الخبير العسكري اللبناني، العميد ناجي ملاعب، أن الضربات الإسرائيلية في سوريا “تندرج ضمن استراتيجية إسرائيل المعلنة بهدف قطع الأوكسجين عن حزب الله”.
ويقول لموقع “الحرة” إن “الجهد الإسرائيلي كقوة جوية، يبدو منفصلاً عما يجري على صعيد استخدام القوات البرية والبحرية في غزة ولبنان”، مضيفا: “القوة الجوية تعمل بشكل كثيف وهائل. الطيران يكاد لا يغادر أجواء لبنان وسوريا”.
ويبدو من خلال تكثيف الاستهدافات في سوريا، أن إسرائيل تمتلك بنك أهداف كبيرة، وكانت قد بنته طيلة السنوات الماضية، بحسب ملاعب، ويتابع: “كل ما يقومون به مبني على بنك أهداف. لا صاروخ يذهب إلا إلى هدفه”.
ومن جهته يشير المحلل العسكري السوري، إسماعيل أيوب، إلى أن وصول الصواريخ لحزب الله في هذه الفترة يكاد يكون صعباً من الناحية المباشرة (من إيران عبر العراق وسوريا).
ولذلك يعتقد أن ما يجري الآن هو “محاولة تفكيك القطع ومحاولة تركيبها في مناطق مخصصة لها في سوريا ولبنان”. بمعنى آخر “يتم تجميعها في مناطق معينة بسوريا، وبناء على المعلومات التي تصل لإسرائيل يتم استهدافها”، وفق حديث أيوب.
“المخزون يتحرك”
بالإضافة إلى المناطق الصناعية في 3 مناطق بسوريا، كانت إسرائيل استهدفت مستودعات أسلحة تابعة لجيش النظام السوري في منطقة شنشار الواصلة مع القصير، ومستودعات أخرى في منطقة السفيرة بريف حلب وأخرى تقع على الخط الواصل بين ريفي حمص وحماة.
ورغم أن هذا النوع من الاستهدافات سبق وحصل قبل 2023، يختلف مشهد حصولها من ناحية التوقيت والحجم الذي كانت عليه الضربات.
كما استهدفت إسرائيل شققاً سكنية في العاصمة السورية دمشق، ما أسفر عن مقتل قادة من حركة “الجهاد الإسلامي”. وقبل ذلك أعلنت ضرب عدة معابر، رسمية وغير رسمية، على طول الحدود بين سوريا ولبنان.
وطيلة السنوات الماضية، التي سبقت محطة السابع من أكتوبر، كان حزب الله يخزن الأسلحة في مستودعات وقطع عسكرية داخل سوريا. ورغم أنها كانت تتعرض لضربات لم تصل إلى الحد الذي تفعله إسرائيل الآن على صعيد الاهتمام والتركيز، بحسب الباحث السوري، شعبان.
ويقول شعبان: “الحال تغير الآن.. وهذا يدفعنا للقول إن إسرائيل غيّرت استراتيجيتها، بعد إدراكها أن ما يوجد في سوريا من مخزون أسلحة ومستودعات بدأ يتحرك”.
كما يضيف أن “ضرب المناطق الصناعية يصب في إطار استهداف السلاح المخزن منذ سنوات طويلة. الانفجارات الأخيرة التي حصلت في القصير تؤكد أن حجم المخزون كان ضخماً”.
“تجفيف منابع حزب الله ومصادره واستنزافه على الأرض ليس جديدا” بحسب الخبير العسكري اللبناني، ناجي ملاعب، الذي يقول إن الولايات المتحدة الأميركية تشارك في تحقيق هذا الهدف الآن.
ويوضح الخبير أنه قبل حرب غزة، كانت الاستهدافات حاضرة ضد مواقع أسلحة واردة للجماعة اللبنانية المدعومة من إيران، ويتوقع أن تتواصل الآن “سعياً من إسرائيل للحصول على المزيد من الأسلحة من الولايات المتحدة، وبهدف تأكيد نتنياهو لحاضنته أنه ما زال حاضرا، ولا يؤمن إلا بتحقيق ما بدأه على الأرض”.